البارون ديرلانجي... موسيقى في جوار مقام الولي الأندلسي

البارون ديرلانجي... موسيقى في جوار مقام الولي الأندلسي

05 ديسمبر 2020
موسيقيون عرب في لوحة منقوشة تعود إلى عام 1849 (Getty)
+ الخط -

مفتوناً بالموسيقى وباحثاً في مقاماتها وقضاياها وإشكالياتها، أنجز البارون رودولف ديرلانجي، مصنفه غير المسبوق في تاريخ الموسيقى العربية، في ستة مجلدات: موسوعة "الموسيقى العربية" (La musique arabe). درس ديرلانجي، في هذا العمل الضخم، تاريخ الموسيقى العربية، بالإضافة إلى المقامات والأوزان الإيقاعية المستعملة، كما حدد الصيغ والقوالب الموسيقية والغنائية المتداولة آنذاك، فضلاً عن ترجمة مهمة لأمهات الكتب التي تناولت النظرية الموسيقية.
ولد البارون رودولف ديرلانجي، الألماني الأصل، والفرنسي المولد، والإنكليزي المنشأ عام 1872، وتوفي عام 1932. بين التاريخين، كان كثير التردد على تونس قبل أن تسحره طبيعتها فيستقر فيها نهائياً في بداية القرن العشرين. اختار ديرلانجي قصر "النجمة الزهرة" الذي شيّده بضاحية سيدي بوسعيد، بتونس، في جبل المنار، قرب مقام الولي الصالح سيدي أبي سعيد الباجي الأندلسي، ليمارس هوايتيه المفضلتين: الرسم والموسيقى. تعلم العزف على القانون، ثم انصرف إلى البحث في تراث الموسيقى التونسية ذات الأصول الأندلسية، وكان نتاج عمله إصدار كتابه الشهير.
في خصوص مشروعه العلمي الموسيقي، يقول البارون في رسالته بتاريخ 5 مارس/ آذار 1923 إنّه شرع في تأليف كتاب حول "قواعد الموسيقى في الإمبراطورية العربية وتاريخ هذه القواعد منذ 11 سنة" وهو وما يدلّ على أنّ فكرة الكتاب والشروع الفعلي في جمع مادته يعودان إلى سنة 1912. ويحفل أرشيف البارون بكم هائل من الوثائق المخطوطة التي تبين تطور مشروع الدراسة، ومختلف المراحل التي مر فيها. 

أما الكاتب والمترجم التونسي محمد الأسعد قريعة، الذي صدر له عن مركز الموسيقى العربية والمتوسطية ومنشورات "سوتيميديا" كتاب "الموسيقى العربية" من تأليف البارون رودولف ديرلانجي، وترجمة وتعليق الأسعد قريعة، فيقول: "من خلال ما أمكننا الاطلاع عليه من هذه الوثائق، يبدو أنّ البارون كان في البداية متردداً بين دراسة الموسيقى في الإمبراطورية العربية، وقواعدها وتاريخ هذه القواعد، ودراستها في الإمبراطورية الإسلامية، بل إنّ الحدود بين المجالين لم تكن واضحة لديه بالشكل الكافي، فنجد مسودات تتناول الموسيقى المصرية القديمة، والموسيقى الصينية، والهندية، والفارسية، والعبرية، والإغريقية، بما يوحي بأنّ رأيه استقرّ في النهاية على المجال الثاني".

الصورة
موسوعة الموسيقى العربية2- العربي الجديد

في سنة 1925 دفع البارون ديرلانجي بالنسخة الثانية من الكتاب الأول من هذا المصنف إلى لويس بوانسو، الذي كان متفقداً للآثار بتونس بداية من سنة 1907، ثم مديراً لهذه المصلحة، لإبداء رأيه حولها، فكتب تقريراً من 21 صفحة مخطوطة، ضمنها العديد من المآخذ والمقترحات، من بينها عدم رضاه عن العنوان، فاقترح في مرحلة أولى إقرار "الإمبراطورية العربية" بدلاً من "الإسلامية"، مؤكداً أنّ هذا التحوير "لن يتسبب في تغيير نص الكتاب، بل على العكس، سيجنب الوقوع في التناقض". وفي مرحلة ثانية، اقترح عليه استخدام عبارة "الموسيقى العربية" التي وجدها مرضية جداً، وتتوافق تماماً مع جزء من النص. وقد استجاب البارون للمقترح الأول، فظهرت بعض المسودات التي تحمل عنوان "الموسيقى في الإمبراطورية العربية"، لكنّه سرعان ما عدل عنه إلى المقترح الثاني الذي وسم في ما بعد كامل مصنفه الموسيقى العربية.

الصورة
البارون ديرلانجي- العربي الجديد

في رحلة بحثه، انتقى ديرلانجي لهذه المهمة ثلة من كبار العلماء والموسيقيين التونسيين والمشرقيين والأجانب الذين كانوا مرجعه الأساسي في إنجاز المادة الموسيقية وجمعها وتمحيصها. ونذكر منهم من تونس، عبد العزيز البكوش (ابتداء من سنة 1915، وكان مديراً مساعداً للترجمة بإدارة الداخلية) ومحمد المنوبي السنوسي، كاتب البارون الخاص (الذي أشرف بشكل كامل على صدور الأجزاء الخمسة الأخيرة من الكتاب)، ومن فرنسا المستشرق البارون كارا دي فوا، للمراجعة، مع الاستعانة بشخصيات أدبية وموسيقية أخرى.
وقد أكد المنوبي السنوسي، في مقابلة صحافية أجريت معه سنة 1961، أنّ البارون سرعان ما تفطن إلى نباهته ودرايته الواسعة باللغة الفرنسية، فكلفه بمراجعة الترجمة التي كان أعدها لعدد من المصنفات العربية في فن الموسيقى. وأضاف أنّه لما اطلع على ترجمة هذه المؤلفات، وجدها ترجمة حرفية جافة لا فائدة ترجى منها، فقرر إعادة ترجمتها. لكنّه عندما رجع إلى الأصول العربية، وجدها تحيل إلى مصادر كان يجب الرجوع إليها، فبادر البارون بجلب كلّ مصنفات أرسطو في جميع الفنون، وتقع في نحو 40 مجلداً، وكذلك كلّ ما تُرجم من اليونانية إلى اللاتينية والفرنسية والإنكليزية. واستمرّ العمل على هذا المشروع ثماني سنوات أعاد فيها الترجمة، وأضاف بعض التعليقات والشروح اللازمة لتوضيح بعض المسائل.

الصورة
موسوعة الموسيقى العربية1- العربي الجديد

كانت ثمرة البحث والتمحيص والمراجعة موسوعة بمثابة خزان للموسيقى العربية، ومن بين ما تناول فيها كتاب الموسيقى الكبير لأبي نصر الفارابي، الذي يركز على أجزاء الصناعة الموسيقية بشقيها النظري والعملي، وكذلك الآلات الموسيقية المشهورة والإيقاعات وتأليف الألحان... وينتقل ديرلانجي بسلاسة إلى "جوامع علم الموسيقى من كتاب الشفاء" لابن سينا، و"الرسالة الشرفية في النسب التأليفية" لصفي الدين الأرموي، و"شرح مولانا مبارك شاه" لعلي الجرجاني، و"رسالة مهداة إلى السلطان العثماني محمد الثاني" للشرواني، و"الرسالة الفتحية في الموسيقى" لعبد الحميد اللاذقي.
أما في الجزء الخامس، فيعود الكاتب إلى شرح القواعد المتبعة في الموسيقى العربية في جانبها النغمي؛ وقد عنون هذا الجزء بـ "رسالة في تقنين القواعد المتبعة في الموسيقى العربية الحديثة: السلم العام للأصوات، النظام المقامي" متتبعاً السلم العام للأصوات اللحنية المستخدمة في الموسيقى العربية المعاصرة من حيث خصائصها، ومختلف الأنظمة المقترحة لضبط الأبعاد اللحنية. ويلقي الكاتب، في الجزء السادس، الضوء على الجانب الإيقاعي للموسيقى العربية.

ووفقاً للأسعد قريعة، فإنّ توفير المادة العلمية والفنية للجزأين الخامس والسادس، يرجع إلى أربع شخصيات موسيقية متمثلة في الشيخين أحمد الوافي، وخميس الترنان، بالنسبة لموسيقى شمال أفريقيا، والأستاذ إسكندر شلفون صاحب المجلة الموسيقية روض البلابل، من مصر، والشيخ علي الدرويش أحد متون الموسيقى الشرقية القديمة وعضو الطريقة المولوية في الإنشاد الصوفي بتكية القاهرة. ويمثل رصيد الرسائل المتبادلة بين إسكندر شلفون صاحب المجلة الموسيقية روض البلابل، وديرلانجي، بين سنة 1923 و1932، مصدراً أساسياً لمعرفة ظروف ومراحل تأليف الجزء الخامس من الكتاب؛ ويضم هذا  الرصيد أكثر من 450 ورقة بين مخطوطة ومرقونة (منسوخة)، بحسب ما يوضح الكاتب والمترجم التونسي محمد الأسعد قريعة.
أما محمد القرفي، وهو أستاذ بالمعهد العالي للموسيقى بسوسة، فيقول في مقال له إنّ وراء كتاب البارون قلم المنوبي بن العربي السنوسي، أول عالم وباحث في الموسيقى بالمعنى المعاصر، وذلك بعدما انتدبه سنة 1921 البارون ديرلانجي سكرتيراً خاصاً ليساعده في إعداد كتابه، وقد مكنته ملازمته للبارون طوال 12 عاماً من تعميق معرفته والأخذ مباشرة من شيوخ الموسيقى العربية وكذلك الجهابذة الذين كان البارون يدعوهم إلى قصره لجمع تراث الغناء العربي التونسي والشرقي وتدوينه والتباحث معهم في تاريخ الحضارة الإسلامية وعلومها.

المساهمون