احتلال سد المنطرة... إسرائيل تجعل المياه ذخيرة في حرب غير معلنة

25 ابريل 2025
جنود إسرائيليون قرب قرية مجدل شمس في الجولان المحتل، 27 فبراير 2025 (جلاء ماري/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في يناير 2025، استولت القوات الإسرائيلية على سد المنطرة في جنوب سورية، مما أدى إلى أزمة مياه حادة وتهديد بتحويل المنطقة إلى صحراء، مع نزوح السكان بحثاً عن حلول بدائية للبقاء.

- السيطرة على السد تعزز الهيمنة الإسرائيلية على الموارد المائية، حيث تشكل مرتفعات الجولان والقنيطرة 70% من موارد المياه العذبة بين إسرائيل وسورية، مما يزيد من تعقيد النزاعات الإقليمية.

- رغم الانتهاكات لاتفاقية جنيف الرابعة، يظل المجتمع الدولي صامتاً، ويقترح النشطاء ربط ملف المياه بمفاوضات السلام واستخدام الضغط القانوني عبر محكمة العدل الدولية.

 

في يناير 2025، حوّلت القوات الإسرائيلية سدّ المنطرة الذي يُعدّ أكبر خزان مياه في جنوب سورية، إلى نقطة عسكرية، لتستولي على المياه وتدفع السوريين إلى العطش

في قرية مهجورة على سفوح جبل الشيخ، حيث تلتقي حدود سورية مع هضبة الجولان المحتلة، تُسمع أصوات مضخات المياه تعمل ليلاً ونهاراً. هنا، عند سد المنطرة، تتحول قطرات المياه إلى ذخيرة في حرب غير معلنة. يقول المواطن أحمد الحفري لـ "العربي الجديد": "المياه هنا دمنا، والاحتلال يسرقها أمام أعين العالم".  
هذه ليست مجرد استعارة درامية. فمنذ يناير/كانون الثاني 2025، حوّلت القوات الإسرائيلية سدّ المنطرة الذي يُعدّ أكبر خزان مياه في جنوب سورية، بسعة 40 مليون متر مكعب، إلى نقطة عسكرية، بعدما استولت عليه في الثاني من يناير 2025، ومنعت الفلاحين من الاقتراب منه تحت طائلة القتل بالرصاص. ويوجد في القنيطرة ستة سدود هي المنطرة، الرويحينة، بريقة، كودنة، الهجة، بالإضافة إلى غدير البستان. ويبلغ إجمالي كميات المياه فيها 80 مليون متر مكعب. ويعتبر المنطرة السد الأهم فيها، ويستقطب أكثر من نصف مياه المحافظة التي تصب فيه.

تاريخ من السيطرة

تشكل مرتفعات الجولان والقنيطرة 70% من موارد المياه العذبة بين سورية وفلسطين المحتلة، بحسب تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي صدر عام 2022. لكن سد المنطرة، بحسب الخبير الهيدرولوجي خالد مرعي "هو القطعة الأهم في أحجية المنطقة، إذ إن موقعه على ارتفاع 1100 متر يجعله نقطة تحكّم تلقائية في تدفق المياه شمالاً نحو حوض بردى، وجنوباً نحو بحيرة طبريا".
منذ حرب العام 1967 وحتى اليوم، شكلت المياه السلاح الاستراتيجي الإسرائيلي الأول. ولم تكن هضبة الجولان مجرد أرضٍ متنازع عليها، بل هو "خزان استراتيجي" تسعى إسرائيل إلى السيطرة عليه منذ عقود.
تقول وثائق الأمم المتحدة إن 35% من موارد المياه الإسرائيلية تأتي من الجولان والقنيطرة. وعام 2019، اعترف الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الرئاسية السابقة بالسيادة الإسرائيلية على المنطقة، القرار الذي اعتبرته الأمم المتحدة "انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي". كما يشير القرار الصادر عن الأمم المتحدة رقم 242 إلى أن 60% من نزاعات الشرق الأوسط منذ عام 1967 مرتبطة بالمياه. وبحسب كتاب "الجدار المائي" 2019، فإن "السيطرة على الجولان لم تكن لأسباب أمنية فقط، بل لضمان استمرار تدفق 500 مليون متر مكعب سنوياً إلى إسرائيل".
وتظهر خريطة تدفق الينابيع تغيّراً جذرياً: 7 من أصل 12 نبعاً في محيط السد انحسر تدفقها بنسبة 70% منذ 2022، بينما زادت كميات المياه في مستوطنة نيفي أتيڤ الإسرائيلية القريبة بنسبة 40% خلال الفترة نفسها.
يقول المزارع سامي البكر من القنيطرة، لـ "العربي الجديد": "قبل دخول إسرائيل في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2024، كان نظام السدود يعتمد على تدفق مياه سد المنطرة أولاً، ثم توزيعها على الخمسة الأخرى. الآن، المشهد اختلف، فهناك أنابيب ضخمة تُمدّ نحو مستوطنات الجولان المحتل". هذه الشهادة يدعمها مهندس شاب رفض الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، مشيراً إلى أن سد الرويحينة الذي كان يعتمد على الفائض من المنطرة سجل انخفاضاً في منسوب مياهه، بزيادة على النسبة التي خسرها وتقدر بـ 34% في يناير 2023.  
من جهته، يروي المزارع عاطف قريان من قرية الهجة (التي يعتمد ري أراضيها على مياه سد المنطرة)، لـ "العربي الجديد"، كيف تحوّلت 50 دونماً من أراضيه المشجرة بالكرز والتفاح إلى أرض متشققة، لافتاً إلى أن "المياه التي كانت تصل عبر قنوات من السد انقطعت فجأة. حتى مياه الشرب ننقلها الآن بأسعار خيالية". يضيف أن "الاحتلال منع الأهالي من الاقتراب من السد بعدما ثبت نقطة عسكرية على كتفه، مهدداً بإطلاق النار على كل من يقترب".

القلعة التي سقطت

بُني السد في ثمانينيات القرن الماضي ليكون درعاً مائية لـ 120 قرية سورية، لكن اليوم، تحوّل إلى نقطة ساخنة. وتعتمد 60% من الأراضي الزراعية في القنيطرة وريف درعا الغربي على مياه السد التي باتت تحت سيطرة إسرائيل. ويقول قريان: "لو انهار النظام المائي هنا، فستصبح المنطقة صحراء خلال سنوات قليلة". 
ولم تعد أزمة المياه مجرد تحدٍّ اقتصادي، بل تحولت إلى أداة ضغط ديمغرافي. ففي قرية كودنة، تحول 90% من الأراضي الزراعية إلى بور، ما دفع عشرات العائلات إلى النزوح نحو مراكز مدينة القنيطرة، بينما تعتمد الأسر الباقية على آبار سطحية قديمة تعيد أيدي القرويين حفرها وصيانتها، رغم خطر انهيارها في أي لحظة، كما تقول أم محمد، وهي من كودنة، لـ "العربي الجديد".
رغم الحصار المائي، يبتكر السكان حلولاً بدائية للبقاء. ففي قرية بريقة، طوّر الأهالي نظاماً لتكثيف بخار الماء باستخدام ألواح بلاستيكية، تنتج 20 لتراً يومياً للعائلة الواحدة. أما المزارعون، فيحفرون آباراً غير قانونية بعمق 200 متر، رغم المخاطر الجسيمة. ويقول أحمد، وهو في العشرينيات من العمر: "نخاطر بحياتنا لنشرب".  
هذه المعاناة ليست نتيجة طبيعية للندرة، بل مخطط مدروس، كما تؤكد الناشطة روان العلي. وتشير إلى أن الجيش الإسرائيلي يستخدم التهديد بفيضان السد سلاحاً نفسياً لإجبار السكان على النزوح، في إطار ما وصفته بـ"حرب التطهير العرقي المائي". 

سوريون يتظاهرون ضد نتياهو في القنيطرة، 24 فبراير 2025 (بكر القاسم/الأناضول)
سوريون يتظاهرون ضد نتياهو في القنيطرة، 24 فبراير 2025 (بكر القاسم/الأناضول)

صمت دولي 

تنتهك إسرائيل اتفاقية جنيف الرابعة (المادة 54) التي تحظر تدمير المرافق المدنية الأساسية، هي التي حوّلت سد المنطرة إلى منشأة عسكرية مغلقة، تمنع السكان من الوصول إليه تحت تهديد السلاح. لكن المجتمع الدولي، خصوصاً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يتجاهلان هذه الانتهاكات. ويعرقل المندوب الأميركي أي قرار يدين إسرائيل في مجلس الأمن بحجة "الحق في الدفاع عن النفس"، بينما يتجنب الاتحاد الأوروبي، الذي يستورد 12% من غازه من إسرائيل، انتقادها. 
الحلول التقنية مثل تحلية مياه البحر أو معالجة المياه العادمة تبقى محدودة الفعالية من دون تمويل دولي. لكنّ نشطاء مدنيين وحقوقيين من القنيطرة يرون أن المفتاح يكمن في ربط ملف المياه بمفاوضات السلام. فكما أظهرت اتفاقية كامب ديفيد (1979) أهمية المياه في التفاوض، يمكن لسورية استخدام ورقة الضغط القانونية عبر محكمة العدل الدولية، بالاستناد إلى مبادئ "قانون المياه الدولي" الذي يُجرّم استخدام الموارد المائية سلاحاً. وفي الوقت نفسه، تُظهِر حملات التوعية المجتمعية نجاحاً نسبياً في ترشيد الاستهلاك، رغم شح الموارد.

ملحق سورية الجديدة
التحديثات الحية

ويرى الناشط إبراهيم المحاسنة أن استيلاء جيش الاحتلال الصهيوني على المياه والسدود المائية في القنيطرة ليس مجرد انتهاك عابر، بل ضربة موجعة لشريان الحياة في جنوب سورية. يضيف في حديثه لـ "العربي الجديد"، أن السدود التي تعتبر أكبر مخزون مائي في المنطقة، لم تكن تروي أراضي قرى أم باطنة وأم العظام والصمدانية الغربية وريف درعا الغربي فحسب، بل كانت رمزاً لبقاء مجتمعات زراعية تُصارع منذ سنوات ويلات الحرب والجفاف. واليوم، تحوّلت هذه الموارد الحيوية إلى أداة ضغطٍ استراتيجية في يد الاحتلال، تُفاقم أزمة الغذاء وتُذكّرنا بأن حروب المياه ليست خرافاتٍ من الماضي، بل واقع يُخطّط له بدم بارد.  
ويشير المحاسنة إلى أن هذه الخطوة ليست منفصلة عن سياقها التاريخي. فمنذ احتلال الجولان السوري عام 1967، ظلّت المياه في صلب المشروع الصهيوني التوسعي، جزءاً من استراتيجية مُمنهجة لتحويل المياه سلاحاً للهيمنة، مستشهداً بمقولة ديفيد بن غوريون (أول رئيس وزراء لإسرائيل)، إن مصير إسرائيل يتوقف على معركة المياه ضد العرب. ويرى أن تأكيد هذه الرؤية يتجسد عبر سيطرة الاحتلال على السدود.
ويؤكد أن ذلك لا ينفصل عن خريطة الأطماع الممتدة من النيل إلى الفرات، مشيراً إلى أن إسرائيل تُحاول توظيف ندرة المياه لفرض هيمنتها واختراق السيادة السورية. ويسأل: "هل تدرك الحكومة أن احتلال سدٍّ في القنيطرة هو جرس إنذارٍ لمستقبل كارثي؟ آن الأوان لتفعيل استراتيجية لمواجهة ذلك بدءاً من دعم المزارعين السوريين في مواجهة الجفاف المُفتعل، مروراً بمراقبة التحركات الصهيونية، وصولاً إلى مقاضاة الاحتلال دولياً لاستخدامه المياه سلاح حرب".  

المساهمون