استمع إلى الملخص
- استخدم حزب البعث كتب التاريخ المدرسية لنشر سردية جديدة، مما أدى إلى أجيال تفتقر للوعي التاريخي وتعتمد على أيديولوجيا قومية متطرفة، مما أسفر عن وطنية هشة تركز على دمشق وتهمش الأطراف.
- هناك دعوة لعقد مؤتمر لإعادة كتابة التاريخ الرسمي، بهدف تحقيق هوية وطنية جامعة وتوثيق الأحداث التاريخية المؤلمة مثل مجزرة 7 مارس.
معظم السوريين لا يعرفون تاريخ بلادهم معرفة جيّدة، هذا معلوم لكثيرين، وهذا ما أثبتته السنوات الـ 14 الماضية. لكن لماذا هذا الجهل بالتاريخ؟
تكمن الإجابة في الطريقة التي صيغت فيها الرواية الرسمية لتاريخ البلاد، وذلك خلال مرحلتين، الأولى كانت خلال فترة الانتداب الفرنسي إلى ما بعد الجلاء في 1946، والثانية فهي حقبة انقلاب البعث واستلامه مقادير البلاد منذ 1963. ففي المرحلة الأولى كان الآباء المؤسسون ومعهم جيل الروّاد من المثقفين السوريين أمام امتحان ما تسمى عمليّة "بناء الأمّة"، ومن أبرز ما تتطلّبه هذه العمليّة انتاج الرواية الرسمية عن تاريخ البلاد، بما فيها من أحداث وأبطال وملاحم وأساطير في أحيان كثيرة، الأمر الذي يؤدي إلى تشكيل الهويّة الوطنيّة التي تجمع الأفراد المنتمين إلى وحدة ترابية محدّدة. وكان الامتحان صعباً، فقد ورث الجيل المؤسس كياناً سياسياً كان ما يزال جديداً في حدوده ولم يكتمل تماسكه، نتيجة السياسة الاستعمارية الفرنسية التي كرّست الانقسامات بين المناطق والجماعات السورية على أكثر من مستوى، فضلاً عن أنّ سورية كانت وقتها محلّ تنازع بين عدّة مشاريع في المنطقة أبرزها المشروع الهاشمي، بشقّيه العراقي والأردني.
كان الجيل المؤسس وقتها بحاجة إلى وقت يساعده على التأمّل في تاريخ البلاد الوليدة، خاصّة وأنّه لم يكن قد تخلّص يومها من ثقل مركزيّة دمشق، وإهماله لغيرها من المدن وللأطراف، فضلاً عن عدم عنايته بمسألة الأقليات في البلاد. وفي النهاية، لم يُتح له هذا الوقت، إذ دخلت البلاد في دوّامة الانقلابات وصولاً إلى حكم حزب البعث، وبهذا بقيت السرديّة بُني عليها تاريخ سورية فقيرة، تستند على أفكار العروبة والارتباط بأمجاد الحضارة العربية الإسلامية، وهي سرديّة ضاعت فيها سوريا الدولة أو الكيان، خاصّة مع الخطأ الفادح المتمثل في القطيعة مع التاريخ العثماني الذي ظهر فيه اسم سورية رسمياً أول مرة في التاريخ في 1865.
ومع انقلاب "البعث" في 1963، لم يكتفِ البعثيون في تكريس القطيعة مع التاريخ العثماني، بل أضافوا إليها قطيعة مع كلّ التاريخ الذي سبق وصولهم إلى السلطة، وكانت أداة هذا التجهيل الأساسية كتاب التاريخ المدرسي، إذ كان قرار إلغاء العمل بكتب التاريخ السابقة من أوّل قرارات "البعث". وقصّة كتاب التاريخ المدرسي في سورية طويلة، خاصة وأنّ سورية نفسها لم تكن موجودة ككيان عندما انفصلت الولايات العربية عن السلطنة العثمانية. وهذه كلّها إشكالات وجدها نظام عائلة الأسد في بداية عهده، لكنها كانت نعمة له لا نقمة، فقرّر متسلحاً بالقمع، ومن دون تردّد أن يكتب للأجيال الجديدة تاريخه هو لا تاريخ الدولة، فتاريخ البلاد يبدأ معه، وما سبق من فوضى استعمارية أحاله على الهامش محتفظاً بالقليل من عناصره، وبهذا ولدت مقولة "سوريا الأسد".
والنتيجة كانت انتاج أجيال منقطعة عن الماضي القريب، ومشوّهة بوعيها الوطني عبر أيديولوجيا متطرفة وإقصائية تمجّد العنف وتُضخّم الذات القوميّة من دون أساس، وبهذا نشأت وطنية سورية هشة ومشوّهة تستند في مخيلتها الجماعية على سوريا المفيدة ومركزها دمشق، وهي وطنية فوقية ومتعالية أحياناً.
هذه مناسبة للدعوة غلى قامة مؤتمر عام يجمع كلّ أساتذة التاريخ في سورية، ليعيدوا كتابة التاريخ الرسمي للدولة، وهذا استحقاقٌ لا يقلّ عن أولويات الاقتصاد وإعادة الإعمار وغيرهما، وهو استحقاق لا يجب انتظار أي حكومة للدعوة إليه وتنظيمه، فمن مهام هذا الاستحقاق إيجاد هويّة وطنيّة جامعة والوصول إلى المواطنة، وترميم وحدة الشّعب التي اهتزّت في مجزرة 7 مارس (في الساحل السوري) الذي بات يوماً علينا تدوينه في صفحات التاريخ ولا ننساه.