إخلاء مدينة غزة... مصير مجهول ونزوح نحو الموت

10 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 15:45 (توقيت القدس)
عائلة فلسطينية تغادر مدينة غزة، 10 سبتمبر 2025 (عمر القطاع/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يعاني سكان غزة من وضع إنساني معقد بسبب قرار الاحتلال الإسرائيلي بإخلاء المدينة، مما أدى إلى نزوحهم إلى مناطق تفتقر إلى مقومات الحياة الأساسية، مثل منطقة مواصي خانيونس التي تتعرض للقصف المستمر.

- يواجه الأهالي صدمة إضافية بسبب الإخلاء، حيث يعيشون في ظروف صعبة مع نقص الخدمات الأساسية وازدحام المناطق المستقبلة، مما يفاقم التحديات الصحية والاقتصادية.

- يعكس الإخلاء تدميرًا لمحاولات استعادة الحياة الطبيعية، حيث يعيش السكان في دائرة مفرغة من الألم والتشرد وسط صمت دولي، مما يؤثر على نفسيتهم ويزيد من يأسهم.

يعاني سكان مدينة غزة من وضع إنساني معقد فاقمه قرار الاحتلال الإسرائيلي إخلاء المدينة بالكامل، والعمليات العسكرية الجارية فيها.

يعيش أهالي مدينة غزة وعشرات آلاف النازحين إليها حالة من الإرباك والفوضى العارمة منذ إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي إخلاء المدينة بالكامل، ودعوة سكانها للتوجه نحو الجنوب، خصوصاً إلى منطقة مواصي خانيونس التي يزعم الاحتلال أنها "منطقة إنسانية"، رغم افتقارها إلى أدنى مقومات المعيشية، إلى جانب تكرار تعرضها للقصف والاستهداف.
وأصبح سكان مدينة غزة مضطرون إلى النزوح مجدداً، بعد أشهر قليلة على عودة مئات آلاف الأسر من محافظات الوسط والجنوب، والبدء في إعادة ترتيب حياتهم رغم حجم الدمار الذي طاول مساكنهم، لتشكل ملاذاً مؤقتاً لعائلاتهم، وبذل كثيرون جهوداً كبيرة في إعادة تأهيل المنازل، أو نصب خيام إلى جوار المتضرر منها، في محاولات يائسة للثبات في أرضهم. لكن هذه المحاولات التي كانت مبعث أمل، اصطدمت بقرار الإخلاء الذي يهدف إلى محو كل ما تم بناؤه من جديد، عبر اعتبار مدينة غزة "منطقة قتال خطيرة".

ويمثل قرار الإخلاء الإسرائيلي صدمة إضافية لأهالي مدينة غزة المنهكين من طول أمد الحرب، وتكرار النزوح، وصعوبات الحياة اليومية، والذين لم يتعافوا بعد من تبعات النزوح السابق إلى الجنوب والوسط، والعودة إلى المدينة عقب اتفاق وقف إطلاق النار في يناير/ كانون الثاني الماضي، ليجدوا منازلهم مهدمة، جزئياً أو كلياً.

يمثل قرار الإخلاء صدمة إضافية لأهالي مدينة غزة المنهكين من طول أمد الحرب

تقول الفلسطينية أمل مهنا (32 سنة)، وهي أم لثلاثة أطفال، إنها تنفست الصعداء بعد عودتها من مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، بعد أشهر من العيش في خيام لا توفر للدفء أو الخصوصية. وتضيف لـ "العربي الجديد": "لقد فقدنا كل شيء، وكنا نأمل أن نعيد بناء ما دمرته الحرب، والآن يأتي هذا القرار ليطردنا من المدينة مجدداً. إلى أين نذهب؟ لا نملك مالا، ولا مكاناً نستطيع النزوح إليه، ونحن قلقون على أطفالنا الذين تعبوا كثيراً من تكرار التنقلات، وطول العيش في ظروف صعبة. أخشى من عدم القدرة على العودة مجدداً إلى بيتي الذي حاول زوجي ترميمه قدر المستطاع خلال الأشهر الماضية، وأمل الاستقرار بدأ يتضاءل شيئاً فشيئاً".
بدورها، تؤكد الفلسطينية سهير عبد الباري (42 سنة) لـ"العربي الجديد"، أن "النزوح الأخير كان صعباً، فالمواصلات غير متوفرة، وغلاء المعيشة يتزايد، وكل الأماكن مزدحمة، وكنت أعيش حالة انتظار دائمة رفقة أسرتي المكونة من خمسة أفراد. حين تمكنا من العودة إلى مدينة غزة، نصبنا خيمة إلى جانب بيتنا المهدوم، وعشنا حياة صعبة، لكننا اليوم مطالبون بأن نترك كل شيء مجدداً، بينما الجنوب لا يتسع لنا، والخدمات هناك معدومة، لكننا مجبرون على النزوح".
وتعاني المناطق الجنوبية التي يفترض أن تستقبل موجات النزوح الجديدة من مدينة غزة، من ازدحام شديد، سواء في المدن والبلدات، أو مخيمات النزوح، أو مراكز الإيواء المؤقتة، ويفتقر عشرات آلاف النازحين إلى مساحات للسكن، وتزداد معدلات الفقر والبطالة بسبب نقص الفرص الاقتصادية، مع غياب مراكز صحية كافية، ويواجه السكان تحديات صحية خطيرة، خصوصا الأطفال وكبار السن وذوي الأمراض المزمنة.

سيارة صغيرة تحملهم مع متعلقاتهم، مدينة غزة، 10 سبتمبر 2025 (عمر القطاع/ فرانس برس)
سيارة صغيرة تحملهم مع متعلقاتهم، مدينة غزة، 10 سبتمبر 2025 (عمر القطاع/ فرانس برس)

ويضع هذا الواقع المأساوي الجميع أمام تحديات كارثية لا تقل قسوة عن التهجير نفسه، فالجنوب يفتقر إلى البنى التحتية الأساسية، ويندر فيه الماء، وتغيب الكهرباء، ولا وجود تقريباً للمراكز الصحية والمؤسسات التعليمية، كما أنه ليس آمناً بالمرة، مثل بقية مناطق قطاع غزة.
بدأ الفلسطيني خالد الشرفا (37 سنة) تجهيز متعلقاته الأساسية تحضيراً للنزوح الجديد، ويقول لـ "العربي الجديد" إنه لم يشعر بلحظة راحة منذ بداية الحرب بفعل النزوح المتكرر، وحتى بعد عودته من الجنوب إلى مدينة غزة، إذ يلازمه شعور بالقلق ناتج من تواصل الحرب.
ويبين الشرفا أن "الفترة الماضية كانت قاسية بسبب زيادة حجم الدمار، وتعمد الاحتلال تدمير البنية التحتية، وانعدام الخدمات، بينما عمل الأهالي على إصلاح الأضرار بالقدر المستطاع، وترتيب حياتهم وفق ما يتوفر، بينما يعد القرار الجديد بإخلاء مدينة غزة بمثابة حكم بالإعدام الجماعي. لا أطيق معاودة النزوح نحو بيئة تفتقر إلى كل شيء، لكننا مجبرون بفعل التهديدات المتواصلة، إلى جانب استمرار القصف والمجازر والأحزمة النارية واستهداف الأبراج، وهذه بمجملها عوامل تجعل الحياة مستحيلة داخل مناطق المدينة المهددة بالكامل".
ويؤكد الفلسطيني جهاد السعدي (28 سنة) أنه لم يتخيل بعد عودته إلى مدينة غزة أنه سيعاود النزوح من جديد، وقد ذاق مرارة النزوح في مختلف المحافظات الوسطى والجنوبية، والتي لم تكن آمنة بالقدر الذي يروج له الاحتلال. ويشير إلى أنه لا يريد الخروج من مدينة غزة، لكن خوفه على والده ووالدته يجبره على ذلك، إذ لا يمكنه المجازفة بحياتهما، خاصة وأن والدته بحاجة إلى رعاية صحية متواصلة بفعل إصابتها بمرض السكري، ويخشى أن يتم تشديد الطوق حول المدينة كما حصل خلال الأشهر الأولى للحرب".

ويقول السعدي لـ "العربي الجديد": "بيت العائلة انهار نتيجة القصف، ولم نتمكن من بناء شيء، وقمنا بتغطية الجدران الباقية بالشوادر كي تؤوينا. عشنا في الجنوب لعدة أشهر، في ظروف بائسة للغاية، خاصة في الشتاء مع قلة التدفئة، وعندما عدنا إلى مدينة غزة، شعرنا ببعض الأمان، لكن قرار الإخلاء يجدد فينا شعور اليأس، وأننا لسنا سوى أرقام في لعبة سياسية".
ولا يقتصر قرار الإخلاء على التهجير الجسدي للسكان، بل يشمل تدميراً شبه كامل لأية محاولة استقرار، أو استعادة الحياة الطبيعية، فمع استمرار العدوان تتكرر المشهاد ذاتها، وتزداد معاناة الناس في كل مرة يُجبرون فيها على النزوح، وسط نقص حاد في الخدمات والبنية التحتية، ومعاناة لا تنتهي، ووسط صمت دولي مطبق.
ويعيش سكان غزة في ظل هذه الظروف داخل دائرة مفرغة من الألم والتشرد، إذ لا يجدون مكاناً آمناً للنزوح، ولا وقتاً كافياً للتعافي، ويبرز السؤال الكبير: "كيف يمكن للناس أن ينهضوا من جديد بينما الأمل يتراجع تحت وطأة قرار الإخلاء القسري والظروف المعيشية القاسية".
وتؤثر هذه الحالة من الإرباك على النفسية العامة للأهالي، والذين جربوا النزوح المتكرر، وعدم الاستقرار، والخوف من المصير المجهول، ما خلق حالة من اليأس بينهم، خاصة لدى العائلات التي فقدت الأفراد والممتلكات، والتي كانت تحاول فقط أن تعيد ترتيب سبل حياتها. 

المساهمون