استمع إلى الملخص
- تعلو أصوات جديدة تدعو لإعادة بناء الوطن رغم التحديات، حيث تتنوع السرديات والمظلوميات، مما يعكس الحاجة إلى الحوار والتفاهم لتجنب تهديد الوحدة الوطنية.
- الحل يكمن في تحقيق العدالة الانتقالية وتطبيق القانون لتحقيق الديمقراطية والمساواة، مما يتطلب جهوداً مشتركة لإعادة بناء الوطن وضمان مستقبل أفضل للسوريين.
تمضي صباحاتنا الخالية من الفوبيا الأسديّة، إنّما واقع الحال المأزوم في جهاتنا السوريّة كلّها، والدامي ما زال هنا، وهناك، يصفعنا بالسؤال: هل سنتعافى فعلاً؟
يقول جورج أورويل في روايته "1984": "لن يثوروا حتّى يعوا، ولن يعوا حتّى يثوروا". لستُ هنا في صدد تحليل سيرورة ما حدث، ولا تذكّر ما فعله الأسدان بالبلاد والعباد، خاصّة الابن الساقط، الذي سار على نهج والده، في ترتيب سلطته بإحكام، اختار حاشيته من سفلة الأطياف كلّها. اغتال الأحزاب الثوريّة، وقتل ذوي العقول المبدعة أو هجّرهم، وحاصر من بقي في البلاد، شدّد الرقابة على حرّية التعبير، ودجّن الإبداع والفنّ. كتم أصوات الاحتجاجات، وفتح أبواب المعتقلات.
وللاستبداد درجاتُه، يقول الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع العباد": "كلّما كان المستبدّ حريصاً على العسف، احتاج إلى زيادة جيش المتمجّدين العاملين له والمحافظين عليه، واحتاج إلى الدقّة في اتّخاذهم من أسفل السافلين الذين لا أثر عندهم لدين أو وجدان". وتحضرني هنا عبارة كُتبت على قبر أحد الطغاة: "قُلْت للطاغية، أنت سبب المحنة الدامية لا الحاشية".
يحكم المستبدّ بالتخويف والترويع، يعلّق على جدران بيوت المواطنين عبارة "الأخ الأكبر يراقبك"، تبعاً لجورج أورويل. فما من بلاد حكمها الاستبداد إلّا قتلها وهم أنّ للجدران آذاناً. إسكات الشعب ضرورة لاستمراريّة السلطة، فالسلطة للمستبدّ هي الغاية لا الوسيلة، فيشتدّ القمع والظلم. تحاصر الجميع، من يواليها ومن يعارضها، لكلّ حسابه، وبدهاء ومكر، لا توفّر أي سبيل، لإبقاء الحال على ما هو عليه، لحماية سلطتها وحسب، تحيطها الحاشية بسور منيع، لتأمين ديمومة عرشها.
وإذاً، ها قد عادت أصوات تعلو تنادي لبناء الوطن الحطام، أصوات انتعش حلمها ثانية، بعد مواتها قمعاّ، وتهميشاً، إفقاراً وحرماناً، قتلاً وتهجيراً. إنّما تعلو من بينها أصوات تقول باستقواء: "أنتم مندسّون... أين كنتم من قبل؟"، لتعود لغة الإقصاء، والشبّيحة الجدد. يحلّ الصراخ، وينتفي الإصغاء.
وما قد يثير السخرية السوداء أن يوجّهوا السؤال ذاته إلى مناضلين ثوار مشهود لهم، وإلى سجناء سابقين، وإلى كتّاب ومبدعين، كلّفهم طلب الحريّة الأثمان الباهظة. فعلاً، جرأة الجاهل مقتل.
يقول جورج أورويل، في الرواية نفسها: "الولاء يعني انعدام التفكير، بل انعدام الحاجة للتفكير. الولاء هو عدم الوعي".
لا شكّ، إطلاقاً، في محبّة أحد منّا أو خوفه على سوريّتنا، وبحقّه القانوني المشروع بالمشاركة في إعادة بناء الدولة، فثمّة أصواتٌ تعلو في الساحات العامّة، أو عبر المدوّنات على وسائط التواصل الاجتماعيّ، بينها أصواتٌ مثقّفة عارفة ومدركة، وأخرى بسيطة جاهلة، لكلّ منها مظلوميّتها، تتعدّد المظلوميّات بعدد أطياف المجتمع وتنوّعها، تتقاطع السرديّات وتتصادم، على اختلاف توجّهاتها الفكريّة والسياسيّة، العقائد والتقاليد، تنسجم المطالب أو تختلف. إلى هنا، يبقى الأمر إيجابيّاً، بل ضروريّاً. إنّما أن يصل ببعضهم الاختلاف إلى حدّ التطرّف، يصرّون على تكذيب سرديّات الآخرين ونكران الظلم الذي عانوه، وقد تجاوز بعضهم تكذيب مظلوميّات الآخرين ونكرانها، إلى نكران حقّ وجود هذا الآخر المختلف إلى جانبهم والعيش معاً تحت سقف الوطن الواحد والهويّة. ليدقّ الخطر، مجدّداً، أجراس الإنذار.
بلى، جميعنا في خطر، نحن السوريّين المنهكين جميعنا، هنا تاريخنا، حاضرنا والمستقبل. ولن ينقذنا سوى تحقيق العدالة الانتقاليّة، تطبيق القانون، ومحاكمة المجرمين جميعاً، السابقين، والحاليّين، وتحقيق الديمقراطيّة، المساواة والتشاركيّة بين الأطياف كلّها، لعودة الأمان والسلم الأهلي في وطن جامع، وهويّة وطنيّة موحّدة.
أتُرانا ننجو، ونتشارك في إعادة بناء حطامنا الدامي ما يزال؟