أطباء إنسانيون... أقوى من ضغوط الشمال السوري

أطباء إنسانيون... أقوى من ضغوط الشمال السوري

06 نوفمبر 2021
أطباء الشمال السوري في مواجهة كورونا بعد الحرب (عمر حاج قدور/ فرانس برس)
+ الخط -

في خلال أكثر من عقد من عمر الثورة السورية، استهدف النظام الكوادر الصحية خصوصاً الأطباء. ورغم وجودهم اليوم في مناطق شمال وشمال غربي البلاد التي تُعَدّ آمنة نسبياً، ما زال الأطباء يخشون من استهداف النظام لهم، ويعملون وسط ضغوط فرضتها عليهم مستجدات الواقع الصعب السائد، والذي أجبرهم على التخلي عن نمط حياة سابق مريح نسبياً لهم.
يخبر مدير الصحة في محافظة إدلب الطبيب سالم عبدان "العربي الجديد" بأن "المنطقة غير الخاضغة لسيطرة النظام تعاني من نقص في عدد الكوادر إذ إن 850 طبيباً فقط يعملون فيها، ويتنقلون بين أماكن عدة، ما يمثل عدداً قليلاً جداً مقارنة بعدد السكان الذي يتجاوز ستة ملايين. وهم ينتظرون في المرحلة التالية قطف ثمار إجراءات مستقبلية تشمل فتح كليات للطب ستساعدهم في تأدية مهماتهم وتقديم خدمات أفضل". ويؤكد عبدان أن "الضغوط التي يتعرض إليها الأطباء لا تختلف عنها لدى باقي أفراد المجتمع الذين يتأثرون سلباً في العيش على أرض حروب، والنقص في التعليم وقلة الأمان، ويزيدها استهداف قوات النظام المستشفيات، والخوف من انتقال أمراض وأوبئة، وتوفر كوادر صحية قليلة لا تتناسب مع الكثافة السكانية في المنطقة".

وفيما تخوض الكوادر الطبية منذ فترة معركة شرسة مع تفشي فيروس كورونا الجديد شمال غربي سورية، مع التزامها بذل قصارى جهدها لإنقاذ أكبر عدد من الناس، يقول عبدان: "نطبق مبدأ الإنسانية والتفاني في علاج أهلنا في شمال غربي سورية والمناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام، بعدما اضطلعنا بدورنا في محاولة إنقاذ الجرحى في خلال الحرب. ونحرص على مساندة مهمة استجابة المستشفيات في إدلب وشمال غربي سورية لمتطلبات توفير الخدمات الصحية للناس، ونتمسك بتأدية واجباتنا الإنسانية كاملة بغض النظر عن أي ظرف، مع الحرص على أن تشمل جميع المستضعفين من نساء وأطفال ونازحين". ويتابع عبدان أن "تخفيف الأعباء عن المستشفيات لا ينحصر بالجهود التي تبذلها مديرة الصحة في إدلب والكوادر العاملة فيها، إذ يجب زيادة عدد هذه المستشفيات وتحسين بنيتها التحتية، وزيادة عدد أطبائها، إلى جانب تعزيز الاستقرار ومعالجة مشاكل الوضع المادي للناس، وإنهاء الحرب الذي يتطلب تنفيذ إجراءات سياسية".

تضحيات
ويشرح المنسق الطبي في منظمة "بنفسج" وسيم باكير لـ"العربي الجديد" أن "الأطباء يواجهون، وسط ضعف الإمكانات غالباً، ضغوط التعامل مع عدد هائل من المراجعين سواء في المستشفيات أو المراكز الصحية، أو تلك المستخدمة في إجراءات العزل الخاصة بوباء كورونا. وشخصياً أفتقر منذ فترة إلى الجلسات العائلية مع أسرتي وأهلي وحتى أصدقائي بسبب تفشي الفيرس، علماً أن الأطباء جميعهم لم يتوانوا عن تقديم أكبر جهد ممكن في تعاملهم مع حالات كثيرة، كما ضحى كثيرون منهم بحياتهم خلال عملهم تحت القصف. وأقترح اليوم إنشاء مزيد من المستشفيات المتخصصة لمعالجة المصابين بكوفيد- 19 أو تنفيذ جراحات أو تقديم خدمات داخلية مختلفة. كذلك يستدعي النهوض بالقطاع الصحي توفير بيئة مناسبة وصحية لأفراد المجتمع، وإيفاد أطباء من ضمن بعثات إلى الخارج من أجل تطوير مهاراتهم".

الصورة
جهد كبير في التعامل مع حالات مخيمات النازحين (إبراهيم يوسف/ فرانس برس)
جهد كبير في التعامل مع حالات مخيمات النازحين (إبراهيم يوسف/ فرانس برس)

مهمات لا تنتهي
ويعزو منسق شبكة الإنذار المبكر في منطقة درع الفرات، محمد الصالح، في حديثه لـ"العربي الجديد"، الضغوط التي يعاني منها الأطباء، إلى "استمرار النظام في قصف واستهداف المراكز الصحية والمستشفيات وكذلك المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة، وقلة عدد الكوادر إثر مغادرة عدد من أفرادها المنطقة، ما يجعل كل المستشفيات والمراكز الصحية تعمل بالحد الأدنى من أجل تدبير مستلزمات الحياة الأساسية فقط، علماً أن العوائق الكبيرة التي تواجه توفير خدمات طبية متقدمة تحتم تحويل حالات لمعالجتها في خارج سورية، في تركيا مثلاً".
ويؤكد الصالح أن انتشار الفيروس زاد الضغوط على الكوادر الطبية، مشيراً إلى أن "عدد المستشفيات التي تتعامل مع الوباء قليل مقارنة بعدد المصابين يومياً والذي ناهز الألف خلال الأسبوعين الأخيرين، ما حتم معاينة الأطباء عدداً كبيراً من المرضى عرضوهم للفيروس في شكل كثيف، ما تسبب في وفاة اثنين منهم أحدهما مدير مستشفى في منطقة دارة عزة". يضيف الصالح: "نعمل بكوادر قليلة منذ عام 2013، وفي مستشفيات غير مجهّزة بغرف طوارئ، خصوصاً تلك الميدانية التي تعتبر أكثر استهدافاً على غرار العيادات الخاصة التي يصنفها النظام مراكز لمعالجة إرهابيين. وشخصياً، مارست مهماتي فور تخرجي في ثلاثة مواقع مرة واحدة هي مركز تركمان بارح ونقطة رشاف الطبية ومستوصف صوران، فيما كان ينتظر مرضى عودتي إلى القرية التي أسكن فيها. وتسبب ذلك في معاناتي مثل أطباء آخرين من انعكاسات سلبية على الصحة وأوقات الفراغ والحياة الاجتماعية والعائلية. أما حالياً فيمكن القول إن الأمور أفضل قليلاً، خصوصاً على صعيد عدد الأطباء، بعدما خرّجت جامعات في المنطقة دفعة منهم في العام الماضي، لكن لا بدّ من معالجة معاناتهم من عقدة نقص ترتبط، بحسب المستشفيات، بعدم تخرجهم من مراكز تعليم تحظى باعتراف دولي، ما يجعل بعضها يفضل تعيين خريجين من جامعات في مناطق النظام".

الصورة
أطباء الشمال السوري أكتسبوا خبرات خلال الحرب (زين الرفاعي/ فرانس برس)
أطباء الشمال السوري اكتسبوا خبرات خلال الحرب (زين الرفاعي/ فرانس برس)

ويشير الصالح إلى أن "خسارة كوادر طبية كثيرة وتدمير عدد كبير من المستشفيات جعل الناس يتفادون الاقتراب من المستشفيات باعتبارها أهدافاً مماثلة للمقار العسكرية، علماً أن النظام دمّر معظمها في الريف الغربي، ومنها في منطقة حور ودارة عزة، وكذلك في حلب المدينة. وترافق ذلك مع اعتقال أطباء كُثر ما زال مصير بعضهم مجهولاً مع عدم استبعاد تصفية عدد منهم. والأطباء وأفراد الكوادر الطبية الذين يعملون في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام اليوم مستهدفون من النظام الذي يعدّهم مثل عسكريين في الثورة". ويلفت الصالح إلى أن "تخفيف الأعباء عن الأطباء في المرحلة المقبلة يستدعي جعل المنطقة آمنة كي تستقطب الأطباء المهاجرين الذين غادروها، وإنهاء حال الفوضى فيها التي تمنع التقدم، وتكريس الأمان وتحسين وضع المراكز الصحية، علماً أن القدرات العاملة حالياً تملك خبرات لا يمكن اكتسابها في خلال 40 عاماً، بسبب عملها في خضم الحرب".

"عُقد" كورونا
ويؤكد الصالح أن "ضعف الالتزام بتدابير الوقاية من فيروس كورونا الجديد وتعثر عملية التحصين زادا عدد الوفيات والضغوط على المستشفيات ومراكز العزل، بالتالي على العاملين في القطاع الطبي والأهالي الذين اتّهم بعضهم الأطباء بعدم فعل شيء". ويوضح الصالح أن "مرافقي المرضى لم يتقبلوا عدم توفر أماكن في المستشفيات، وحمّلوا وزر ذلك إلى الأطباء وإدارات المنشآت الصحية بالإضافة إلى وزارة الصحة في الحكومة السورية المؤقتة، متجاهلين واقع النقص في التجهيزات، وتدني عدد الأطباء بسبب قلة الرواتب التي تحتم حصر العاملين في أبناء المنطقة الذين ينشدون خدمة الناس بالدرجة الأولى بعيداً عن مكاسب مالية".

ويربط الصالح النهوض بالقطاع الصحي "بتوفير الأمان وتجهيز المستشفيات بالكامل كي تقدم خدمات نموذجية تليق بالمستوى المطلوب لدولة، حتى لو كنا نعمل فعلياً ضمن شبه دولة تخضع لسلطة مختلفة، وتنظيم عمل الأطباء والممرضين وجميع العاملين في القطاع الحيوي ونقاباتهم، ما سوف يجعل العمل أفضل ويؤكد قيمة التخلص من حكم النظام وطيّ صفحة التداعيات السلبية للقصف والتهجير اللذين طاولا المنطقة، وأثرا على خدماتها في مختلف القطاعات وعلى سكانها الذين عانوا من أهوال قمع لا حدود له خلّف جروحاً لا تمحى في مسارات حياتهم ونفوسهم المجبولة بالآلام والخوف من المستقبل". ويكمل الصالح: "في السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أن استمرار قيام مخيمات النزوح يشكل عبئاً كبيراً على الخطط المستقبلية لتغيير الواقع القائم والخروج من مآسي الحرب، إذ يجب أن يعود النازحون إلى مناطقهم، ووضع حد لظروف عيشهم السيئة جداً والتي لا شك في أنها تتسبب في ضغوط كبيرة على القطاع الصحي المعني بشكل مباشر بتداعيات الوضع المجتمعي السائد، وأيضاً بمستقبله".

المساهمون