أشرف القيسي يضحّي بمنزله من أجل إنقاذ جيرانه

أشرف القيسي يضحّي بمنزله من أجل إنقاذ جيرانه

11 اغسطس 2022
موقف بطولي لأشرف القيسي (محمد الحجار)
+ الخط -

عرف سكان مخيم رفح ومنطقة البلد بقطاع غزة أشرف القيسي (42 عاماً) بأنه بائع الخبز المحشو بالشوكولاتة المعروف باسم "العوقا" أو "العوقّوت" إلى جانب الكعك بالسمسم الطازج. وخلال العدوان الإسرائيلي الأخير زاد حب الناس وتقديرهم له على خلفية الموقف البطولي الذي اتخذه عبر الموافقة بلا تردد على هدم منزله، وإنقاذ جرحى من تحت الأنقاض.
فاجأ القصف الإسرائيلي سكان منطقة الشعوت بمخيم رفح، والتي تضم منازل متلاصقة وأزقة في مساحة ضيقة جداً. وكان القيسي في مكان بعيد فتلقى اتصالاً طالبه بالعودة سريعاً بعد قصف منزله الصغير، وسقوط جرحى في المكان. ارتجفت يداه وسقط الهاتف من يده، ثم توجه إلى المنزل مردداً "يا رب فوق الغُلب (الفقر) الذي أنا فيه. يا رب أسرتي". وحين وصل لم يشاهد أياً من أفراد أسرته، وبحث عنهم بين الحاضرين، وسأل عن مصير أبنائه حتى أبلغ أن زوجته وأبناءه في منزل الجيران، وأن الزوجة وأحد أبنائه أصيبا بجروح، وأن الباقين بخير. 

وعندما تأكد القيسي، وهو أب لستة أبناء وبنات، وصاحب منزل صغير داخل المخيم، أن أسرته بخير، وعلم أن منزله تعرض إلى أضرار جزئية، خاطب أبناءه قائلاً "نشكر الله، والمهم الجيران الآن"، ثم اندفع مع رجال الحي لانتشال الجرحى، وحين حضرت طواقم الدفاع المدني وجدت صعوبة في التنقل وإدخال المعدات إلى المكان لنقل المصابين، والتأكد من عدم وجود مخلفات أسلحة لم تنفجر، فأبلغه عناصرها بضرورة إزالة منزله للوصول إلى الجرحى والمفقودين، فأجاب بلا تردد: اهدموا البيت، وأنقذوا المصابين من تحت الأنقاض بسرعة. 
يقول القيسي لـ "العربي الجديد": "استهدف المكان بصاروخ كبير، لأن الانفجارات التي أحدثها وبقايا الركام وصلت إلى ما مسافة بعيدة. وقد انهار منزل قريب من مكان سكني فأغلق ركامه الزقاق، ما أعاق دخول المسعفين وآليات الدفاع المدني". 
يضيف: "كانت هناك حالة من الخجل والحسرة لدى الجيران من اضطرار أجهزة الدفاع المدني إلى تدمير منزلي، فهم يعلمون بأن وضعي الاقتصادي سيئ، لكن هذا الأمر لم يكن مهماً بالنسبة لي. قلت لهم لا تنتظروا. اهدموا المنزل. رغم أن قلبي كان يتقطع، لكنني لا أستطيع إلا أن أتخذ هذا الموقف في ظل تعرّض الأرواح لخطر الموت، ومحاولة الصمود والتمسك بالحياة الغالية". يضيف: "استغرقت عملية الهدم المأساوية أربع ساعات، لكن ضميري كان مرتاحاً، علماً أن منزلي كان يواجه الطريق، وهدمه كان حتمياً لإنقاذ الجرحى وانتشال الشهداء أيضاً".

الصورة
كان الأهم بالنسبة إلى أشرف القيسي إنقاذ الأرواح (محمد الحجار)
كان الأهم بالنسبة إلى أشرف القيسي إنقاذ الأرواح (محمد الحجار)

في غضون ذلك، نقل نجل القيسي المصاب إلى المستشفى الكويتي المجاور للمنطقة، وتعاملت طواقم الإسعاف مع الوضع الصحي لزوجته المصابة التي رفضت مغادرة منزل الجيران وترك أبنائها. وهو أمضى ليلتين في منزل الجيران حتى إعلان الهدنة ليل اليوم التالي (الأحد)، واستطاعت طواقم الدفاع المدني إخراج عدد من الأشخاص المصابين بجروح خطرة، وآخرين جرى تشخيص إصاباتهم بأنها متوسطة من تحت الأنقاض بعد هدم منزل القيسي.

الصورة
قصفت الطائرات الاسرائيلية منطقة ضيقة مليئة بالمنازل (محمد الحجار)
قصفت الطائرات الإسرائيلية منطقة ضيقة مليئة بالمنازل (محمد الحجار)

وسقط خلال مجزرة القصف الإسرائيلي ثمانية شهداء، بينهم طفل وثلاث نساء، وجرح العشرات. يقول القيسي: "عندما رأيت خروج كثيرين من تحت الأنقاض شعرت بأنهم أطفالي وأخواتي وبناتي وكل أهلي. أحسست بعجز أمام دموع الناجين. أزال بعض أهالي الجرحى الركام بأظفارهم، وقد بكيت عندما علمت بأن آلاء الطهراوي، وهي أم لطفل وحيد، استشهدت تحت الركام".

الصورة
الانفجارات وصلت إلى ما بعد سابع منزل (محمد الحجار)
الانفجارات وصلت إلى ما بعد سابع منزل (محمد الحجار)

بلغت مساحة منزل القيسي 65 متراً مربعاً، وضم غرفتين ومطبخاً صغيراً وحماماً، وهو يعتبره غير مناسب لعيش ثمانية أفراد، إذ إنه بارد جداً في فصل الشتاء، وتتدفق مياه الأمطار إلى داخله، وحار جداً في فصل الصيف، بالإضافة إلى اكتظاظ المباني التي تحيط به في المخيم، وعدم وجود نوافذ مناسبة لدخول الهواء إلى أرجائه. 

الصورة
تعب كبير من الحروب المتتالية والفقر (محمد الحجار)
تعب كبير من الحروب المتتالية والفقر (محمد الحجار)

حالياً، لا يعلم القيسي متى سيستأنف عمله وموعد إعادة إعمار منزله الذي كان تناول فيه وجبته الأخيرة وسط اللمّة العائلية في اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي الجمعة الماضي، ولم يتخيل أنها ستكون الأخيرة حتى إشعار آخر مع أبنائه. وبعد يومين من تنفيذ عملية الهدم، بدأ يسترجع ذاكرة المنزل الصغير وهو يقف على ركامه، فقد تزوج في هذا المنزل، وعاش بعض الأيام السعيدة ولعب داخله مع أطفاله. وعندما كان يبيع الكعك و"العوقّوت" على عربته الصغيرة كان يأتي أبناؤه من بعيد، ويركبون فوقها ليجر العربة في رحلة العودة إلى المنزل بعدما كسب رزقه اليومي.

ويعلّق: "لقد تعبنا حقاً من الحروب المتتالية والفقر. عشت فقيراً طوال عمري بلا مصدر رزق سوى العربة. كنت أتمنى دائماً أن أرزق وأجمع المال كي أشتري بيتاً آخر لأنه يحق لأبنائي أن يملكوا غرفاً كثيرة، ويعيشوا مثل الباقين، أما اليوم فبت من دون منزل لكن ضميري مرتاح رغم التضحية المادية الباهظة".

المساهمون