أحمد مهنا... مدير مستشفى العودة في غزة يصف قساوة الأسر
استمع إلى الملخص
- خضع مهنا لـ 24 جولة تحقيق في سجن "الغلاف"، وعانى من ظروف معيشية قاسية في سجن "النقب"، مما أدى إلى فقدانه 30 كيلوغراماً من وزنه وتدهور حالته الصحية بسبب الإهمال الطبي.
- لحظة الإفراج عنه كانت مؤثرة، حيث استقبله الأهالي في غزة بفرح، وأبدى تفاؤله بالمستقبل ورغبته في العودة للعمل رغم التحديات الكبيرة.
على مدار 20 شهراً من الأسر في سجون الاحتلال، عاش الطبيب أحمد مهنا مدير مستشفى العودة شمالي قطاع غزة ظروف أسرٍ صعبة، إذ كانت مهنته الإنسانية ذريعة لزيادة تعذيبه والتحقيق معه دون احترام للقوانين الدولية التي تحمي العاملين في القطاع الصحي من الاعتقال، وتوجب عدم المساس بهم وتركهم يقدمون الخدمة للمرضى والجرحى، بينما باتت في نظر الاحتلال جريمة تستوجب العقاب والاعتقال والمعاملة القاسية.
في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2023 وفيما كان الطبيب أحمد مهنا على رأس الفرق الطبية يمارس عمله في ظروف استثنائية، كانت أعداد المصابين تصل إلى مستشفى العودة في جباليا تباعاً، وبأعداد كبيرة، نتيجة تكثيف الاحتلال غاراته واجتياحه لمدن وبلدات شمال القطاع، ليفاجأ بحصار المستشفى من قبل دبابات وجنود جيش الاحتلال والطلب منه الحضور إليهم. يروي مهنا لـ "العربي الجديد" شهادته عن تجربة أسر مريرة، مستعيداً ظروف حصار المستشفى واعتقاله: "طلبوا تفتيش المستشفى بالكامل، وأبديت مرونة كاملة معهم لمنعهم من اقتحام المستشفى بطريقة همجية على غرار ما حدث بمستشفى الشفاء، فجرى اقتيادي إلى مكان تحصّن فيه الجنود على مقربة من المستشفى ومكثت معهم لعدة ساعات".
ويضيف: "صباح اليوم التالي، اقتادوني مرة أخرى إلى المستشفى وكانوا قرابة 50 جندياً ودبابات ومدرعات، ومن على مشارف المستشفى طلبوا إخلاء كافة الذكور من سن 16 إلى 60 سنة، وكانوا قرابة 120 شخصاً، أما النساء فاكتفوا بأرقام وثائقهن الشخصية، وأبقوهن في المستشفى". ويتابع: "عندما خرج الذكور، أجبرهم الجيش على التعري مع الإبقاء على ملابسهم الداخلية السفلية، رغم البرد القارس، فحاولت استثناء كبار السن من هذا الأمر لكنهم رفضوا، واستمرت فترة التحقيق للطواقم الطبية والمرافقين وبعض المرضى ممن طاولهم القرار قرابة تسع ساعات وهم عراة في البرد، ورفض الجنود طلبي بإحضار أغطية لهم، وبعد انتهاء التحقيقات جرى اعتقال أربعة من الطواقم الطبية كنت من بينهم".
اقتاد جيش الاحتلال الطبيب أحمد مهنا إلى سجن "الغلاف" وتعرّض هناك إلى 24 جولة تحقيق في الأسابيع الثلاثة الأولى، ذاق خلالها الأمرّين كما يروي، وما زالت تفاصيلها تجثم على ذاكرته، فيقول: "تخللها عنف جسدي وتعنيف، فكانوا يستهدفون الأطباء على وجه الخصوص ويعاملونهم كما لو كانوا مقاتلين". كانت كل أيام التحقيق الأولى متشابهة بقسوتها وساعات التعذيب و"الشبح" والتحقيق، حيث جرى توجيه تهم عديدة إلى مهنا، غير أنّ ذاكرته تحتفظ بتفاصيل اليوم الأصعب في السجن على مدار عشرين شهراً، جمع فيه الاحتلال، كما يقول، كل أنواع العذاب في يوم واحد، فيروي: "حضرت قوات نقل الأسرى ترافقها قوات خاصة، كانوا ملثمين وبدت عليهم ضخامة البنية، جاؤوا بطريقة همجية، فأنزلوا رأسي بأيديهم إلى ركبتي، وطوال الطريق نحو الباص كانوا يركلونني بأقدامهم وكنت مكبّل اليدين والقدمين ومغمض العينين".
ويتابع: "كان الشعور مرعباً ومخيفاً وهم خمسة أفراد ويتكالبون على المعتقل الواحد، وفي الباص وضعوني بينهم في الوسط وضربوني بشدة، ما أدى إلى تكسر بعض أضلاع القفص الصدري نتيجة الكدمات المركّزة على الظهر، وجرت تعريتي من الملابس وأجبروني على ارتداء الحفاضات"، واصفاً الموقف بـ"المهين جداً" الذي يستهدف إنسانية الطبيب.
على هذه الهيئة وقف الطبيب في البرد القارس على أرضية مليئة بحصى مسمارية، تتألم قدماه ويرتجف جسده، ولمدة ست ساعات، قبل إجراء تحقيق استمر بعد ذلك لمدة أربع ساعات، رافضاً الإفصاح عن تفاصيل ما دار خلاله من حوار مع ضباط مخابرات الاحتلال. ويردف: "دخلت للتحقيق ولم أستطع إسناد ظهري، فأجلسوني على كرسي متحرك، ومن شدة البرد ازرق لون الجلد وتقيّأت، لكن مع ذلك استمر التحقيق لأربع ساعات متواصلة". ويشير مهنا إلى أنه بعد التحقيق نُقل إلى سجن "النقب" جنوبي الأراضي المحتلة، حيث مكث طوال فترة الاعتقال، وتنقّل بين أقسام مختلفة كلها سيئة، عاش فيها ظروفاً معيشية قاسية، حيث تعرض لسوء تغذية وفقد أكثر من 30 كيلوغراماً من وزنه، ما أدى إلى ضعف جهاز المناعة، وترتب على ذلك العديد من الأمراض.
وعانى مهنا، كما باقي الأسرى، من غياب كامل للرعاية الصحية، رافقه انتشار أمراض جلدية، فضلاً عن الأمراض المزمنة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم، وتسببت تلك الأوضاع في استشهاد العديد منهم نتيجة الإهمال الطبي المتعمد، بالرغم من المناشدة المستمرة والتمرد على الحراس ورفض الانصياع ودخول الخيام، وهي خطوات تعامل معها السجانون بقنابل الصوت والغاز، فقمعوا الأسرى واقتحموا الخيام واقتادوهم للزنازين.
لحظات الإفراج عن الطبيب أحمد مهنا
عن لحظة الإفراج والأيام الأخيرة له، يقول مهنا: "لم أكن أعرف أنني ضمن القوائم (قوائم الأسرى الذين طالبت بهم فصائل المقاومة)، حتى حضرت لجنة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وطلبتني للمقابلة وأخبروني بأنه قد أكون ضمن المفرج عنه، فعشت 72 ساعة من القلق والانتظار، وكنت على أعصابي طوال الوقت ومرت الساعات كأنها 72 سنة". عاش الطبيب أحمد مهنا لحظات تاريخية أثناء مرور عشرات حافلات المحررين بين حشد مهيب من الأهالي في ساحة مستشفى ناصر بمدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة والشوارع الفرعية المؤدية له، ما أدى إلى بطء تقدم الشاحنات.
ويضيف: "أكثر ما أسعدني أنني وجدت أهلي الذين حُرمت من التواصل معهم، وأبعدت قسراً عنهم بخير، وزاد فرحتي أنني وجدت طواقم مستشفى العودة بخير، على الرغم من الدمار الذي حلّ بالمستشفى ومرافقها شمالي القطاع، وتدمير مراكزنا الصحية، حيث شاهدت الروح المعنوية العالية للطواقم، ما عزّز صمودي وفتح شهيتي للعودة إلى العمل والانخراط في خدمة أبناء شعبنا، وأتمنى أن تكون المرحلة المقبلة مرحلة بناء وتعافٍ".
وبالرغم من عدم زيارة مهنا محافظة شمال قطاع غزة المدمرة بشكل شبه كامل، إلا أن المشهد المماثل في رفح وخانيونس ومدينة غزة أعطاه انطباعاً عن صورة المشاهد الصادمة والكارثية، ويقول: "لا أعلم إن كانت هذه المناطق تحتاج سنوات طويلة لإعادة الإعمار لتعود إلى ما كانت عليه، لكن وجود الشرفاء وثبات المواطنين في غزة مؤشر على تخطي المرحلة المقبلة".
خرج مهنا الذي ينحدر من مدينة غزة من سجون الاحتلال إلى شقة استأجرها في وسط القطاع ليعيش حياة النزوح بعد الأسر، وشغل مهنا منصب مدير مستشفى العودة في شمال القطاع منذ عام 2018، لافتاً إلى وجود توجه لدى الإدارة لتعيينه مديراً للبرامج، خاتماً بالقول "لم أعد إلى عملي بعد، لأنني في لحظة تعافٍ. لم أدخل في تفاصيل العمل، لكن هناك تحديات كبيرة جداً".