"تساب" النيل

"تساب" النيل

11 اغسطس 2021
"ترى هذا الشعب مديناً للشمس بالقناعة ومرح الحياة" (عباس م. إدريس/ الأناضول)
+ الخط -

 

في معظم مناطق السودان النيلي نردد "تسَّب البحر" أي فاض النهر، وطغى واندفع مرفوداً بمياه الأمطار والسيول. ويظن البعض أنّ مفردة "تساب" من المفردات النوبية، لإمساك الثقافة النوبية بتلابيب الحياة لدينا. وقد ذكر الكاتب الألماني إميل لودفيغ، في كتابه الهام "النيل حياة نهر" مكابدة إنسان النيل. ومما جاء فيه: "ترى هذا الشعب مديناً للشمس بالقناعة ومرح الحياة. وتراه مديناً للنيل بروح النظام والطاعة، وهنا قامت دولة فجعلت فرعون إلهاً، وجعلت من العمل ضرورة، ومن الريّ فنّاً".

وللمفردة عمقها العربي، فيقال "تساب القوم" أي تقاطعوا. والنهر في فيضانه يمدّ ألسنة الماء، فتقطع سبل التواصل. والمعني الآخر "ساب في كلامه" أي أفاض من غير رويّة، و"استبى الشجرة" أي نحّاها عن منبتها، وهذا هو المعني الأقرب كما يذكر الباحث معتصم الحاج من جامعة أفريقيا العالمية. فالنيل يقتلع الزرع والأشجار الضخمة، ويهدم المنازل حين يجتاح القرى، مثما أورد لودفيغ "النيل في تمام رجولته يقاتل الإنسان، فيقهَر ويروّض، ويوجب سعادة الآدميين". ذلك مثلما يتسبب في المآسي التي وثّق لها الأدب الشعبي السوداني. فقد عثرنا على غنائيات أمينة بت ود الماحي حول فيضان عام 1946، وهي شاعرة مجيدة وثقت للحياة وسبل كسب العيش في بداية القرن الماضي، في ريف شمال السودان. أما محمد الحسن سالم حميد، صاحب ملحمة "الضو وجهجهة التساب" حول فيضان عام 1988، فقد تساءل على لسان بطل الملحمة "وين لي تساب عشرة، وتساب كم وأربعين؟".

هذه فيضانات كبيرة عرفها السودانيون. ويذكر الخبراء أنّ للنيل ثلاث دورات تتعاقب كل 20 سنة، تبدأ بـ"السبع السمان" إذ يهطل المطر غزيراً، فتحدث الفيضانات. تعقبها ست سنوات متوسطة الهطول. وينخفض تدفق المياه في السبع الأخيرة (العجاف).

تغنّت أمينة بأنّ "البحر الطمح خابر مضاريبه" أي أين يضرب ويصل حين يفيض ويخرج عن مجراه. أما مضربه الأساس، ومنتهى رحلته ففي البحر الأبيض المتوسط، وقبلها يغشى بحيرة ناصر التي يصل إليها بعد 15 يوما، قاطعاً 2590 كيلومتراً، منذ انطلاقته من محطة الديم على الحدود السودانية الإثيوبية. وعند الحديث عن فيضان النيل، تتجه الأنظار إلى النيل الأزرق في انحداره من الهضبة الإثيوبية، قبل أن يلتقي بشقيقة النيل الأبيض الهادئ المسير، وقليل المياه قادماً من منطقة البحيرات، حتى ملتقى النيلين بالخرطوم.

موقف
التحديثات الحية

في العام 1988 ارتفع منسوب الفيضان فوق الـ 15 متراً، وخلّف دماراً كبيراً، ووصل عدد القتلى إلى 70، وخلّف أضراراً في الثروات الحيوانية والزراعية بلا حصر. ويجهد البعض في مقارنة الخسائر منذ فيضان 1874، وفيضان 1887، مروراً بفيضان 1910 وما بعدها. مثلما يعمل آخرون على دراسة آثار قيام سد النهضة على ضبط الفيضانات بدءاً من هذا العام، والذي يبدو أنّه بداية لـ"سبع سمان" وأنّنا مبشرون بإحدى موجات "التساب" العاتية.

(متخصص في شؤون البيئة)

المساهمون