في شموليّة التحرّر والاستبداد

في شموليّة التحرّر والاستبداد

31 يناير 2021
فلسطينيون عند معبر رفح (عبدالحكيم أبو رياش)
+ الخط -

عندما نتحدّث عن التّحرّر الوطني، فالمقصود هو التخلّص من استغلال المجتمع والأرض والموارد من هيمنة الخارج، أي تحقيق استقلال القرار السّياسي والاقتصادي، سواء كان محتلًّا أجنبيًّا أو قوّة خارجيّة مهيمنة، ما يعني حل تناقض المجتمع مع قوة خارجيّة، بحيث يتمكّن المجتمع من التّعبير عن إرادته واستعادة سيادته. بينما التّحرّر الاجتماعي هو تخلّص الأفراد أو الفئات الاجتماعيّة المختلفة من استبداد واستغلال العلاقات السّلطويّة الطبقيّة في داخل المجتمع، كاستغلال رأس المال الوطني، قمع الحريّات، هيمنة الرّجال على المجتمع، أو اضّطهاد الأقليّات؛ أي أن التحرّر الاجتماعي هو حل التّناقضات الداّخليّة في المجتمع.
تتشكّل المنظومة الاجتماعيّة السّائدة من شبكة سلطويّة وعلاقات قوى تراتبيّة مركّبة، تعتمد في سلطتها على أدوات القمع والاستعباد الجسدي والنّفسي، تقسّم المجتمع وتضبطه وتهيمن عليه، وتنفرد، بمستويات متباينة، بتنظيم أموره وإدارة موارده. تتمظهر هذه السّلطات الجبريّة في الأب، والعائلة، والعمل المأجور، والمجتمع، والدّين، وصولًا إلى الدّولة. تُنتج هذه المنظومة قهرًا نفسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا يصيب كل فئات المجتمع، وإن بمستويات متفاوتة، ما يجعلها مشلولةً ومُضلّلة. أمّا على الصّعيد الخارجي، تنتج هذه المنظومة الأبويّة الرّأسماليّة قضايا الاحتلال، كما هو الحال في فلسطين مثلًا، والهيمنة الخارجيّة التي تسعى لاستغلال موارد الشعوب والسّيطرة على إرادتها بما يخدم مصالحها. لكن، هل هناك علاقة بين التّحرّر الوطني والتّحرّر الاجتماعي؟ وما طبيعتها؟
إذا نظرنا إلى انتفاضات الرّبيع العربي خلال العقد الماضي، نرى أنّ الشرارة التي أخرجت النّاس للاحتجاج كانت حادثة تجسّد استبداد السّلطة السّياسيّة، كحادثة البوعزيزي في تونس، التي فجّرت مظاهرات ضد تعدّي أجهزة الدّولة على حقوق وكرامة النّاس. تطوّرت هذه الاحتجاجات سريعًا لتحمل مطالب معيشيّة لفئات المجتمع المختلفة، ثم سياسيّة عامّة متمثّلة بإسقاط النّظام والتحوّل الدّيمقراطي. كما لوحظ حضور علم فلسطين والهتاف لها، يعني ذلك أن الثّوار أظهروا قدراتهم على تحديد بوصلة وطنيّة واضحة ترفض الاستعمار والهيمنة الخارجيّة، في الوقت الذي يناضلون فيه من أجل حقوقهم الاجتماعية. طوّرَ المنتفضون هذا الرّبط في حسّهم الجمعي خلال الثّورة، بعكس الكثير من النّخب التي لا تزال تميل إلى الفصل بين القضايا، فلم تستوعب الثّورة.
نحن لا نعيش في فقاعات منفصلة عن الواقع كما يحلو للكثيرين أن يعتقدوا، فحياتنا اليوميّة وظروف معيشتنا وعلاقاتنا كلها خاضعة لمنظومة واحدة: كلّ مجال ومستوى فيها يؤثّر ويرتبط بالآخر. كما أنّ الحريّة مفهومٌ لا يُجزّأ، فلا حريّة للفرد وهو يعيش تحت منظومة رأسماليّة تستعبده، أو تحت سلطة أب يستبدّها، أو في مجتمع يفرض عليه وعليها كيف تفكّر وتلبس وتتحرّك، أو من ومتى وكيف يحب. كما لا يمكن أن أقاوم المُحتل بفعاليّة وأنا مُضطّهَد ومُفقَر، وخاضع لاستبداد سلطة داخليّة ما. لا يمكن تحقيق الحريّة الاجتماعيّة أو الوطنيّة بمعزل عن الأخرى.
لكن، هل هناك أولويّة ثابتة لإحداهما على الأخرى؟ تتبدّل أولويّات الصّراع، بين الاجتماعي والوطني، بتغيّر ظروف وعوامل الواقع وتناقضاته المركّبة. البت بأولويّة قضيّة على أخرى معقّد بقدر تعقيد وتغيّر عناصر الواقع وصعوبة قياس عمق التّناقضات فيه. مثلًا، عندما يتعرّض مجتمع ما لعدوان خارجي مباشر، تذوب التّناقضات الدّاخليّة على الأغلب، ولو مؤقّتًا، ويتوحّد النّاس لمواجهة تناقض خارجي مع مجموعهم، ويصبح التحرّر الوطني أولويّة على التّناقضات الاجتماعيّة. في حالات أخرى، عندما تتفاقم التّناقضات الداخليّة ويصل مستوى التّراكم للانفجار، تصبح الأولويّة لحل تلك التّناقضات على حساب حسم الصّراع مع الهيمنة الخارجيّة مثلًا، وهكذا. إذن لا أولويّة ثابتة لقضيّة على أخرى، فالعلاقة هنا جدليّة بامتياز، تنطلق من الواقع وترتبط فيها عناصره المختلفة، تتغيّر وتتبدّل فيها أولويّات النّضال بتغيّر وتبدّل الواقع.
من جهة أخرى، نلاحظ الفارق الكبير الذي يظهر بين حركة النّاس على أرض الواقع، ووعي الكثير من النّخب السّلطويّة، سواء كانوا من اليمين أو من اليسار. فقد أخذ الكثير منهم مواقف سلبيّة من حراك الشّارع في سوريا وليبيا بحجّة الصّراع مع "إسرائيل" والإمبرياليّة، وبحجّة الحفاظ على سلطة الإخوان في مصر عندما وقفوا ضد ثورة يونيو. يعتبر هؤلاء النّضال لنيل الحقوق الاجتماعيّة والفرديّة انحرافًا عن البوصلة الحقيقيّة للنّضال، أي أنّ "السّياسي" والوطني برأيهم أولويّة على حقوق المجتمع والأفراد، ذلك إن لم يتجاهلوها أصلًا، خصوصًا عندما يتعلّق الموضوع باستغلال رأس المال، أو اضّطهاد النّساء أو رفض حقوق المثليّين/ـات. لكن كيف لمجتمع مضطّهد ومشلول أن يناضل من أجل تحرّره الوطني؟ أو من أجل تحرير فلسطين؟ كيف تنخرط امرأة في النّضال الوطني وهي مكبّلة بسلطة تعيق حركتها؟
إصرار بعض النّخب على هذا الفصل يعكس أمراضًا تصطدم مع الواقع المركّب، فهو يُظهر عقلًا سطحيًّا يتوه في عالم صراعات القوى الخارجيّة ولا يرى ما هو أعمق، حيث ينفصم عن الواقع، فلا يرى حركة المجتمع ولا معاناته؛ يقدّس الدّولة، بحيث تكون أهم من المجتمع. إنّه عقل يعجز عن رؤية ترابط وجدليّة العلاقات بين عناصر الواقع، كما يُظهر ذاتيّة مفرطة تتمثّل في استعلاء هذه النّخب على المعاناة اليوميّة للأفراد والفئات الاجتماعيّة المختلفة، وتتمظهر في تنصيب أنفسهم كموجّهين لحركة الشّعب والتّاريخ، دون الانخراط فيها. لا تدرك هذه النّخب أنّ فهم الواقع يعني الانطلاق منه، وليس من إسقاط رغباتنا وآراءنا الذّاتيّة عليه. أي أنّه من غير السّليم أن نُفصّل حركة المجتمع والتّاريخ بحسب مقاييسنا النّظريّة، بل علينا أن نبني فهمنا النّظري للواقع من مراقبة حركته. بالتّالي، من غير المعقول أن نرفض حراك مجتمع ما لنيل حقوقه لأنّه لا يتناسب مع ما نعتقد أنّه صحيح.
فلسطينيًّا، تميل الفصائل ومعظم النّخب والأوساط السّياسيّة والفكريّة إلى اختزال قضيّة التحرّر الوطني بإقامة دولة، كما اختصرت المقاومة في البندقيّة، في الوقت الذي تجاهلت فيه قضايا التّحرّر الاجتماعي بوصفها قضايا ثانويّة تشتّت النّضال، داعيةً للتّعامل معها بعد تحقيق التّحرّر الوطني. أذكر هنا مثالاً حراك "بدنا نعيش" الذي ظهر في غزّة نتيجةَ بؤس الأوضاع المعيشيّة هناك، فما كان من سلطة حماس إلّا أن قمعته وطاردت ناشطيه، واتّهمتهم بالعمالة "لإسرائيل" وسلطة فتح التي استغلّت بدورها هذا الحراك لشيطنة حماس. هكذا تتعامل سلطتا "المقاومة" والتّسوية مع الحراكات الاجتماعيّة، ما يصبّ بالنّهاية في مصلحة الاحتلال، لأنّهما تقمعان الشّعب الفلسطيني، ما يعيق مقاومته ونضاله الوطني ضد الاستعمار الصّهيوني.
يمكن تفسير هذا النّمط في التّعامل مع الحراكات الاجتماعيّة في ميل السّلطة بكافّة أشكالها إلى الحفاظ على الاستقرار، فهي بطبيعتها تشكّل سدًّا أمام الحركة بشكلٍ عام، كما أمام التّحرّر الاجتماعي، ذلك لأنّ المطالبة بالحريّة تهدّد هيمنتها ووجودها. كما أنّه من الأسهل على السّلطة أن تسيطر وتفرض نفسها على خاضعٍ من أن تسيطر على حر. بهذا الفهم، يمكننا لمس التّقاطع والتّلاقي الضّمني بين مصالح الدّولة والاحتلال والسّلطات الاجتماعيّة المختلفة في الإبقاء على المجتمع مقيّدًا وضعيفًا. من هنا نستنتج أنّ التّحرّر عمليّة شاملة لا يمكن تحقيقها إلّا بإنجازها اجتماعيًّا ووطنيًّا، أي أنّهما متلازمان.
في نفس الوقت، تظهر أصواتٌ شابّة، مدركة لوحدة النّضال على كافّة الصّعد، تطرح خطابًا تقاطعيًّا وشموليًّا أكثر عقلانيّة من الخطاب التّقليدي، كحراك "طالعات" النّسوي. ترى هذه الأصوات أنّ النّضال الاجتماعي يصبّ في خانة التّحرّر الوطني، وهما لا ينفصلان كونهما يواجهان أدوات المنظومة الذّكوريّة الرّأسماليّة نفسها. كما تعتقد بأنّ الحريّة تفرض النّضال الجذري والشّامل على كلّ أشكال الاستبداد سواء كان محليًّا أو أجنبيًّا، فلا فرقًا جوهريًّا هنا.
في هذا السّياق، هل إقامة دولة فلسطينيّة هو الغاية النّهائيّة للنّضال الوطني الفلسطيني؟ وما هو شكل الدّولة الفلسطينيّة التي قد تتحقّق بعقليّة النّخب التّقليديّة؟ برأيي، الدّولة ليست هدفًا مقدّسًا؛ تحقيق حريّة وتقدّم الشّعب الفلسطيني، واستعادة إرادته وحقّه في تقرير مصيره هو الهدف الأسمى. العقليّة الأبويّة للنّخب التّقليديّة ستُنتج دولة سلطويّة تمارس استبدادًا محليًّا ولن تغيّر جوهريًّا من واقع الشّعب الفلسطيني الذي نشهده اليوم: شعب مُحتل ومحكوم من قبل كيانات استبداديّة بدون أرض وسيادة، مقموع في الضّفة وغزّة يعاني الإفقار والتّهميش. كيف لهذا الشّعب أن يقاوم ويقرّر مصيره وهو واقع تحت سلطات مستبدّة؟ والأهم هو كيف يمكن أن نوظّف فهمنا للواقع المعقّد هذا في نضالاتنا؟ نحن بحاجة إلى إعادة بناء فهمنا لنستوعب جدليّة الواقع، ولننتج خطابًا تقدّميًّا يلامس معاناة النّاس اليوميّة ويربط النّضالات كافّة.
الجيل الشّاب الفلسطيني يمارس التّمرّد اليومي على كل أشكال الاستبداد، وهو يواجه اليوم مسؤوليّة تاريخيّة تفرض عليه بناء فهم جديد للصّراع، ينطلق من الواقع ليعكس جدليّته. أصبحت الحاجة ملحّة لإنتاج رؤية تقدميّة بقيم إنسانيّة وخطاب عقلاني ثوري متجدّد، يتجاوز أمراض الماضي، وتتقاطع وتتكامل فيه كل أشكال ومستويات النّضال المختلفة، يحاكي معاناة المجتمع وهمومه، ينهض به ويدافع بشموليّة عن حقوقه وقضاياه المركّبة؛ فهو الذي يمارس النّضال والمقاومة كونه صاحب المصلحة النّهائية بالتّحرّر، فلا حزب قائد ولا زعيم ملهَم يحرّره.

المساهمون