غزة وهي تطوي عاماً آخر تحت الحصار

غزة وهي تطوي عاماً آخر تحت الحصار

26 ديسمبر 2021
معالجة الأسباب الجذرية لمحنة غزة لا تزال بعيدة المنال (محمود عيسى/Getty)
+ الخط -

في نهاية يناير/كانون الثاني من العام 2013، قضى حريق، تسببت به شموع الإنارة المنزلية، على عائلة فلسطينية مكونة من أب وأم وأطفالهما الأربعة، في منزلهم بحي الشجاعية شرقي مدينة غزة. لم تكن تلك الحادثة المأساوية أخيرة في نوعها، بل تكررت غير مرة. على سبيل المثال، قتلت شموع الإنارة ثلاثة أطفال في مايو/أيار العام 2016، بحرقها منزلهم في مخيم الشاطئ غربي غزة.

وفي الأول من سبتمبر/ أيلول العام 2020، قضى ثلاثة أشقاء أيضا، حرقا داخل منزلهم الصغير في مخيم النصيرات في القطاع، وسط حظر التجوال المفروض آنذاك بسبب كورونا. وتظهر إحصائية لـ "مركز الميزان لحقوق الإنسان" في غزة، أنه منذ بداية عام 2010 حتى 10 سبتمبر/ أيلول العام 2020، ارتفع عدد ضحايا الحرائق في غزة، بسبب وسائل الطاقة البدائية "البديلة"، إلى 35 من بينهم 28 طفلاً، قضى معظمهم وهم نيام.

طوت غزة هذا العام الذي حفل نصفه الأول بمواجهات شاملة مع الاحتلال

في غزة، يتساوى الموتى في موتهم غير الرحيم، سواء مات المرء مغمض العينيين أم في حال من صحوة الحواس، فكلاهما من مشاهد معاناة إنسانية فاقمها حصار إسرائيلي، شمل منع أو تقنين دخول المحروقات والكثير من السلع، ومنع الصيد في عمق البحر، وغلق المعابر بين القطاع وإسرائيل، مما حوّل القطاع إلى سجن كبير، على مرأى ومسمع العالم أجمع. مساحة القطاع الصغيرة التي لا تتجاوز 365 كيلومترا مربعا، وعدد سكانه البالغ حوالي مليوني نسمة، يجعله من أكثر مناطق العالم كثافة بالسكان. الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1967؛ الحصار المتواصل والحروب المتكررة طيلة 15 عاما، خلفت مذابح بشرية غير مسبوقة، ودمّرت اقتصاد غزة الضعيف وبنيتها التحتية الهشة. وفي العام 2012، نشر "مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية حول مساعدة الشعب الفلسطيني" تقريرا حذر فيه من أن القطاع قد يصبح مكانا "غير صالح للسكن" (uninhabitable) بحلول العام 2020، إذا استمرت الاتجاهات الاقتصادية الحالية. وبحلول عام 2020 عبّر تقرير أممي عن الأسف من أن الوضع قد تدهور بشكل أسرع مما كان متوقعا في السابق، وأن غزة تجاوزت بالفعل عتبة "غير صالح للسكن".

بموجب القانون الدولي، فإن إسرائيل تُعدّ قوة محتلة بالرغم من إعلانها فك الارتباط مع القطاع، وفق خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، آرييل شارون، بانسحابه أحاديا من غزة العام 2005، إلا أنها لا تزال تسيطر على منافذ القطاع البرية والبحرية والجوية. وعلى الكتلة السكانية في غزة، وشبكات الاتصالات، وغيرها من جوانب أخرى للحياة اليومية والبنية التحتية. وبدلاً من قيامها بالتزاماتها بموجب القانون الدولي في ما يتعلق بحماية السكان المدنيين في قطاع غزة، وضعتهم تحت حصار خانق في شكل غير مسبوق من أشكال العقاب الجماعي المحظور بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، وفي انتهاك واضح للقانون الدولي الإنساني. المنظمات الدولية تكتفي بتسجيل معاناة فلسطينيي غزة، أما مساءلة المحتل الذي لم يمتثل بالكامل لأكثر من 30 قرارًا من قرارات مجلس الأمن الدولي، وينتهك مئات من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فليست على جدول أعمال الأمم المتحدة، ولا الدول العظمى.

بفعل الحصار والحروب (2014، 2018، 2019، 2021)؛ الصدع السياسي الفلسطيني الداخلي؛ الإغلاق المطول لمعبر رفح الذي تسيطر عليه مصر، وصلت جميع نواحي الحياة في غزة إلى نقطة الانهيار، وفي كل مرة فشلت محاولات ما بعد جولات الحروب في منح غزة متنفسا بإدخال السلع الضرورية إليها، وهي العملية المعطّلة إسرائيليا تحت تعريف غامض عمدا: "قائمة الاستخدام المزدوج"، الذي تعتبر إسرائيل بموجبه عددا كبيرا من السلع أنها تستخدم لأغراض عسكرية ومدنية. تعطلت إعادة الإعمار الممولة من المانحين، إما بسبب عدم كفاية الأموال أو بسبب المشاكل الناشئة عن القيود الإسرائيلية المستمرة على دخول الخبراء التقنيين والمعدات وغيرها من أدوات ضرورية. وبقيت خطوات إعادة الإعمار، وتأهيل البنية التحتية المدمرة، متأخرة عن الجدول الزمني، ولا يزال المانحون لا يوفون بشكل كامل بالتعهدات التي أعلنوا التزامهم بها منذ مؤتمر إعادة الإعمار في القاهرة (أكتوبر/تشرين الأول 2014) وما بعده، وما زال هناك آلاف من النازحين، وآلاف من بيوت مدمرة. يدوم انقطاع التيار الكهربائي حتى 20 ساعة يوميا، وحتى بعد سماح سلطات الاحتلال بتوريد الوقود يوم 1/9/2020، في أعقاب التوصل إلى تفاهمات بين إسرائيل وحركة حماس، بوساطة قطرية، وبدء تشغيل المحطة الوحيدة في القطاع، استمرت أزمة الكهرباء بنسبة عجز تبلغ 64 بالمائة، مما يعطل بشدة توفير الخدمات العامة الحيوية، ويفاقم أزمة اقتصاد عصفت به حروب مدمرة. أكثر من 95 في المائة من المياه الجوفية في غزة غير صالحة للشرب، تتوافر لمدة أقصاها ثماني ساعات كل خمسة أيام. شح الكهرباء وحظر إسرائيل لدخول غاز النيتروز إلى القطاع منذ بداية العام 2021 ينذر بخطر توقف جميع العمليات الجراحية من بينها الطارئة في جميع المستشفيات في غزة.

وبعد جائحة كورونا، كانت نتيجة الإغلاق والقيود، واستمرار العمليات العسكرية العدوانية، انهيارا شبه تام لاقتصاد غزة، وانفصاله عن بقية الاقتصاد الفلسطيني. بات أكثر من 80 بالمائة من السكان تحت خط الفقر، وسجلت غزة أحد أعلى معدلات البطالة في العالم، غالبية السكان لا يحصلون على المياه الصالحة للشرب أو إمدادات الكهرباء المنتظمة والموثوقة أو نظام الصرف الصحي المناسب. ثلث الأراضي الزراعية في غزة، وأكثر من نصف مياه الصيد (المتفق عليها في أوسلو) أعلنتهما إسرائيل من جانب واحد مناطق محظورة. توقفت شركات عن العمل، وأجبرت أخرى على مغادرة القطاع، وما تبقى تعمل بأقل من طاقتها، مفصولة عن سلسلة التوريد، بسبب أزمة البنى التحتية والاقتصاد والبيئة التنظيمية الهجينة جراء الانقسام السياسي الفلسطيني المستمر، في ظل مفاوضات مصالحة تراوح مكانها. وبالرغم من محنتها السياسية والمالية نتيجة التغير في ديناميكيات السياسة الإقليمية تمثل "حماس" وقبضتها الأمنية سلطة الأمر الواقع.

غزة على وشك أن تطوي العام 2021، وهو عام حفل نصفه الأول بمواجهات شاملة ديمغرافيا مع الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين المتطرفين، بدأت شراراتها الأولى في 13 إبريل/نيسان، حين حاولت الشرطة الإسرائيلية منع الفلسطينيين من التواجد في منطقة باب العامود، تلاها اقتحام مستوطنين بغطاء ودعم من قوات الاحتلال الإسرائيلي المسجد الأقصى، وإطلاق حملات "ليحترق العرب" التي حرضت على الفلسطينيين في القدس المحتلة. تعاظمت المواجهات في 7 مايو/ أيار، بعد محاولات سلطات الاحتلال إخلاء عائلات فلسطينية من بيوتها في حي الشيخ جراح، ومنحها لمستوطنين، واقتحاماتها المتكررة للمسجد الأقصى. وفي 10 مايو، منحت الفصائل الفلسطينية المسلحة، في غزة، إسرائيل موعدا أقصاه السادسة مساء لوقف عدوانها. مع نهاية المهلة، بدأت بقصف المدن الإسرائيلية بالصواريخ. لتبدأ بعدها التحركات الدولية لاحتواء الوضع.

على عادتها، منحت الولايات المتحدة الأميركية إسرائيل وقتا لتنفيذ خططها الحربية، وأكد وزير دفاعها دعم بلاده الراسخ لـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، واكتفى وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بدعوة إسرائيل إلى بذل ما في وسعها لتجنب سقوط ضحايا مدنيين. لاحقا، أُعلن عن مباحثات أممية مع حماس. اشتد القصف الإسرائيلي في 15 مايو/أيار وطاول أبراجا سكنية منها ما ضم مكاتب لوسائل إعلام غربية، وبحث الرئيس الأميركي، جو بايدن، مع بنيامين نتنياهو، العمليات العسكرية، ولم ينس الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أن يعزي نتيناهو بالقتلى الإسرائيليين، لكنه لم يكلّف نفسه عناء تنشيط ذاكرته لتذكر الضحايا من الفلسطينيين. فشل مجلس الأمن ثلاث مرات خلال أسبوع في استصدار قرار يدين العدوان الإسرائيلي على غزة. دعا نواب ديمقراطيون في الكونغرس إلى وقف "العنف"، بدأ يبرز دور لوساطة مصرية، بتكليف أميركي، فأعلن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عن محاولات للتهدئة، وقدمت مصر، في 18 مايو اقتراحا بوقف لإطلاق النار، وأُعلن في 20 من الشهر نفسه، وقف "متبادل ومتزامن" لإطلاق النار دخل حيز التنفيذ في اليوم التالي. أطلقت "أونروا" (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) نداء استغاثة بقيمة 38 مليون دولار، وأدت الحرب الإسرائيلية الأخيرة إلى استشهاد 232 فلسطينيا، إلى جانب 28 آخرين في الضفة الغربية المحتلة و7 آلاف جريح، بينما سقط شهيدان في أم الفحم وآخر في اللد، في مواجهات مع المحتل، امتدت إلى الأراضي الفلسطينية العام 1948. تهدم 1800 منزل في غزة، وتضرر نحو 17 ألفا، وشرد أكثر من 120 ألف فلسطيني، وتضررت 66 مدرسة.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

في مؤتمر حول الأمن، في سبتمبر/أيلول الماضي، اقترح وزير الخارجيّة الإسرائيلي، يئير لبيد، حلا لـ "جولات العنف التي لا تنتهي أبداً"، وبديلا لخيارين كلاهما سيئ: غزو غزّة أو أعمال عنف لا نهاية لها، متمثلا بخطّة "الاقتصاد مقابل الأمن". تشمل، تحسينا للظروف المعيشيّة، تأهيل البنى التحتيّة للقطاع مقابل التزام حركة حماس التهدئة، دون أن يعني ذلك أي مفاوضات مباشرة مع حماس. وباعتراف لبيد، الذي من المقرّر أن يتولّى منصب رئيس الوزراء في غضون عامين في إطار اتّفاق التناوب ضمن الائتلاف، فإن خطته لا تشكّل حتّى الآن سياسة رسميّة للحكومة الائتلافية الحاليّة، لكنّه أشار إلى أنّها تحظى بدعم رئيس الوزراء نفتالي بينت، وناقشها مع وزيري الخارجية، الروسي والأميركي، إضافة إلى مسؤولين في مصر والاتحاد الأوروبي والخليج. ويبدو أنها الخلطة التي يحملها الوسيط المصري في المفاوضات الدائرة اليوم، ولا يبدو أن "حماس" لديها خيار بديل.
لا يقتصر طرح حلول جزئية تتعمد إغفال جوهر المشكلة على قادة الكيان الصهيوني، وأن يقبل بها طرف فلسطيني أو آخر، بل تتعداهم إلى طروحات يتبناها معظم الدول المؤثرة في الساحة الدولية، مما يحول دون إنهاء الوضع المأساوي الذي بات يتطلب حلا عادلا مستداما يعالج الأسباب الجذرية لأي تصعيد في القطاع، يقوم على إنهاء الحصار المستمر منذ 15 عاما، والتعامل معه على أنه نتيجة للاحتلال المتواصل منذ عقود. هناك حاجة ماسة إلى تغيير جذري في السياسة الدولية لإنقاذ القطاع من كوارثه المتفاقمة. نهج جديد تتوافر له الإرادة اللازمة، ويتم خلاله إقصاء سياسة التدخل قصير المدى، سواء كانت إنسانية أو سياسية، والتي أثبتت فشلها على الصعيدين المذكورين، والتعامل مع غزة كمشروع تنموي استراتيجي بدل أن تكون عبئا يتم التخلص منه.
الفشل يؤدي إلى مزيد من الصعوبات، وحتى الآن، فإن معالجة الأسباب الجذرية، السياسية والهيكلية الكامنة وراء محنة غزة، بما فيها الاحتلال والحصار الإسرائيليان، والانقسام الفلسطيني، لا تزال بعيدة المنال. ومعنى ذلك، أنه على أهالي قطاع غزة أن يصمدوا في مكانهم "غير الصالح للسكن" لسنوات أخرى قادمة.