الدبلوماسية التونسية والبحث عن التوازن الصعب

الدبلوماسية التونسية والبحث عن التوازن الصعب

26 فبراير 2015
السبسي والبكوش يقودان الدبلوماسية التونسية (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
تبدو الدبلوماسية التونسية، خلال هذه الفترة، في مواجهة اختيارات حاسمة على الصعيدين الإقليمي والعربي، إذ تحكمها المتغيرات المتسارعة على الجبهات الليبية والسورية والمصرية مع ما تحمله من تعقيدات دولية وعربية ذات تأثير على الداخل التونسي.

ويُطرح الملف الليبي كقضية عاجلة على طاولة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، ووزير الخارجية الطيب البكوش، اللذين حسما موقفهما ضدّ التدخل العسكري في ليبيا والوقوف على الحياد من الأطراف المتنازعة فيها.
حياد أغضب أحد الطرفيْن المتنازعين في ليبيا، أي حكومة عبد الله الثني (التي تحظى بدعم مجلس طبرق المنحل وقائد عملية الكرامة اللواء خليفة حفتر). ووجّه رئيس هيئة الإعلام والثقافة في حكومة الثني، عمر القويري، انتقادات للبكوش بعد تصريح الأخير حول التعامل مع حكومتي الثني من جهة وعمر الحاسي من جهة ثانية. والأخيرة تحظى بتأييد المؤتمر الوطني وقوات فجر ليبيا.
القويري، الذي يزور تونس هذه الأيام، دعا البكوش إلى تعديل مواقفه واتخاذ موقف واضح مما يجري في ليبيا على الرغم من أن المتحدث باسم وزارة الخارجية التونسية مختار الشواشي، أوضح في تصريح لوكالة تونس أفريقيا للأنباء "وات"، يوم الثلاثاء الماضي، أن البكوش لم يذكر في أي تصريح له كلاماً حول الاعتراف بحكومتين في ليبيا ولم يستعمل عبارة "اعتراف"، ولكنه تحدث عن "التعامل مع حكومتين في ليبيا على أساس التمثيل القنصلي خدمة لمصالح الجالية التونسية في ليبيا ومن أجل تعزيز علاقات الأخوة بين الشعبين الشقيقين".
وذهب القويري في انتقاده لمواقف البكوش إلى حد القول إن تصريح وزير الخارجية التونسي "سيجعلنا على حياد من حكومة قصر قرطاج وحكومة إمارة الشعانبي"، في إشارة إلى المجموعات المتشددة المتحصنة فيه.

اقرأ أيضاً: الدبلوماسية التونسية الحيادية تعزز الحلّ السلمي في ليبيا

وتزامنت هذه التصريحات مع زيارة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، الثلاثاء الماضي إلى تونس واجتماعه بالبكوش، في ظل التباين الواضح في موقف البلدين من الملف الليبي. وبينما تميل مصر لتغليب طرف على آخر، تنأى تونس بنفسها عن الصراع الليبي.
وكان الموقف التونسي صريحاً بعد الضربات العسكرية المصرية الأخيرة في ليبيا، إذ قال المسؤولون التونسيون "إنهم يتفهمون الغضب المصري، لكنهم ضد أي تدخل عسكري في ليبيا".
وتواجه تونس ضغوطاً متعددة بشأن الملف الليبي. وربما تكون زيارة وزير الخارجية الإيطالي، باولو جانتلوني، إليها أمس الأربعاء جزءاً منها، ولا سيما بعد الاندفاعة التي أبدتها إيطاليا للقيام بعمل عسكري في ليبيا.
وجاء تصريح رئيس الحكومة الإيطالية، ماتيو رنزي، يوم الثلاثاء الماضي، ليزيد من حجم "الاهتمام الإيطالي" بالملف الليبي حين وصفه بـ"الأولوية بالنسبة لأوروبا برمتها". كما اعتبر رنزي أن ليبيا "أولوية بالنسبة لـ(حوض) المتوسط الذي لا يمكن أن يكون مقبرة كما لا يمكن أيضاً أن يكون ضاحية لقارتنا. إنه قلب قارتنا وأولويته".
وسانده في الموقف نفسه الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، عندما أكد خلال لقائهما المشترك، أن فرنسا "تدعم كل جهود إيطاليا كي نتمكن على أرفع مستوى، أي الأمم المتحدة، من إيجاد حلول لوضع (وصل إلى حدود) الفوضى وبالتالي الإرهاب".

ولكن لا يبدو أن هذه الضغوط ستغير من موقف تونس الذي يستند إلى مصالح داخلية عليا في تحديد أسسه، لإدراكها أن موازين القوى متكافئة على الميدان في ليبيا، ولا سيما أن أياً من الطرفين المتنازعين لم يستطع حسم الأمر لصالحه إلى غاية الآن. وبالتالي لا أحد بإمكانه التنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع، ومن سيتولى زمام الأمور في المستقبل. كما أن لدى تونس قناعة بأن مآل الصراع الليبي هو التصالح والحكم المشترك في نهاية الأمر، انطلاقاً من معرفتها الدقيقة بالنسيج المجتمعي الليبي. كذلك تتجنب تونس تداعيات الانحياز لطرف ليبي وانعكاسه على الداخل التونسي، إذ يقيم حالياً فيها قرابة المليوني ليبي يمثلون كل الحساسيات.
ولا تبدو تونس وحدها في هذا الموقف، وإنما تستند إلى الجارة الغربية الجزائر، التي اختارت بدورها الوقوف على المسافة نفسها من الصراع الليبي والدفع في اتجاه الحوار. وهو موقف تعرفه مصر جيداً بدليل تصريح وزير الخارجية المصري، الذي قال فيه إن "المواقف الجزائرية من الأزمة في ليبيا معلومة لدى المصريين منذ البداية"، مشيراً إلى "احترام مصر الكامل لوجهة نظر السياسة الجزائرية" على الرغم من وجود تنسيق بين مصر والجزائر لمحاولة إيجاد حلول للوضع الليبي المتأزم، بحسب تعبيره. كما أوضح شكري أن الجزائريين يتبنون إذابة الخلافات بين الفرقاء في ليبيا والاعتماد على هذا الأمر "كمسلك رئيسي لحل مشاكل ليبيا".

اقرأ أيضاً:  موجة فرار جديدة للمصريين في ليبيا تمرّ بتونس

سورية... الوعد المؤجل 

وعلى الرغم من أن الملف الليبي يأخذ الأولوية، إلا أن من بين الملفات الأخرى المطروحة على طاولة السبسي والبكوش الملف السوري ومستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين المقطوعة منذ سنوات، والتي لم يغير فيها "المكتب الإداري" المفتوح في دمشق شيئاً.
واللافت أن السبسي "يفرمل" وعوده الانتخابية بإعادة العلاقات مع دمشق على الرغم من الضغوط التي تمارسها بعض الحساسيات القومية. فقد طالب رئيس المعهد التونسي للعلاقات الدولية، أحمد المناعي، يوم الثلاثاء الماضي، بضرورة إعادة العلاقات الدبلوماسية مع سورية. وأوضح المناعي، خلال مؤتمر صحافي، أنه تم توجيه "عريضة لرئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي للمطالبة بإعادة فتح السفارة السورية في تونس وإعادة العلاقات السورية التونسية والوفاء بوعوده الانتخابية في ما يخص فتح مصالح قنصلية بسورية وتجديد العلاقات السياسية والاقتصادية معها ومع جمهورية مصر، والتخلي عن الإملاءات الغربية من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، واللتين دفعتا بتونس في سنة 2012 إلى مقاطعة سورية".

ويعد الموضوع السوري معقّداً تونسياً، إذ تتداخل فيه الأبعاد الاجتماعية بالأمنية والدولية، فتونس تتفهم من ناحية صعوبة الظروف التي تعيشها عائلات تونسية مقيمة في دمشق، ولكنها تخشى في المقابل عودة آلاف ممن تطوعوا للحرب هناك ضد النظام السوري وانخرط كثير منهم في "داعش". وقد عاد مئات منهم في الآونة الأخيرة إلى تونسي وشارك بعضهم في عمليات ضد الأمن.
كذلك تبدو تونس عاجزة عن تجاهل نظام العلاقات الدولية ولعبة التوازنات الدولية، حيث تعد أهم القوى العربية والدولية في مواجهة النظام السوري.
وتضع هذه الحسابات المعقدة السبسي تحت ضغط كبير، وخصوصاً بعد أن قدم وعداً قبل الانتخابات بإعادة العلاقات التونسية السورية تحت ضغوط داخلية وحسابات انتخابية لا يبدو أنها تنبهت جيداً لخطورة الملف وتعقيداته. وهو ما جعل الوعد الانتخابي يتأخر في التنفيذ وقد أدركته الجهات التي ترى في قطع العلاقات مع سورية خطأ دبلوماسياً وأمنياً كبيراً جعل تونس بعيدة عن مراقبة الشباب الذين يسافرون إلى سورية.

اقرأ أيضاً: تونس: حيرة إزاء العائدين من سورية