نتنياهو يستطلع بالقوة انتفاضة فلسطينية: "العين بالعين" يربك الحسابات

نتنياهو يستطلع بالقوة انتفاضة فلسطينية: "العين بالعين" يربك الحسابات

26 نوفمبر 2014
عودة الملثمين والعمليات النوعية تربك الأمن الإسرائيلي(أحمد غرابلي/فرانس برس)
+ الخط -
أنهى بنيامين نتنياهو محادثة "عاصفة" مع الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الذي طلب أن يعود رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى المفاوضات، وأن يتراجع عن قرار بناء المستوطنات في القدس. كان هذا قبل ثلاثة أسابيع، بحسب صحيفة "معاريف" المقربة من حزب "الليكود" اليميني برئاسة نتنياهو.

ونقلت الصحيفة، عن مسؤولين إسرائيليين، أن نتنياهو أبلغ عدداً قليلاً من المسؤولين حوله بأن أوباما يعتزم التخلي عن دولة الاحتلال، وتركها تواجه وحدها قراراً محتملاً من مجلس الأمن الدولي بمنع الاستيطان في الأراضي المحتلة عام 1967.

تحولت العلاقة الأميركية ــ الإسرائيلية إلى خلاف يسبق الطلاق، فالزواج الأبدي أضحى قائماً على المصلحة لا أكثر، ويمكن فضه عند الضرورة القصوى. إنها المعركة الدبلوماسية الخارجية الصعبة، فالراعي الرسمي يتخلى عن وكيله في لحظات صعبة يُعدّ فيها وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، خطة للعودة للمفاوضات، فيما الفلسطينيون يصرون على التوجه إلى مجلس الأمن.

شرب "بيبي" فنجان قهوته صباحاً مع زوجته سارة، وقرأ في صحيفته المحببة "إسرائيل هيوم" هجوماً لاذعاً ضده من وزير المالية، يائير لابيد، يعارض فيه الصفقة التي أبرمها مع وزراء حزب "البيت اليهودي" ورؤساء مجلس الضفة الغربية. تفيد الصفقة بأن تجميد الاستيطان في الكتل الاستيطانية سيحل وأنه سيتم بناء ألفي وحدة استيطانية مقابل منح نتنياهو الهدوء الائتلافي. وعلى الرغم من ضمان بقاء الحكومة بعد إقرار الموازنة بقيمة 328 مليار شيقل (1 دولار = 3.67 شيقل)، أي بزيادة 2.61 في المائة عن ميزانية 2014، فإن حكومة نتنياهو تعاني عجزاً اقتصادياً كبيراً. وهذا ما دعا محافظة بنك إسرائيل المركزي، كرنيت فلوغ، إلى تقديم وثيقة إلى الحكومة تؤكد فيها أن الحكومة لن تتمكن من الحفاظ على نسبة العجز المستهدفة، وتوقعت أن ترتفع نسبة العجز إلى 3.6 في المائة. وهو ما يعني بالمحصلة أن الحكومة ستكون مضطرة عام 2016 إلى إجراء تقليصات واسعة في الميزانية العامة ورفع نسبة الضرائب، خصوصاً أن الميزانية لم تشمل زيادة الميزانية الأمنية بـ 6 مليارات شيقل، علماً بأنها ارتفعت 8 مليارات في العام الجاري.
وهذا يؤكد أن الميزانية الأمنية ستصل العام المقبل إلى 57 مليار شيقل، يضاف إليها 89 مليار شيقل كفوائد على الديون المستحقة على إسرائيل، ليبلغ إجمالي الموازنة ككل نحو 417 مليار شيقل (112.5 مليار دولار). ويبدو أن إسرائيل ستدفع ثمن الحرب على غزة حتى العام المقبل، بحسب الخبير الاقتصادي الإسرائيلي، رفيت هيخت، في مقال نشر في صحيفة "هآرتس"، تعقيباً على نسبة العجز المستهدف، مشيراً إلى أنه لم يكن ليصل إلى هذا الحد لولا القرار الخاطئ من القيادة العسكرية.

وترى رئيسة حزب "ميرتس"، زهافا غلاؤون، أن "الحكومة صدّقت على ميزانية كاذبة، لأنها تدرك مسبقاً أنها لن تستطيع الالتزام بها. والنتيجة ستكون أن النفقات المدنية ستواصل التقلص، والعائلات الفتية ستواصل الانهيار تحت العبء الاقتصادي". إذاً التظاهرات ستعود إلى ميادين تل أبيب، وستسقط الحكومة في نهاية المطاف.

ترك نتنياهو، الصحيفة وغادر منزله متوجهاً إلى مكتبه، وفي الطريق استمع إلى "الإذاعة الإسرائيلية"، تذيع تصريحاً لمسؤول رفيع في الحكومة، لم تذكر اسمه، يشير إلى أن الحل هو في الانتخابات المبكرة في بداية عام 2015، أما فكرة الائتلاف البديل فليست جدية، مشيراً إلى أن قرار البناء في القدس الأخير الذي اتخذه نتنياهو، ليس خطوة غير محسوبة بل هو خطوة سياسية مخطط لها.

يحتاج نتنياهو إلى الانتخابات المبكرة لضمان بقائه في رئاسة الحكومة، فهو من أدخل المنظومة السياسية في ديناميكية الانتخابات، بانتظار تحديد الجدول الزمني على ضوء الانتخابات التمهيدية، التي سينجح بتمريرها في مؤسسات "الليكود".

وصل إلى مكتبه، فوجد تقريراً فيه عدد الدول في العالم، التي اعترفت بفلسطين دولة وعاصمتها القدس، لا سيما الدول الأوروبية. وعرج على تقرير اقتصادي حكومي يؤكد خسارة إسرائيل 20 مليار دولار جراء مقاطعة دولٍ أوروبية لبضائع المستوطنات. ثم اطلع على تقرير أمني آخر يبشره بأن إسرائيل حاليا ليست على رأس الأولويات السياسية لإدارة أوباما في ظل الحرب على تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وأزمة أوكرانيا والملف النووي الإيراني. فلا بد من استغلال الوضع الدولي القائم للتهرب من الاستحقاقات الدولية والمحلية.

لا بد وأن نتنياهو بدأ يستشعر أن عمره السياسي قد شارف على الانتهاء تحت وطأة العجز الاقتصادي ولا مبالاة إدارة أوباما والتهديدات الفلسطينية وإصراره على عدم التنازل في المفاوضات مع الفلسطينيين. لذلك لا بأس إن استطلع بالقوة في القدس، عبر استفزاز الفلسطينيين، بالمقدسات، وليس المسجد الأقصى وحده مقدساً عند الفلسطينيين. فسرّع عملية التهويد وشراء بيوت المقدسيين بطرق التفافية، وأطلق العنان لجنون المستوطنين المتطرفين في قطع أشجار الزيتون في موسم الحصاد وتعنيف الأطفال وقتلهم، كما حدث مع محمد أبو خضير وبهاء بدر، إضافة إلى رفع نسبة الاعتقالات في القدس والضفة.

حاول نتنياهو استباق المتشددين إلى المربع الخطير. ظهرت أمامه صورة رئيس الوزراء المعتزل إيهود باراك عام 2000، حين فشل في "كامب ديفيد" وتوقفت المفاوضات مع الراحل، ياسر عرفات، فقرر أرئيل شارون، عامداً متعمداً، مخططاً، زيارة المسجد الأقصى فاندلعت الانتفاضة المسلحة حينها. وبعدها هزم شارون باراك بالانتخابات الاستثنائية وأصبح رئيساً للوزراء عام 2001. هذه العملية ربما تتكرر مع نتنياهو والمتشددين خصوصاً مع زعيم "البيت اليهودي"، نفتالي بينيت، لذلك يريد قيادة الموجة التحريضية والإمساك بزمام الأمور على الأرض.

يدرك الفلسطينيون أن عسكرة المواجهات مع الاحتلال تساعد نتنياهو على الخروج من أزمته. فاستخدموا الحجارة وهو سلاحهم الأزلي في مواجهة الاحتلال. ويُعتبر رشق الحجارة هواية فلسطينية يتوارثها الفلسطينيون بالجينات، فأصدر الاحتلال قراراً بتغريم راشق الحجارة بأكثر من 500 شيقل مع إمكانية السجن لسنوات طويلة. لم تنفع قرارات الاحتلال كلها ومن ضمنها هدم منازل المتظاهرين، فاعتمد الشبان الألعاب النارية سلاحاً حارقاً مع زجاجات "المولوتوف"، مما دفع الاحتلال إلى بيع الألعاب النارية، لكنه أيضاً فشل. فتش الفلسطينيون في أرشيفهم، فوجدوا خليل أبو علبة، شاهداً على ابتكار فعال. فهو مؤسس عمليات "الدهس" عام 2001، في بلدة يازور شرق حيفا، وخلفت عمليته ثمانية قتلى و21 مصاباً، غالبيتهم من الجنود الإسرائيليين.

تأسس تنظيم "الفرد" في الأراضي المحتلة، مع أن نتنياهو يُمني نفسه بخلايا "داعش" ليصم الفلسطينيين ومقاومتهم بالإرهاب، ويجتاح الضفة مجدداً تحت غطاء دولي. والتنظيم الفلسطيني الجديد يقوده أفراد لا يعرفون بعضهم بعضاً، ويجمعهم نظام داخلي لم يكتبوه، وأهداف لم يعلنوها وأدبيات تؤكد نوعاً جديداً من المقاومة. يناور أفراد التنظيم الحديث، فلا مكان للأحزمة الناسفة. ويكذب من يقول إن الضفة خالية من السلاح، فالمخيمات تحديداً تعوم على كافة أنواع الأسلحة. ومن يملك مسدساً، مثل معتز حجازي، ليغتال الحاخام يهودا غليك، يمكنه أن يؤمن "كلاشينكوف" وعبوة ناسفة. لكن عدي وغسان أبو جمل، وجدا بالبلطة، مع المسدس، سلاحاً يوازي الصاروخ، فاقتحما الكنيس اليهودي في جبل المكبر، رداً على شنق المستوطنين يوسف الرموني. ومن يستطع فتح ثغرة في الجدار الإسمنتي المسلح الفاصل، من دون أن يدري الأمن الإسرائيلي، يمكنه أن يتسلل مُلغماً إلى أية منطقة يريدها.

هذا التنظيم لم يربك الإسرائيليين فقط، إنما خلط أوراق الفصائل الفلسطينية، فراحت تتسابق لنعي هذا الشهيد وتتبنى تلك العملية، إلى درجة أن غالبية الفصائل اعتمدت في كشوفاتها، الشهيد عبد الرحمن الشلودي، الذي دهس مستوطنين قبل أسبوعين في القدس قبل أن تقتله شرطة الاحتلال.

لن تتوقف العمليات الفردية، فبعد الطعن، الدهس، والحجارة، والألعاب النارية، ستظهر أنواع أخرى في ردة الفعل الفلسطينية، فربما يجد المستوطنون غداً كنيساً أو محال تجارية قد شبت فيها الحرائق، أو بئر مياه قد دُس فيه السم. وستنتقل العمليات إلى المحظور وقتل سياسيين من الطرفين والاعتداء على أطفال المدارس، ويصبح أي مكان يجمع فلسطينيين ومستوطنين مكاناً للمواجهة، ومباراة كرة القدم الأخيرة بين "اتحاد أبناء سخنين" و"بيتار القدس" بداية لا أكثر. والأهم أنها ستتمدد إلى مناطق الخط الأخضر وقرى ومدن الضفة. هذا يبدو حتمياً في سيناريو "العين بالعين"، والمرجح أن تنتقل ردة الفعل إلى بلدان أوروبية وعالمية، عبر اشتباكات فردية أيضاً أو أعمال تستهدف السفارات والدبلوماسيين.

يستفيد الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، من زيادة الاحتقان في الشارع الفلسطيني بشرط أن تبقى ضمن "أسلوبه الغاندي"، أي المقاومة الشعبية، خصوصاً إن كان خارج مناطق "أ" التي تحت سلطته أمنياً وإدارياً. سيستثمر أبو مازن ما يحصل في الشارع، فهذا سيكون عامل ضغط على نتنياهو للعودة إلى المفاوضات. لكن الحكومة الإسرائيلية التي لا ترى في الأمر خطورة حتى اللحظة، لا سيما وأن المحيط العربي غارق في همومه ولن يلتفت إلى الأقصى، ستعمل على تأجيج الوضع حتى تتملص من الاستحقاقات السياسية. هنا يلعب نتنياهو بنار الحرب الدينية التي لا بد وأنها ستنقلب على الإسرائيليين. ففي سابقة من نوعها، أصدر حاخامات يطالبون اليهود بعدم اقتحام المسجد الاقصى بعد موجة العمليات الفردية، ويحملون المستوطنين المسؤولية عن انهيار الوضع الأمني الخطير. مثل هذا التطور في صفوف رجال الدين سينعكس على السياسيين والأمنيين وإن استمر حرس الحدود في قمع الفلسطينيين والاعتداء على الأقصى، ستكون معركة الوجود، وعمليات "الفرد" ربما تتحول إلى عمليات "المجموعة" وتضع الفصائل ثقلها في انتفاضة جديدة، لن تكون كسابقاتها، حينها سيصعب على نتنياهو، التنقل بحرية، لذلك سيفضل البقاء في البيت أو المكتب.

المساهمون