تركيا وتحالفها الصعب مع الغرب

تركيا وتحالفها الصعب مع الغرب

17 أكتوبر 2014
وافقت فرنسا على إقامة منطقة آمنة (فرانس برس)
+ الخط -

أبدى المسؤولون الفرنسيون غزلاً ظاهرياً أمام المسؤولين الأتراك في الأيام الماضية، في محاولة لإظهار حسن العلاقات مع تركيا.

مشهدٌ، وإن بدا جميلاً، إلا أنه غير مألوف، ولا يعبّر كثيراً عن حقيقة الموقف سواء بالنسبة للحرب على تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، أو بالنسبة لتصريحات المسؤولين الفرنسيين بشأن إزالة عدد من العقبات في ملف مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، ورفع بعض القيود من خلال فتح الفصول في هذه المفاوضات. 

ويدرك مراقبون أن هذا الكلام المعسول الصادر عن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، ووزير خارجيته لوران فابيوس، بشأن دور تركيا، ليس إلا واجهة لا تعكس حقيقة التباين والجدل القائم بين فرنسا والغرب وتركيا. ويبقى موضوع إقامة "منطقة عازلة" في شمال سورية نقطة خلاف أساسية بين الطرفين. تريد تركيا إقامة "منطقة حظر جوي"، وليس فقط منطقة آمنة أو منطقة عازلة.

وقد أظهرت معركة عين العرب (كوباني) في سورية، غياب الرؤية الموحدة عند أركان التحالف الدولي الذي تهافتت الدول الغربية ومعظم دول المنطقة على الانضمام إليه، والانخراط في صفوفه تحت وطأة الحماسة التي طبعت إلى حد كبير مؤتمر "باريس للأمن والسلام في العراق"، الذي عقد منتصف الشهر الماضي. ولكن ما فات الذين شاركوا في هذا الاجتماع، هو غياب آلية واضحة لتقاسم الأدوار والمهمات مكتفين بعنوان عريض يحمل في طياته ثغرات كثيرة، وبذور تباينات في وجهات النظر. وإذا لم تعالج الخلافات داخل التحالف الدولي بسرعة، ستنخفض فعالية تأدية المهمة التي أنشئ من أجلها، وهي مواجهة خطر "داعش".

عند انعقاد مؤتمر باريس كان الخطر الداهم محصوراً في العراق، ولم يكن مقاتلو "داعش" قد شنوا هجومهم على مدينة عين العرب عند الحدود السورية التركية.

الجميع خائف من "داعش"، ولكن لكل من دول التحالف أسبابه وحساباته الخاصة. وقد شّكل غياب آلية التحرك وتوزيع المهمات في هذه المواجهة سبباً أساسياً في تعثر التوصل إلى خطة عمل مشتركة يتولى كل طرف فيها مهمة محددة. 

وإذا كانت الولايات المتحدة التي انضمت إليها دول غربية وعربية في توجيه الضربات الجوية لا تواجه أي مشكلة في التنسيق مع الحكومة العراقية، أو حول الغطاء الشرعي لتدخلها، بما أن هذا التدخل يأتي بطلب من حكومة بغداد، فإن الوضع يختلف في سورية، التي يرفض معظم أعضاء التحالف التحادث مع سلطاتها.

وفي مقابل عداء غالبية أعضاء التحالف للنظام السوري في دمشق، يعتمد الأخير على دعم مطلق من حليفه الروسي الذي لا يزال يمسك بورقة حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. ولطالما تذكر موسكو في كل مناسبة بالحاجة الى قرار دولي يجيز أي عمل عسكري في سورية. وتخفي روسيا بذلك ألف سبب وغاية ومصلحة سياسية.

لم يشكل الموقف التركي الرافض للمشاركة في الأعمال الحربية لمواجهة "داعش" في العراق أي إحراج عملي لتماسك هذا التحالف أو لمسار المواجهة. ولكن معركة عين العرب غيّرت المعادلة وأصبحت تركيا تحت المجهر، وأصبح موقفها عامل حسم في مصير عين العرب وما يرتبط بها.  

يحث التحالف الدولي، أنقرة على التدخل في عين العرب، وتتخوف الأمم المتحدة من وقوع مجازر بعد سيطرة "داعش" على أربعين في المائة من المدينة الكردية السورية.

وتتزايد الضغوط الأميركية على أنقره مطالبة إياها بالتدخل في المعارك الدائرة على مرمى نظرها ومدفعيتها، فيما الإدارة الأميركية نفسها مترددة أو منقسمة بين ما يقوله البيت الأبيض وما يريده البنتاغون. وبين هذا التردد والانقسام، اختار وزير الخارجية الأميركي جون كيري، التدخل لتوضيح  اللغط الدائر حول إقامة منطقة حظر جوي أو منطقة عازلة، ليقول إن الأمر لم يطرح مع أنقرة، في الوقت الذي كان فيه هولاند يؤيد مطلب تركيا في إقامة هذه المنطقة.

ووسط هذه التجاذبات يجد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، نفسه في موقع القادر على رفع سقف المطالب في وجه حلفائه، واعتماد الحذر قبل حسم موقفه بالتدخل وبحدود هذا التدخل وحجمه. 

ويلاحظ أن أنقرة غير متحمسة لمواجهة "داعش" بسبب المعضلة الكردية، ولأنها تخشى أن يستهدفها التنظيم لاحقاً. هذا إضافة إلى أن أولوياتها تتناقض مع سياسة واشنطن، ولا سيما أن مصادر متطابقة تؤكد أن البيت الأبيض أعاد اتصالاته مع النظام السوري بحده الأدنى، وهو ما يغيظ أنقرة التي تشترط لأي تدخل عسكري في الحرب السورية عموماً، وفي عين العرب تحديداً، عدم تعويم الرئيس السوري بشار الأسد، وعدم التخلي عن هدف إسقاطه.

إلا أن موقف أنقرة قد ينقلب عليها، لأن سقوط عين العرب يدفع بمصير المنطقة برمتها نحو المجهول حسب عدد من الدبلوماسيين، ويهدد عملية السلام مع حزب "العمال" الكردستاني ويهز الاستقرار الداخلي في تركيا، في ظل الاحتجاجات الدامية التي يقوم بها يومياً أكراد تركيا للمطالبة بدعم أشقائهم في عين العرب.

وهذه الاحتجاجات تهدد أيضاً الأمن في بعض الدول التي تستضيف جاليات كردية، كما هو الحال في ألمانيا التي تستقبل نحو مليون كردي، وباتت تخشى من تصدير النزاع إلى أراضيها التي شهدت مواجهات بين الأكراد وإسلاميين أثناء تظاهرات في مدينة هامبورغ.

ولن تسلم تركيا من تحميلها مسؤولية معنوية عن مأساة إنسانية بدأت تصيب سكان عين العرب، وقد ناشدها المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي مستورا، فتح حدودها أمام الهاربين من جحيم المعارك في معرض تحذيره من مجزرة كبيرة إذا ما سيطر "داعش" على المدينة.

في هذا النزاع تمتلك تركيا أوراقاً تساوم عليها وتواجه خصوماً يمتلكون أوراقاً تضرّ بمصالحها. فمن جهة، هي الوحيدة القادرة حالياً على مواجهة "داعش" في عين العرب، وقادرة على طرد مقاتلي التنظيم الذين يهددون أمنها. ولكن أنقرة تبدو غير مستعدة لمساعدة الأكراد، فهي تخشى من انتقال عدوى المطالب الكردية إلى ترابها. ذلك أن مطالبة أكراد سورية بإقامة منطقة مستقلة على غرار ما هو الوضع بالنسبة لأكراد العراق، يمكن أن يشجّع أكراد تركيا على المطالبة بالمثل. وهي مستعدة لتأهيل وتدريب معارضين سوريين معتدلين، ولكن شرط أن يتسلموا إدارة "المناطق المحررة"، وأن يتولوا السلطة في البلاد بعد إسقاط النظام السوري.

وفي الواقع، إن محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" آخر ما يشغل تركيا. فهي لن تقوم بأي شيء في سورية وستجدد مطالبتها للتحالف بإقامة "منطقة عازلة"، مدركة أن هذا الأمر معقّد، وربما صعب المنال، لأنه يتطلّب موافقة مجلس الأمن الدولي.

كما أنها غير مستعجلة للدخول في معركة إنقاذ أكراد سورية، لأنها تعرف أن بكاء الغرب عليهم بكاء من دون ألم ولا دموع، ومكانتهم لا توازي مكانة أكراد العراق الذين يمتلكون النفط، وأقاموا تحالفاً مع الولايات المتحدة، بينما لا تربط الغرب أي مصالح بأكراد سورية. في المقابل، يبقى حزب "العمال" منظمة "إرهابية" بنظر أنقرة وواشنطن، وأن من يخوض نزاعاً مسلحاً منذ عام 1984 هو أخطر من تنظيم "داعش" بالنسبة لتركيا.