حواجز الضفة الغربية: غيتوهات من صنع الاحتلال

حواجز الضفة الغربية: غيتوهات من صنع الاحتلال

30 أكتوبر 2015
الحواجز باتت تُستخدم لقتل الفلسطينيين عمداً (إيليا يفيموفيتش/Getty)
+ الخط -
دقائق قليلة كانت كافية لإنقاذ حياة الفلسطيني نديم شقيرات (52 عاماً) الذي استُشهد بعد عرقلة قوات الاحتلال لسيارة إسعاف كانت تقله من جبل المكبر باتجاه المستشفى، حيث انتشرت الحواجز العسكرية الإسرائيلية بين الأحياء الفلسطينية في القدس المحتلة، ليكون الشهيد الثاني بعد المواطنة هدى درويش من بلدة العيسوية في القدس المحتلة والتي استُشهدت للأسباب نفسها، وهي الحواجز العسكرية الإسرائيلية التي حوّلت أحياء القدس، ومدن الضفة وبلداتها إلى معازل ومتاهة من "الغيتوهات".

وتعكس سياسة العزل و"الغيتو" ذهنية الاحتلال وتصوّره الوحيد لحل مشاكله الأمنية، وما بين آلاف الحواجز والجدران، والمكعبات الإسمنتية، والبوابات الإلكترونية ومجسّات الأمن والكاميرات، تبني دولة الاحتلال أمنها، على أمل أن تصد بذلك أي هجوم مرتقب لفلسطيني أعزل إلا من سكين.

وبدت الترجمة الفعلية لحالة الذعر الأمني الإسرائيلي بازدياد الحواجز وبناء المزيد من الجدران في الضفة الغربية المحتلة، منذ مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين انطلقت هبّة الغضب الجماهيرية، وباتت الضفة عبارة عن جزيرة كبيرة تضم معازل وغيتوهات حقيقية في منظر شبيه بما فعله الاحتلال في الضفة خلال انتفاضة الأقصى.

تشير المعطيات الحالية لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، إلى أن قوات الاحتلال نصبت 152 حاجزاً "طياراً"، أي غير ثابت، فيما تمركز جنودها بصورة دائمة عند 16 حاجزاً، من بين 25 حاجزاً في الضفة الغربية لم يكن يتمركز عندها الجنود سوى في بعض الأحيان.

لعل الأسوأ أن هذه الحواجز تُستخدم لقتل الفلسطينيين عمداً، في حالة اشتباه أو عن سبق إصرار لجندي غاضب، وعادة ما يفلت هؤلاء الجنود من العقاب تحت ذريعة أن الفلسطيني حاول قتل جندي، على الرغم من أن الحواجز مزودة بمئات الكاميرات والمجسّات الأمنية، ويتمترس الجنود خلف مكعبات الإسمنت أو الزجاج الواقي من الرصاص، أو في أبراج فولاذية، ومع ذلك تحوّلت حواجز مثل قلنديا شمال القدس، وزعترة جنوب نابلس، وجبع شرق القدس، إلى حواجز لتصفية الفلسطينيين من دون حساب. ومنذ اندلاع الهبة الفلسطينية مطلع الشهر الحالي، استُشهد 14 فلسطينياً على الحواجز العسكرية الإسرائيلية، حسب ما أفادت مؤسسة "الحق" لـ"العربي الجديد".

ويؤكد مراقبون ومحللون أن الاحتلال لم يتخلَ يوماً عن حواجزه العسكرية، حتى في أفضل حالاته التفاوضية مع القيادة الفلسطينية، إذ تم الإبقاء على الحواجز العسكرية الإسرائيلية على مداخل المدن والبلدات والقرى، من دون جنود أحياناً، أو مع جنود لا يعترضون المواطنين ومركباتهم، فيما يبقى بنيان وهيكل الحاجز العسكري بمكعباته الإسمنتية وأبراجه الفولاذية، ثابتاً، كأنه بات جزءاً من جغرافيا مداخل المدن والبلدات الفلسطينية، في تذكير دائم للفلسطيني مفاده "الاحتلال هنا".

ويُطبّق الاحتلال من خلال هذه الحواجز سياسة "الولد المؤدب"، فإذا كانت هذه البلدة أو المدينة هادئة ولم تشهد مواجهات أو عمليات مقاومة، تكون الحواجز العسكرية مفتوحة، لكن مع أول مواجهات مع الاحتلال، يُطبق الأخير بقيوده على رقبة المدينة أو القرية، عبر تفعيل الحاجز ليعود لمهمته الأساسية وهي خنق الفلسطيني وعزله، وهذا ما حصل بالفعل على مداخل عشرات المدن والقرى والبلدات منذ مطلع الشهر الحالي.

وتفيد أرقام "أوتشا" بأن الضفة الغربية المحتلة شهدت سنوات انتفاضة الأقصى وجود 630 حاجزاً وسداً ترابياً وعائقاً أمام حركة المواطنين الفلسطينيين، وعلى الرغم من أن عدد الحواجز في الوقت الحالي لم يصل إلى ما وصل إليه في ذروة انتفاضة الأقصى، فإن حياة الفلسطينيين وحركتهم باتت معقدة ومحفوفة بالمخاطر، إذ أصبح السؤال الأول الذي يشغل بال الطالب والعامل والموظف والمواطن، وسائق المواصلات العامة "كيف وضع الطريق اليوم"؟

ويعيش الفلسطيني بين نارين، نار الحاجز العسكري الذي يُنكّل بالمواطن ويجعل من مشواره إلى المستشفى الذي يجب أن يستغرق بضع دقائق، ساعات قد تؤدي إلى موت محقق، أو يجعل طريقه لعمله تستغرق ساعات، وبين طرق أخرى يسيطر عليها المستوطنون المسلحون، حيث يعتلون الهضاب ويرشقون المركبات الفلسطينية بالحجارة ويطلقون النار عليهم في مشهد بات شبه يومي.

يقول رئيس معهد الأبحاث التطبيقية جاد إسحق لـ"العربي الجديد"، إن إسرائيل لم تتخلَ أبداً عن مخططها في صنع المعازل، وحتى عندما لا تصنعها تلوّح بها، إذ يتمترس الجنود على الحواجز العسكرية لأسابيع لا يفعلون شيئاً ولا يعيقون حركة المواطنين الفلسطينيين، وفي لحظة يغلقون الحواجز بوحشية وينفذون أعمال تفتيش مهينة بحق المواطنين.

ويرى اسحق أن "الاحتلال يقوم من خلال الحواجز بشد الخناق على الفلسطينيين في فترة المواجهة، ويتركهم يتنفسون في حال لا توجد مواجهات"، معتبراً أن "الاحتلال غير راغب حالياً في خنق الفلسطينيين بشكل كامل، وإغلاق كل الحواجز العسكرية في عقوبات جماعية كاملة، كما كان الأمر في سنوات انتفاضة الأقصى، بل يلجأ إلى إغلاق بعض الحواجز وتفعيل بعضها الآخر، بهدف تنفيس هبّة الغضب الشعبية".

ويشرح أن "الاحتلال لن يُقدم على عقوبات جماعية مباشرة عبر إغلاق كل الحواجز العسكرية في الضفة الغربية بالوقت نفسه، حتى لا يرتد عليه الغضب، ويُفاقم من وضع هبّة الغضب الشعبية، لذلك لم يتخلَ الاحتلال عن إصدار مئات التصاريح للعمال والأعياد على الرغم من الهبّة الحالية".

اقرأ أيضاً: الخليل... "توأم القدس" تقود الانتفاضة كي لا تصدَّر مأساتها

تفعيل الحواجز لعقاب المقاومة

يحرص الاحتلال في الوقت الراهن على تفعيل الحواجز كعقاب جزئي للمدن والبلدات التي تنطلق منها المواجهات وعمليات المقاومة، وكان نصيب القدس والخليل الأكبر من هذه الحواجز، في رسالة واضحة لبقية المدن، أن المواجهات ستعني إغلاق الحواجز وعقاب البلدة وأهلها.

يقول مدير المناصرة في مركز القدس للمساعدة القانونية، عبد الله حماد، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "الحواجز العسكرية ومكعبات الإسمنت التي وضعها الاحتلال في أحياء القدس منذ مطلع الشهر الحالي، أثبتت أن ما تقوله إسرائيل إن القدس عاصمتها الموحدة، أمر عارٍ عن الصحة". ويشير إلى أن "الجدران والبوابات الإلكترونية التي وضعها الاحتلال في القدس الشرقية لم توضع بين مدينة وأخرى، بل بين الأحياء السكنية أي تم الفصل بين الحي السكني وامتداده الطبيعي في المدينة، ما يكشف عجز الاحتلال عن السيطرة على المدينة المقدسة".

ووثّق مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة "بتسيلم" نصب سلطات الاحتلال 35 حاجز تفتيش معززاً بقوات الأمن ومعوقات خرسانية على مداخل القرى والأحياء في القدس الشرقيّة.

وأفادت معطيات "بتسيلم" حتى تاريخ 21 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بأن "21 معوقاً مادياً يحول دون حركة مرور السيارات بشكل تام، وهي مكوّنة من كتل خرسانيّة. أربعة من هذه المعوقات معززة بعناصر شرطة حرس الحدود الذين يقومون بتفتيش العابرين المارين من المكان (أحدها على الطريق من العيسوية إلى مستشفى "هداسا هار هتسوفيم"، مكوّن من صخور وتراب وموجود منذ سنوات طويلة، لكن تمّ تعزيزه بعناصر الشرطة الآن). و16 من المعوقات غير معززة".

وحسب بيانات المركز، توجد "14 نقطة تفتيش معززة بعناصر شرطة حرس الحدود التي تسمح بمرور السيارات بشكل يخضع لعمليات تفتيش عشوائية للسيارات والمسافرين، وهذه الحواجز والمعوقات تُضاف إلى 12 حاجزاً ثابتاً تفصل القدس الشرقية عن الضفة الغربية وبعض أحياء القدس الشرقية، التي تُرك سكّانها خلف الجدار". ووثّق المركز "في الأيام الأخيرة عدداً من الحواجز الفجائيّة المؤقتة في مناطق مختلفة من المدينة، حيث أوقف عناصر الشرطة حركة المرور وقاموا بتفتيش المسافرين".

وشدد المركز على أن "المعوقات العديدة المنشورة في أرجاء القدس الشرقية، تمسّ بشدة روتين حياة ما يقارب 300 ألف فلسطيني من سكان القدس الشرقية"، موضحاً أنه "على الرغم من أن الإغلاق ليس تاماً، إلا أنه في معظم المناطق، يقوم بتوجيه كلّ الحركة المرورية إلى طرق التفافيّة، وهذا يُسبّب الكثير من الاختناقات المرورية"، لافتاً إلى أنه "في حيّ العيسويّة الذي يقطنه أكثر من 15 ألف شخص، تركت قوات الأمن طريقاً واحداً فقط لخروج المركبات، فضلاً عن أن عمليات التفتيش تخلق أيضا تأخيرات كبيرة في حركة المرور. نتيجة لهذا كلّه يصل تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات والعمال في وقت متأخر إلى أماكن الدراسة والعمل".

وفي جنوب الضفة الغربية حيث محافظتا بيت لحم والخليل، بدا إغلاق الحواجز العسكرية وتفعيل بعضها وإغلاق البلدات عملاً يومياً لسلطات الاحتلال، التي ترى في المقاومة في محافظة الخليل تحديداً، هبّة يجب إطفاؤها بأسرع وقت ممكن، وذلك عبر خنق المحافظة، من خلال حاجز "الكونتنير" العسكري الرئيسي الذي يربط جنوب الضفة بوسطها وشمالها، فضلاً عن نصب القوات الإسرائيلية عشرات الحواجز العسكرية على مداخل القرى والبلدات في مدينة الخليل، والشروع بعمليات عرقلة يومية لحركة السير بهدف التدقيق في هويات المواطنين.

وفي بيت لحم، أغلقت سلطات الاحتلال ما يُسمى بحاجز 300 العسكري المقام عند المدخل الشمالي للمدينة، والذي يفصلها عن مدينة القدس، ويسلكه العمال الفلسطينيون من حَمَلة التصاريح، إضافة إلى حملة الهوية المقدسية.

وعادة ما يتم إغلاق الحاجز، بحجة أن المستوطنين سيقومون بأداء طقوس تلمودية دينية في قبة مسجد بلال بن رباح عند مدخل مخيم عايدة للاجئين الفلسطينيين، الأمر الذي سيدفع الفلسطينيين إلى التوجّه إلى ما يُعرف بحاجز "النفق" المقام في بلدة بيت جالا القريبة، فضلاً عن وضع سلطات الاحتلال المكعبات الاسمنتية على الشارع الرئيسي عند مخيم عايدة، إذ يُعتبر هذا الشارع رئيسياً ويستخدمه كل المارين من مدينة بيت لحم باتجاه مدنهم الفلسطينية الأخرى. وفي شمال الضفة لم يكن الأمر أفضل حالاً من حيث انتشار الحواجز وازدياد همجية الجنود سواء بإجراءات التفتيش أو عرقلة الفلسطينيين.

اقرأ أيضاً: الانتفاضة الفلسطينية تضرب الخطة الخمسية لجيش الاحتلال

المساهمون