تونس وتحدّيات الأمن: تغيير استراتيجية الجبل أولوية

تونس وتحدّيات الأمن: تغيير استراتيجية الجبل أولوية

15 فبراير 2015
تولي حكومة الصيد الملف الأمني أولوية قصوى (فرانس برس)
+ الخط -

تبدو الحكومة التونسية الجديدة، على درب سابقتها، مقتنعة بضرورة إيلاء الملف الأمني أهمية قصوى، وهو ما برز بشكل واضح خلال وعود الرئيس الباجي قائد السبسي الانتخابية، وكذلك رئيس الحكومة الجديدة الحبيب الصيد في خطاب التكليف أمام مجلس النواب، وتلقفه أعضاء حكومته مباشرة بعد تسلمهم لحقائبهم.
ويعكس هذا التوجّه إدراكاً كبيراً بضرورة تغيير الاستراتيجيّة وتطوير التعاطي مع ملف الجماعات المتشددة، والتسريع بما تبقّى من خطوات عمليّة وقانونيّة لتغيير ميزان القوى نهائياً، على الرغم من النجاحات الكثيرة التي حقّقتها القوات الأمنيّة خلال الأشهر الأخيرة.

وتأتي أحداث اليومين الأخيرين، لتلقي بظلالها على الموضوع، فقد أعلنت وزارة الداخلية التونسيّة، قبل أيام قبضها على 32 عنصراً متشدداً كانوا ينوون تنفيذ عمليات إرهابية، تستهدف مواقع حساسة جداً في تونس العاصمة ومحافظة قفصة في الجنوب وبعض المدن الأخرى، ومن بينها مقر وزارة الداخلية وثكنة الحرس الوطني في العاصمة، بالإضافة إلى مواقع مدنيّة. ويعني ذلك تغيير استراتيجية الجماعات المتطرفة، وقرارها بخوض "حرب على الجميع"، باستهداف المدنيين من ناحية والانتقال من استهداف أمنيّين وعسكريين فرادى إلى الاعتداء على الأهداف الكبرى والتجرؤ على أهم المواقع الأمنيّة في تونس على الإطلاق.
في موازاة ذلك، تخلّل الشهر الأخير عدد من العمليات المتمثّلة في محاولة كسر الجماعات المتشددة للطوق المفروض عليها في الجبال، والاعتداء على بيوت ومحلات صغيرة من أجل الحصول على المؤونة، خصوصاً مع اشتداد موجة البرد في الشمال الغربي للبلاد، حيث تتحصّن هذه المجموعات منذ سنوات، من دون حسم الموضوع بشكل نهائي.

ويدفع هذا الواقع وزير الدولة للأمن رفيق الشلي، إلى اعتبار أنّ مقاومة الإرهاب "تمرّ عبر تضييق الخناق على المجموعات المتحصّنة في الجبال، وخصوصاً في الشعانبي، والتي تجد في التسلّل إلى ليبيا المتنفّس الوحيد للهروب، وبالتالي يتوجب غلق المنافذ". ويقول في تصريحات إلى "العربي الجديد"، إنّه "كلّما تمّ تضييق الخناق سيسعون إلى الاحتطاب ويبحثون أكثر عن المؤونة"، معتبراً أنّ "توقّف الدعم سيسهّل القضاء على هذه العناصر". وتُعدّ "مقاومة الإرهاب" والقضاء على هذه الآفة الملف الأهم في الوقت الراهن، وفق الشلي، الذي يشير إلى "برنامج كبير لمقاومة الجريمة المنظمة، في وقت يبدو فيه الوضع الليبي مقلقاً في ظلّ انتشار الفوضى والتقاتل بين الفرقاء السياسيين".

وتتقاطع هذه النظرة، إلى حدّ كبير، مع نظرة وزير الداخلية السابق لطفي بن جدو، الذي سبق وتحدّث عن ضرورة "تغيير استراتيجية الجبل، لاستحالة غلق كل المنافذ واتساع رقعة المراقبة، وضرورة السيطرة المطلقة على الشعانبي والجبال المجاورة بهجوم موسع على نقاط تمركز الجماعات المتشددة وحسم الموضوع نهائياً". ويستوجب هذا الهدف حصول هذه القوات على العتاد اللوجيستي الضروري، وهو ما يدفع الشلي إلى التأكيد على أنّ "دعم الأجهزة الأمنيّة والجيش بالتجهيزات والمعدات، وتوفير مزيد من الأمن للمواطنين، ومقاومة الجريمة المنظمة بمختلف أنواعها من تهريب للسلاح والمخدرات، من أهمّ أولويات الحكومة".

ويدعو إلى "تكثيف الجهود لمقاومة مختلف هذه الظواهر المتطرفة"، مشدداً على أهميّة "معالجة ظاهرة استقطاب العناصر الشبابية التونسية ضمن المجموعات القتالية والنظر في ملف العناصر التونسية العائدة من ساحات القتال كسورية، خصوصاً بعدما تبيّن أنّ من بين المقبوض عليهم أخيراً، عناصر عائدة من سورية".
والمؤكّد أنّ أي استراتيجية في الجبل تمرّ حتماً عبر التنسيق مع الجارة الجزائر، التي تتقاسم "الهمّ الجبلي" ذاته منذ سنوات، وتُستنزف قواتها أيضاً في مراقبة النقاط الشاسعة التي يتسلل منها المسلحون ويستهدفون دورياتها الأمنية، خصوصاً في الجنوب الشرقي للبلاد، حيث تتقاطع الحدود الجزائرية والتونسية والليبية. وإدراكاً منها لعمق الجزائر الاستراتيجي، وأهميتها وتجربتها في الموضوع، سارعت الحكومات التونسية المتعاقبة إلى تعزيز التعاون مع الجزائر، وبلغ مع حكومة مهدي جمعة السابقة حدّ التنسيق اليومي. وعلى المنوال ذاته، سارع السبسي إلى زيارة الجزائر في تقليد سياسي تونسي قديم، يؤكّد في الوقت ذاته هذه الحاجة المشتركة للحدّ من خطورة المجموعات المتشددة، التي ترهق الجانبين منذ سنوات، خصوصاً في ظلّ تدفق الأسلحة من ليبيا.

وفي هذا السياق، يُعرب الخبير في الجماعات الإسلامية، علية العلاني، عن اعتقاده بأنّ "الحكومات المتعاقبة في تونس تركت للأسف عدداً من المسائل من دون علاج، إذ لم تتمّ مراقبة الشباب الذين يتمّ تسفيرهم ولا منع رفع الرايات التي تعبر عن الانتماء إلى "أنصار الشريعة" والجماعات المحظورة". ويؤكّد في تصريحات إلى "العربي الجديد"، أنّ "هؤلاء كانوا ينظمون اللقاءات والاجتماعات في عدد من المناطق وحتى داخل العاصمة، ولم تجرِ كذلك مراقبة الجمعيات والأموال المتدفّقة"، مستنتجاً بأنّ "الدولة كانت غير حازمة وهو ما يفسّر الكثير من التجاوزات ونشأة الخلايا النائمة وتدربها في الجبال، قبل أن تظهر النتائج تباعاً".

ويشير العلاني إلى أن "ظاهرة الإرهاب شهدت بعد الثورة في تونس، تراجعاً واضحاً مع حكومة مهدي جمعة، على الرغم من تواصل سقوط الضحايا من الأمنيين والعسكريين"، مؤكداً "السيطرة خلال السنة الماضية على البنية التحتيّة الجهاديّة واقتلاعها بنسبة كبيرة". ويعتبر أنّ "مقاومة الإرهابي ومن تعرّض لعملية غسل دماغ، لا تكون إلا بغسل دماغ مضاد، وهو ما لا يمكن أن يحصل إلا من خلال منظومة ناجعة ومتكاملة"، مشدداً على "ضرورة تفعيل قانون الإرهاب".

ويتقاطع العلاني مع ما يقوله "رئيس جمعية آفاق للأمن الداخلي والديوانة"، سيف الله الهيشري، لـ "العربي الجديد"، مشيراً إلى "ضرورة إشراك مكوّنات المجتمع المدني وجميع الأطراف لأنه لا يمكن للمقاربة الأمنية بمفردها أن تقضي على الإرهاب". ويقترح الهيشري "وضع مقاربات في جميع المجالات، تفعّل على شكل لجان وتترجم لوضع مقاربة واضحة في مجال مكافحة الإرهاب". ويرى أنّ "من أهمّ التوصيات التي يتوجهون بها إلى الحكومة الجديدة، تدعيم القوات الأمنيّة وإشراك المجتمع المدني في صياغة القوانين وأخذ القرارات وتفعيل قانون حماية أعوان الأمن خارج أوقات العمل"، في إشارة إلى الاعتداء على بعضهم خارج أوقات العمل حين يكونون بلا سلاح.

ويتوجّب على الحكومة التونسية حسم هذه النقاط القانونية واللوجستية، بصورة سريعة، خصوصاً ما يتعلّق بقانون مكافحة الاٍرهاب الذي أوكله المجلس التأسيسيّ إلى مجلس نواب الشعب الجديد، مع ما يرافقه من خلافات جديّة حول عدد من فصوله. وتدرك الحكومة التونسيّة أنّ حسم موضوع المجموعات الدينيّة، على تعقيده وتداخل البعد العسكري فيه بالأبعاد الاجتماعية والثقافية والدينية، أمر ضروري لإعادة مناخ الثقة إلى قطاع الاستثمار وتمهيد الطريق لموسم سياحي ناجح، هو السبيل لإخراج الاقتصاد التونسي من حالة التردي التي يعيشها.