انتقادات أجنبية وراء تحوّل موقف السيسي من شركات الجيش

انتقادات أجنبية وراء تحوّل موقف السيسي من شركات الجيش

10 نوفمبر 2019
منح السيسي الجيش صلاحية تأسيس الشركات (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -


خلال أسبوع واحد، أدلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بتصريحين مفاجئين، يتناقضان تماماً مع سياساته المكرسة منذ توليه السلطة بمنح الجيش وغيره من الأجهزة السيادية والأمنية، كالمخابرات العامة والرقابة الإدارية والأمن الوطني، أفضلية مطلقة على حساب القطاع الخاص والشركات الحكومية وكذلك الجهاز الإداري للدولة، في مباشرة المشاريع الاقتصادية، وبالأخص ذات الصفة القومية، بهدف تحقيق استفادة اقتصادية قصوى للجيش وشركاته المختلفة، وبدرجة أقل بكثير باقي الشركات التي أسستها الأجهزة الأخرى، سواء للالتحاق بالجيش في ركب الاستفادة المالية، أو مزاحمته اقتصادياً في بعض الأنشطة التي كان في الطريق لاحتكارها.

التصريح الأول للسيسي كان عندما أشار، يوم الخميس قبل الماضي، خلال افتتاحه مشروعاً جديداً، إلى إمكانية البدء في طرح شركات القوات المسلحة في البورصة ضمن برنامج الطروحات الحكومية، المقتصرة حتى الآن على شركات قطاع الأعمال العام وبعض الشركات المملوكة للهيئات الاقتصادية، على الرغم من أن كل شركات الجيش ليست مؤسسة كشركات مساهمة من الأصل، وغير خاضعة لأي نوع من الرقابة الفعلية، بناءً على التهرب المستمر من رقابة الجهاز المركزي للمحاسبات.

أما التصريح الثاني فأدلى به، يوم الثلاثاء الماضي، خلال افتتاحه مشاريع في مدينة السويس، إذ دعا القطاع الخاص للتركيز على مشاريع تحلية المياه، التي من المقرر أن تتوسع فيها الدولة حالياً لمواجهة النقص الحتمي في كميات المياه الصالحة للشرب والري بعد إنشاء سد النهضة الإثيوبي، بل والإشارة إلى ذلك باعتباره "فرصة يجب اغتنامها"، وذلك بخلاف تصريحاته الإعلامية السابقة التي كانت تتجاهل تماماً القطاع الخاص وتُركز على دور الجيش في المشاريع القومية وإعانة الاقتصاد المصري. هذا التحوّل الطارئ حديثاً، والإصرار عليه بتصريحين متتاليين في أسبوع واحد، ليس مجرد رغبة عابرة لدى السيسي، بل انعكاس لاتصالات ونقاشات مطولة دارت خلال الشهرين الماضيين بين القاهرة وعواصم غربية عديدة، أبرزها برلين ولندن وواشنطن، التي استضافت مفاوضات للمساعدة في حل قضية سد النهضة، الأربعاء الماضي، على أن تستضيف اجتماعين آخرين الشهر المقبل، وذلك بناء على تنسيق شخصي بين السيسي ونظيره الأميركي دونالد ترامب، وفي ظل تحفظات إثيوبية عديدة.

مصادر حكومية واسعة الاطلاع في مجلس الوزراء ووزارة المالية قالت، لـ"العربي الجديد"، إن مسألة التوسع المضطرد في اقتصاد الجيش، والتضييق على المستثمرين المحليين بمزيد من القيود الإجرائية، أو مزاحمتهم في مشاريعهم، تحدث بشأنها عدد من المسؤولين الأميركيين من إدارة ترامب مع السيسي خلال زيارته الأخيرة إلى نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. كما كانت محور حديث مماثل، ولكن على نطاق أوسع، أثناء زيارة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي للمشاركة في اجتماعات البنك الدولي، والتي التقى على هامشها عدداً من المسؤولين والنواب الأميركيين. وأضافت المصادر أن مسؤولين في إدارة ترامب أبلغوا السيسي ومدبولي بصعوبة الدفاع عن مصر مجدداً أمام اتهامات وانتقادات يتم تصعيدها بواسطة نواب ديمقراطيين وبعض الجمهوريين في الكونغرس، بشأن ضرورة مراجعة المعونة الأميركية السنوية للجيش المصري، بينما يستمر توسعه الاقتصادي، وفي الوقت نفسه اتجاه السيسي المضطرد لشراء أسلحة من بعض منافسي الولايات المتحدة، بهدف توثيق العلاقات وضمان الصمت على الانتهاكات المحلية. وأشارت إلى أن هؤلاء المسؤولين توقعوا عقد جلسات استماع جديدة، كتلك التي عُقدت في صيف 2017 بشأن ملفي حقوق الإنسان والدور الاقتصادي للجيش، ونتج عنها تعليق جزء من المعونة.



وذكرت المصادر أن المسؤولين أعادوا طرح تساؤلات عن مدى حاجة الجيش المصري لهذه المعونة، ذات القيمة المالية التي تضاءلت بمرور الزمن، وبين كون الجيش المصري قادراً على تحقيق أرباح ضخمة من أنشطة تشهد تضييقاً مستمراً على المستثمرين الأجانب، ومنهم الأميركيون. وضمن الأفكار نفسها تقريباً، مع تغيير العبارات والمنطلقات، تحدث مسؤولون ألمان مع نظرائهم المصريين خلال زيارة وزير الخارجية الألماني هايكو ماس إلى القاهرة، نهاية الشهر الماضي، استناداً إلى ملاحظة انسحاب بعض رؤوس الأموال الألمانية المتوسطة من مشاريع بأنشطة مختلفة في مناطق عديدة في الصعيد والصحراء الغربية وقناة السويس، بسبب ما وصفوه بتضييق الجيش على بعض الأنشطة، وعلى رأسها محطات الطاقة الشمسية وشركات الشحن والتفريغ وتصنيع قطع الغيار الميكانيكية. وبحسب المصادر المصرية ذاتها، فإن المستثمرين الألمان شكوا من بعض "الاشتراطات العرفية غير المنصوص عليها في القوانين للسماح بممارسة النشاط"، مثل تعيين عسكريين سابقين كمديرين تنفيذيين، والسماح لبعض هيئات الجيش بالمشاركة في النشاط. وذكرت المصادر أن سفارات أجنبية أخرى وجّهت استفسارات للحكومة أخيراً عن ظاهرة تخصيص الأراضي في المناطق السياحية المطلة على البحر الأحمر للجيش، واحتمالات انعكاس ذلك على الأنشطة الخاصة ببعض الشركات الأجنبية المالكة للمنتجعات.

أما الخطوة التي جعلت لزاماً على السيسي وحكومته اتخاذ موقف دعائي لتشجيع المستثمرين الأجانب على دخول السوق المصرية، فهي أن بعض رجال الأعمال الإماراتيين الذين زاروا مصر أخيراً لمتابعة مشاريعهم في العاصمة الإدارية الجديدة والساحل الشمالي، أعربوا عن مخاوفهم من عدم إمكانية الاستفادة من تلك المشاريع في المواعيد المخطط لها، نتيجة تأخر الهيئة الهندسية للجيش في تسليم المرافق والطرق التي كان مقرراً إنجازها نهاية العام الماضي، بسبب انشغال الهيئة في العديد من المشاريع الأخرى التي يرغب السيسي في افتتاحها بشكل مستمر، وفي الوقت نفسه اعتماد الهيئة على شركات مقاولات صغيرة، وحظر دخول شركات أخرى أعلى كفاءة في بعض المشاريع. وبحسب المصادر، فإن هناك "تململاً متصاعداً في الإمارات" بسبب سوء تصرف الجيش وشركاته في العديد من المساعدات التي تلقتها الدولة وفوض السيسي الجيش في إدارتها، خصوصاً على مستوى مشاريع المدن الجديدة.

يذكر أن السيسي كان قد أصدر في العام 2015 قراراً جمهورياً، يُعتبر مفصلياً في تكريس قوة الجيش الاقتصادية، منحه خلاله صراحةً صلاحية "تأسيس الشركات بكافة صورها، سواءً بمفرده أو بالمشاركة مع رأس المال الوطني أو الأجنبي"، وذلك بهدف تجهيز وإعداد مدن ومناطق عسكرية، والقيام بكل الخدمات والأنشطة التي من شأنها تحقيق أهدافه وتنمية موارده، وذلك بواسطة جهاز وزارة الدفاع المختص ببيع الأراضي والعقارات المملوكة للدولة التي تخليها القوات المسلحة. وفي 2018 أصدر السيسي قانون التعاقدات الحكومية، متضمناً السماح لكل أجهزة الجيش والإنتاج الحربي، والداخلية أيضاً، بإبرام عقود المقاولات والخدمات والاستيراد بطريق المناقصة المحدودة، أو المناقصة على مرحلتين، أو الممارسة المحدودة أو الاتفاق المباشر من دون اتباع المناقصات أو المزايدات العامة.

وشكلت هذه الخطوة تكريساً وتقنيناً لوضعٍ غير دستوري قائم على التمييز الإيجابي لتلك الجهات على باقي الوزارات والشركات، بدعوى "حماية الأمن القومي"، وهو المصطلح الذي يبلغ من الاتساع ما يمكّن كل جهة من تفسيره كما تشاء، وما يضمن لها أن تدرج تحته كل تعاقداتها. علماً أن المشروع يضمن "سرية استثنائية" لخطط البيع والشراء المندرجة تحت اعتبار "الأمن القومي"، بعدم نشر أي معلومات عنها على بوابة الخدمات الحكومية الإلكترونية. ولا تمارس أي سلطة الرقابة الإدارية أو المالية على تصرفات الجيش وأجهزته، على الرغم من دخوله نظرياً ضمن الجهات الخاضعة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات.