طارق البشري: لن تحاكم الدولة نظاماً تتبنّى سياساته

طارق البشري: لن تحاكم الدولة نظاماً تتبنّى سياساته

03 ديسمبر 2014
تبرئة مبارك وأركان نظامه مرتبطة بالسياق السياسي (العربي الجديد)
+ الخط -
يرى الفقيه القانوني، المفكر والمستشار طارق البشري، في حوار خاص لـ"العربي الجديد"، أنّ "أحكام البراءة التي حصل عليها رموز نظام ما قبل ثورة يناير 2011، لا يمكن أن تُفهم بالحيثيّات القانونية فقط، بل هي مرتبطة بالسياق السياسي الذي جرت فيه المحاكمة، بدءاً باتباع نظام المحاكمة الجنائية بدلاً من السياسية، بالإضافة إلى ما قدم للمحكمة من أوراق".
ولم يشأ البشري، الذي ترأس أول لجنة لتعديل الدستور عقب تنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك في فبراير/شباط 2011، أن يعلق على العديد من النقاط التي شملها الحكم وحيثياته من الناحية الفنيّة، وهو سلوك يتسم به، لا سيما وأن هناك مرحلة تقاض أخرى، حاسمة، مرتقبة أمام محكمة النقض، وهي أعلى محكمة جنائيّة مصريّة.

• هل كانت المحاكمة الجنائيّة على 3 جرائم فقط هي ما يستحقه مبارك بعد نحو 30 عاماً قضاها في حكم مصر، اختتمت بثورة شعبية عارمة؟

تحدثت من قبل، مرات عدّة، خلال السنة الأولى من ثورة يناير، وعندما بدأت قضية حسني مبارك تُتداول أمام المحاكم، عن أنّ محاكمته جنائيّاً لا تجوز، وليست هي الأسلوب المناسب، ولا العمل السياسي المناسب لمساءلته، بل كان يجب أن تكون المحاكمة سياسيّة، خارج إطار القانون الجنائي، وخارج إطار نظر الهيئة القضائيّة.
ويعني وضع هذه القضيّة أمام القضاء، تعريضها للعديد من الأعمال الجزئية، والوقائع، والفرعيات، التي تصرف النظر عن الجرائم السياسيّة الحقيقية، التي ارتكبها نظام مبارك.
قضى هذا النظام على استقلال مصر والإرادة الوطنيّة المستقلّة للدولة المصريّة، في مواجهة قوى الغرب والولايات المتحدة بصفة خاصة، وحطّم الكثير من مجالات النشاط الاقتصادي في البلاد، من صناعات وغيرها من المجالات، وفكّك هيئات كثيرة في الدولة والمجتمع المدني.
كتبت ذلك مراراً وأثرته في المرحلة الأخيرة من حكم مبارك، ومن أجل هذه الجرائم قامت الثورة، وهذا ما كان يجب أن يُحاسب عليه مبارك. كان المطلوب في ذلك الوقت، تشكيل هيئة تحاسبه وتحاسب أعوانه على ما قاموا به ضد المصلحة الوطنية والشعبيّة، وتبرّر في الوقت ذاته قيام الثورة.
أما محاسبته عن وقائع فرديّة، سواء تتعلق بمواجهة المتظاهرين أو التربّح، فهذا أقلّ كثيراً مما كان يجب.

• لماذا تمّ تجاهل المحاكمة السياسيّة، على الرغم من خروج تظاهرات "مليونية" في ميدان التحرير ومطالبات عدّة بالمحاسبة على أحداث 30 عاماً، وليس فقط القصاص لجرائم عدّة أيام سابقة؟

الحقيقة أنّ من وضعوا المسألة بالشكل الحاصل حالياً، وأغمضوا العين عن المحاكمة السياسيّة، وقدموه إلى محاكمة جنائيّة عن وقائع محدودة، كان هدفهم الأساسي، على ما أتصوّر، إبعاد النظر عن حقيقة الجرائم السياسيّة التي ارتكبها نظام مبارك، وذلك للاستمرار في متابعتها والسير على طريقها، لأنه لا يمكن لنظام حاضر أن يحاكم نظاماً سابقاً، فيما هو مستمر في تنفيذ ما يحاكم عليه من سياسات.
جرى هذا كله منذ السنة الأولى لثورة يناير، ولننظر إلى ما حدث. قُدم مبارك وأعوانه إلى محاكم جنائيّة، بتهم تتعلّق بقتل المتظاهرين، وتهم أخرى تتعلق بالفساد المالي. وإذا تحدثنا عن قتل المتظاهرين، فإن النظر بهذه القضية أمام محكمة جنائية بالطريق الطبيعي والعادي والعادل الذي تتبعه المحاكم، نجد أنه من أصعب ما يمكن على المحكمة أن تحدد دور المتهم المقدم للمحاكمة أمامها، أو أن تحدّد شخص الجاني الفرد في عمليات اشتباك جماعيّة، لا يُعرف فيها من ضرب ومن لم يُضرب، وهل كان الضارب في دفاع شرعي عن النفس، أم معتدياً على الآخرين.
ومن أصعب الأمور أيضاً بالنسبة لجهاز الدولة الذي يتبع أوامر رئاسته ويتشكل تشكيلاً هرمياً بتدرّج كبير، أن تعرف من المسؤول شخصيّاً فيه، عن حادث معين أو واقعة محددة.
وبالنسبة إلى الفساد، فما من واقعة فساد إلاّ وتتخذ داخل جهاز الدولة شكلاً قانونياً، بإجراءات وأوراق وتأشيرات، وفتاوى عند اللزوم. فكيف إذن تثبت المسؤولية الجنائيّة في مثل هذه الظروف؟!

• هل كان ممكناً أو متصوّراً وقتها أن يتحقّق قصاص عادل سريع للشهداء الذين سقطوا في الثورة؟

عندما ننظر إلى سياق الأحداث القضائية في هذا الأمر، نجد أن الدعوى أقيمت في الشهرين الثالث والرابع لثورة يناير، وأخذت وقتها أمام المحكمة، وكان من المقدّر بتقديمها إلى المحاكم أن يكون ذلك استجابة لسخط الجماهير، وتفريغاً لهذا السخط.
أخذت الدعوى وقتها، ثم صدر الحكم بعد ذلك ببراءات وإدانات، لم ترضِ آنذاك الرأي العام، فتمّ الطعن فيها بالنقض، وأخذت محكمة النقض وقتها، ثم ألغت الحكم، ثم أعادتها إلى المحكمة الجنائيّة، التي نظرت على مدى الفترة الماضية في القضية بسماع الشهود واستعراض الأدلة والتحقيق، ثم صدر حكمها بالبراءة. تفكّر النيابة حالياً في الطعن أمام محكمة النقض، التي ستنظرها بإجراءات جديدة، وإذا قضت بإلغاء الحكم ستتولى هي بعد ذلك إجراءات المحاكمة الموضوعيّة بنص القانون.
أيام وسنوات تتوالى، وأحداث كثيرة جرت في المشهد السياسي، من استفتاءات وانتخابات وحلّ برلمان وإقصاء رئيس ووضع دستور وإلغائه ثم وضع دستور جديد وتولي رئاسة جديدة بانتخابات جديدة. كل ذلك يجري، والقضيّة تسير في طريقها. نحن هنا لا نتكلم عن الحكم بذاته، بل نتكلم عن سياسات، والحكم يرد في هذا السياق.

• ما الدور الذي قام به صنّاع هذه السياسات في مصر بعد الثورة لإجهاض فكرة المحاسبة السياسيّة؟

نحن أمام جهاز دولة، كلّ علاقته بالثورة، تفيد بأن هدفه كان التخلّص من قيادات شخصيّة، ليضع قيادات جديدة، في الدولة ذاتها، ووفق السياسات المتبعة ذاتها، وفي ظلّ الأوضاع الاجتماعية المحيطة ذاتها.
المحاكمة السياسيّة لم تكن لتدين أفراداً، لكنها تدين سياسات، واتباع الدولة السياسات ذاتها يوجب عليها الابتعاد عن هذا المجال. ويستحيل على الدولة، مع بقائها في الوضع ذاته، أن تصدر حكماً سياسياً ضدّها.

• لكن البعض يرى أن الأجهزة حركت دعوى ضد مبارك فعلاً، وكان من الوارد إدانته ومعاقبته بحكم قاس، على غرار حكم المحكمة الأولى عليه بالسجن المؤبّد؟

لنلاحظ أنّ الحكم الأخير الصادر ببراءة مبارك وأعوانه، كشف أنّ النيابة العامة وهي تقدم الدعوى، كانت قد أقرّت من قبل بألا وجه لإقامتها إزاء مبارك، وأنها أخذت قراراتها بعد انتفاء المدّة القانونيّة وسقوط الاتهام في بعض الجرائم. وهذا يوضح كيف كانت تسير الأمور، بحسبان أنّ الدعوى هنا، كان المقصود بها، إلهاء الناس عن المحاكمة السياسيّة، وإدخالهم في هذا المضمار من الإجراءات الطويلة، التي لا تنتهي إلى شيء.

• استند الحكم في قسم كبير منه إلى شهادات 19 شخصاً، برأوا ساحة مبارك والعادلي، وأكدوا استحالة إطلاق الشرطة النيران على المتظاهرين، بعد وصفهم أحداث الثورة بأنها "جزء من مؤامرة دوليّة على مصر"، ما رؤيتك لذلك؟

شهود الدعوى الذين أدلوا بشهاداتهم فيها، هم جزء من هذه الدولة ونظامها خلال عهد حسني مبارك، من كبار موظفيها في أجهزة الأمن، والمسؤولين عن سياساتها وأعمالها.
وهؤلاء في الحقيقة شركاء في المسؤوليّة التي يتحمّلها مبارك نفسه، سواء بما أبلغوه من معلومات، أو ما قدّموه من استشارات، أو ما نفّذوه من قرارات.
ولعلنا نذكر في هذا المقام القول المأثور "شاهداك قاتلاك" على أساس أن الجرائم تثبت بالشهادة، لكننا هنا أمام تجسيد لمثل مضاد هو "شاهداك مبرئاك".

• ما تعليقك على اتهام بعض الشهود أطرافاً أخرى كجماعة الإخوان وحركة حماس وحزب الله اللبناني، بإطلاق النار على المتظاهرين، وانتقادات البعض لتطرّق الحكم إلى أمور خارجة عن موضوع القضيّة؟

لاحظت أنه قد ورد في "تبيان الحيثيات"، الذي أصدرته المحكمة عقب جلسة النطق بالحكم، في الصفحات من 106 إلى 114، حديث عن الأوضاع السياسيّة البحتة لثورة 25 يناير، وقيامها، وظروفها، وعلاقتها بالدول الأجنبيّة، وأشخاص في الداخل والخارج وتنظيمات، وكلّ هذا بعيد عن وقائع الدعوى المنظورة الخاصة بقتل المتظاهرين.
ويُذكّرنا هذا الحديث الوارد في الحيثيات بالمادة 73 من قانون السلطة القضائية، والتي تنصّ في فقرتها الأولى على أنّه "يحظر على المحاكم إبداء الآراء السياسيّة".
وهنا أتساءل: هل هذه النقطة ستكون ضمن ما تشمله دراسة النيابة إذا قررت الطعن على الحكم؟ وهل هذا الأمر يشكل عنصراً في تكوين رأي المحكمة؟ هذا ما أترك الحديث عنه، عسى أن تُتخذ إجراءات قضائيّة بشأنه.

المساهمون