سد النهضة: كابوس مصري

سد النهضة: كابوس مصري

07 أكتوبر 2019
تخشى مصر مواجهة جفاف غير مسبوق(خالد دسوقي/ فرانس برس)
+ الخط -
في ظل انسداد تام للمسار التفاوضي حول قضية سد النهضة الإثيوبي، وفشل أحدث جولة من المفاوضات التي عقدت في السودان وانتهت أول من أمس السبت، تتراجع الخيارات المتاحة أمام القاهرة لتقريب وجهات النظر مع أديس أبابا، والتوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن يراعي المخاوف المصرية من الأضرار المنتظر أن تلحق بها ويضمن حقوقها المائية.

ويأتي ذلك في وقت تتشكك مصادر دبلوماسية وحكومية مصرية، تحدثت مع "العربي الجديد"، في أن تؤدي الولايات المتحدة دوراً حاسماً لمصلحة مصر، بعدما طالب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، علانية أول من أمس، بتدخلها، وذلك على الرغم من ارتفاع مستوى الاتصالات بين القاهرة وواشنطن للتدخل وكبح جماح تعنت أديس أبابا، عقب لقاء الرئيسين دونالد ترامب وعبد الفتاح السيسي في نيويورك أخيراً، حيث كان ترامب قد وعد السيسي، بحسب المصادر، بالتدخل لضمان حقوق مصر المائية وعدم الإضرار البالغ بها جراء مشروع السد الذي سيكون الأكبر في أفريقيا.

وعشية انطلاق الجولة الأخيرة من المفاوضات الثلاثية بين وزراء الموارد المائية والري في مصر والسودان وإثيوبيا بالخرطوم، الجمعة والسبت الماضيين، أصدر البيت الأبيض بياناً، يمكن تفسير توقيته بأنه مناصر لمصر، ولا يمكن تفسير عباراته بأكثر من أنه محايد، أعلن فيه عن دعم الولايات المتحدة لمصر والسودان وإثيوبيا في السعي للتوصل إلى اتفاق على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي يحقق المصالح المشتركة للدول الثلاث. وطالبت الولايات المتحدة، في البيان، الأطراف الثلاثة بإبداء حُسن النية للتوصل إلى اتفاق يحافظ على الحق في التنمية الاقتصادية والرخاء وفي الوقت ذاته يحترم بموجبه كل طرف حقوق الطرف الآخر في مياه النيل.

لكن فشل جولة المفاوضات الجديدة، على الرغم من المناشدة الأميركية، دعا السيسي للمطالبة العلنية لأول مرة بتدخل الولايات المتحدة، إذ أصدر بياناً مساء أول من أمس ذكر فيه أن "مصر تتطلع لقيام الولايات المتحدة الأميركية بدور فعال في هذا الصدد، خصوصاً على ضوء وصول المفاوضات بين الدول الثلاث إلى طريق مسدود بعد مرور أكثر من أربع سنوات من المفاوضات المباشرة منذ التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في 2015. وهي المفاوضات التي لم تفض إلى تحقيق أي تقدم ملموس، مما يعكس الحاجة إلى دور دولي فعال لتجاوز التعثر الحالي في المفاوضات، وتقريب وجهات النظر بين الدول الثلاث، والتوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن يقوم على احترام مبادئ القانون الدولي الحاكمة لإدارة واستخدام الأنهار الدولية، والتي تتيح للدول الاستفادة من مواردها المائية من دون الإضرار بمصالح وحقوق الأطراف الأخرى".

وبحسب المصادر الدبلوماسية، التي تحدثت مع "العربي الجديد"، فإن إدارة ترامب "لا تزال تدرس الموقف، ولم يصدر عنها في الكواليس أي وعد بخريطة زمنية واضحة للتدخل أو التحركات المقبلة". وأشارت إلى أنه سبق للسيسي أن طلب "وساطات غير معلنة" لحلحلة الموقف من كل من السعودية والإمارات وإسرائيل، وكل منها له علاقات استثمارية مهمة ومتنامية مع الحكومة الإثيوبية، وبعضها يتعلق بمشروع السد ومشروعات مستقبلية منبثقة عنه، وزادت وتيرة هذا التعاون في عهد رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، الذي وصلت العلاقة بينه وبين السيسي إلى "طريق مسدود" كما هي الحال في المفاوضات، بعدما أصبحت صورة الأخير لدى الرأي العام المصري أنه تعرض لخديعة واضحة من الأول، بعد عام ونصف العام تقريباً من الوعود الخاوية التي بلغت حد قسم أبي أحمد اليمين بعدم الإضرار بمصر، خلف السيسي، في مشهد شهير حمل صبغة مسرحية خلال لقائهما الأول في القاهرة في يونيو/ حزيران 2018.

المصادر أكدت أن الموقف الإثيوبي اتسم "بالثبات التام" إزاء جميع محاولات الوساطة التي تمت للوصول إلى مساحة اتفاق بين القاهرة وأديس أبابا، بشأن خطة الملء الأول للخزان وتشغيل السد في السنوات السبع الأولى لدخوله الخدمة، أما بعض العواصم التي انخرطت أخيراً في اتصالات غير مباشرة مع كلا البلدين، مثل باريس، فإن الصورة تشكلت لديها بطريقة مغايرة عن هدف القاهرة.

 

ووفقاً للمصادر نفسها، فإن إثيوبيا تستطيع حتى الآن "التشويش" على الرواية المصرية لحجم الخسائر الحياتية والاقتصادية المباشرة التي ستترتب على إنشاء السد ثم تشغيله بالصيغة التي اقترحتها في اجتماعات العام الماضي، والتي تحدد المرحلة الأولى من المراحل الخمس لملء السد بأن تستغرق عامين، وفي نهاية المطاف سيتم ملء خزان السد في إثيوبيا إلى 595 متراً، وستصبح جميع توربينات الطاقة الكهرومائية جاهزة للعمل، مما سيؤدي إلى تناقص منسوب المياه في بحيرة ناصر جنوب السدّ العالي بشكل كبير، خصوصاً إذا انخفض منسوب الفيضان في العامين المقبلين، ليقل عن مستوى 170 متراً، مما يعني خسارة 12 ألف فدان من الأراضي القابلة للزراعة في الدلتا والصعيد كمرحلة أولى، من إجمالي 200 ألف فدان تتوقع وزارة الموارد المائية والري المصرية خروجها نتيجة المدة الإجمالية للملء.

ويستند هذا "التشويش الإثيوبي" إلى أن الحفاظ على منسوب المياه في بحيرة ناصر عند 165 أو 170 متراً قد يؤدي إلى حرمان أديس أبابا من إمكانية الملء لشهور عديدة متتابعة، نظراً إلى تدني مستوى الفيضان في بعض الأحيان إلى أقل من 30 مليار متر مكعب، وبالتالي فإن المسؤولين الإثيوبيين يعتقدون بأن المحددات لا يمكن أن تقاس بأي مؤشر في دولة المصب.

ويرد الإثيوبيون على المقترحات المصرية بأنها جميعاً، بما في ذلك مقترح الملء في 7 سنوات، ربما تؤدي إلى إفشال المشروع بالكامل، وهم يقدمون إلى الجهات الدولية والعواصم الوسيطة بيانات إحصائية تؤيد هذه المخاوف. وهذا ينعكس بالضرورة على المستثمرين والشركات الكبرى الأوروبية والعربية التي ترغب في استغلال ما سيحققه السد من نجاحات محلية في توليد الطاقة الكهربية وتوفير مزارع سمكية وترشيد للمياه بإعادة استخدامها في الري المنتظم لمساحات أوسع من الأراضي غير المستغلة، وهي جميعها تمثل فرصاً للاستثمار السهل والمضمون في دولة تشهد تحولات اقتصادية عميقة للأفضل وتدل كل مؤشراتها الاقتصادية على أنها تسير بثبات نحو طريق النهضة.

وعلى الرغم من أن لجنة الخبراء الدولية، فضلاً عن تقريري المكتبين الاستشاريين اللذين تمت الاستعانة بهما في المفاوضات، كانت قد أكدت الآثار السلبية الاجتماعية والاقتصادية التي ستلحق بمصر جراء المشروع، إلا أن توقيع اتفاق المبادئ العشرة عام 2015 بين الدول الثلاث يوفر حماية للتصرفات الإثيوبية الحالية.

فالمبدأ الخامس من الاتفاق، والذي يتحدث عن التعاون في الملء الأول وإدارة السد، يكتفي بالنص على التشارك في وضع "الخطوط الإرشادية والقواعد" بدون تفاصيل التشغيل، ويجيز لإثيوبيا إعادة ضبط سياسة التشغيل من وقت لآخر، بشرط "إخطار" وليس أخذ رأي أو استئذان مصر والسودان.

كما أن المبدأ العاشر الذي يفتح باب الوساطة الدولية يتطلب "اتفاق الدول الثلاث على ذلك"، وهو ما لا يتوفر رسمياً في الوضع الحالي. فالسودان الذي يبدو من الناحيتين الفنية والاقتصادية مستفيداً من بناء السد جدد ثقته بإمكانية التغلب على الخلافات باستمرار المفاوضات، وكذا فعلت إثيوبيا التي أصدرت بياناً بهذا الشأن أول من أمس، ليظهر التناقض بينهما وبين الموقف المصري الأخير الذي يخشى استمرار إهدار الوقت بدون اتفاق.

وبحسب مصدر حكومي في وزارة الري المصرية، فإن الجانب الإثيوبي في الاجتماع الأخير بالخرطوم ركز على ضرورة البناء على المبدأ السادس من اتفاق 2015 الخاص بأولوية شراء الطاقة المتولدة من السد لمصر والسودان باعتبارها مفتاحاً لتقليص خسائر مصر الاقتصادية من المشروع.

ووفقاً للمصدر نفسه فإن المسؤولين الإثيوبيين تحدثوا أيضاً خلال اجتماعي القاهرة والخرطوم الأخيرين عن ضرورة احترام المبدأ الثامن المتعلق بالضمان الثلاثي المشترك لأمان السد، وذلك ارتباطاً بمتابعة إثيوبيا لوسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي المصرية التي تحمل بعضها مطالبات بتخريب السد أو العمل على تعطيل إنشائه، معربين عن "انزعاجهم لسماح السلطات المصرية بذلك"، على الرغم من أن الخطاب الرسمي المصري من السيسي ووزارتي الخارجية والري يركز على اتباع الحلول السياسية فقط.

وكشف المصدر أن المقترح الإثيوبي الجديد الذي رفضته مصر في الجولة الأخيرة يرتكز على ملء الخزان بخطة رقمية ثابتة خلال 4 سنوات فقط، بأقل 3 سنوات مما تطالب مصر، وبدون الأخذ في الاعتبار نهائياً منسوب المياه في بحيرة ناصر، الأمر الذي ترى مصر أنه سيؤدي حتماً إلى جفاف غير مسبوق وشح مائي بنهاية السنة الثالثة من الملء على أكثر التوقعات تفاؤلاً.

 

وكان السيسي قد صرح مطلع عام 2018 بأنه "لم تكن هناك أزمة من الأساس حول سدّ النهضة"، بعد اجتماع في أديس أبابا مع نظيره السوداني في ذلك الحين عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي في ذلك الحين هايلي ميريام ديسالين، على هامش حضورهم قمة الاتحاد الأفريقي. وخالف السيسي بذلك كل التصريحات الرسمية المصرية التي أبدى فيها المسؤولون قلقهم وغضبهم من تردي المفاوضات، وميل الخرطوم إلى مواقف أديس أبابا، وعدم مراعاتهما مخاوف القاهرة من تفاقم الفقر المائي. لكن الحكومة المصرية عادت منذ شهرين لتعرب عن مخاوفها من إطالة فترة التفاوض بحجة عدم الاستقرار السياسي في السودان، ثم اعترف السيسي خلال المؤتمر الثامن للشباب الذي عُقد في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي بصعوبة الموقف، ملقياً باللائمة على ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 بأنها تسببت في إسراع إثيوبيا في إنشاء السد الذي كان مشروعاً معلناً وبدأ تنفيذه عملياً منذ عام 2010.

وبحسب مصادر دبلوماسية سودانية مطلعة على مسار المفاوضات، فإن الخرطوم على الرغم من سعيها على فترات مختلفة لتقريب وجهات النظر لتسهيل التوصل إلى اتفاق يرضي الجانب المصري، إلا أن الأمور لم تسِر بالشكل المأمول. وتحدثت المصادر نفسها عن تغيير في الموقف السوداني في ظل الحكومة الجديدة التي تسعى لتحقيق طفرة اقتصادية لإخراج السودان من الأزمات التي يعاني منها.

وكشفت المصادر لـ"العربي الجديد" عن رفض الحكومة السودانية المطلب المصري الأخير بإشراك وسيط دولي كطرف رابع، للمساهمة في حل الأزمة، لتنضم في ذلك إلى إثيوبيا التي رفضت أيضاً المقترح المصري بالوساطة الدولية، بما يجعل من لجوء القاهرة للبند العاشر من اتفاق المبادئ الموقع في 2015 أمراً غير مجدٍ؛ إذ يشترط ضرورة توافق البلدان الثلاثة بشأن إشراك وسيط دولي حال لم تتمكن من التوصل لاتفاق.

وبحسب المصادر فإن "السودان لم يكن يستفيد بالقدر الكافي من مياه النيل"، متابعة "بل على العكس كانت هناك مساحات شاسعة تتعرض للغرق سنوياً جراء فيضان النيل بشكل يصعب من استخدام تلك المساحات والاستفادة منها".

وأشارت المصادر السودانية إلى أنه "بخلاف ذلك كانت غالبية حصة السودان من النيل تذهب إلى مصر بشكل مجاني على مدار السنوات الماضية نظراً إلى عدم وجود إمكانات تكفي للاستفادة منها". واستطردت المصادر "ليس لدينا نفس المخاوف المصرية بل على العكس نحن سنستفيد على مستويات كثيرة، فالسد سيجنب السودان مخاطر الفيضانات وكذلك سيمنح السودان حصة جيدة من الكهرباء اللازمة لتنفيذ الخطط الاقتصادية المستقبلية وتحقيق التنمية".

وأوضحت المصادر أنه "خلال الفترة التي سبقت سقوط الرئيس المخلوع عمر البشير توصلت القاهرة إلى تفاهمات مع الخرطوم بشكل يحقق ضغطاً على الجانب الإثيوبي، مقابل تفاهمات سياسية وإقليمية ضمن توازنات كانت تحرك نظام البشير"، متابعة "تلك التوازنات تغيرت بعض الشيء في الوقت الراهن وسط البحث عن موارد لتمويل خطط التنمية".

في المقابل قال مصدر دبلوماسي مصري إن "إدارة الملف برمته فيها أزمة كبيرة"، متسائلاً "كيف يسمح المفاوض المصري بخداعه من جانب إثيوبيا، وكيف لمصر ألا تستغل فترة الاضطرابات السياسية والخلافات الداخلية في إثيوبيا والتي كانت في فترة ماضية، وبالتحديد منذ نحو عام ونصف العام، التي بلغت ذروتها بخلافات عنيفة بين رئيس الوزراء الجديد وقتها أبي أحمد والمؤسسة العسكرية التي كانت شركاتها ضمن المنفذين للسد".

وأضاف المصدر "للأسف لم يمارس المفاوض المصري أي ضغوط وقتها على الحكومة الإثيوبية المأزومة لانتزاع مكاسب كانت متاحة للغاية حينها، أو على الأقل أن تستغل التقارير الرسمية الإثيوبية بشأن مخالفات شركة ميتك المملوكة للجيش هناك، ووجود عيوب فنية أعلن عنها الجانب الإثيوبي نفسه في الأجزاء المعدنية التي نفذتها الشركة قبل استبعادها".

من جهته، علق مسؤول مصري سابق شارك في عملية المفاوضات مع الجانب الإثيوبي، على التلميحات المصرية بإمكانية اللجوء إلى الحل العسكري، بعد تعقُّد المفاوضات، قائلاً "تابعت الأحاديث الخاصة بذلك المقترح من جانب نواب في البرلمان وإعلاميين مقربين من دوائر صناعة القرار، لكن هذه الأحاديث في تقديري من باب المراوغة، وتخفيف حالة الغضب والاحتقان في الشارع". وبالنسبة إليه فإن "حتى الخيار العسكري بسبب الإدارة السيئة للملف للأسف بات في غاية الصعوبة، بل من الممكن أن يكون مستحيلاً، وفي الوقت الذي كنا مطالبين به كدولة للتلويح به، كانت كافة التصريحات الرسمية تستبعده تماماً".

واستطرد المصدر "إثيوبيا باتت في موقف قوي، ومن ناحية أخرى الأمر بات شديد التعقيد بما يستحيل معه اللجوء لذلك الحل، فهناك شركات أجنبية من دول قوية عاملة في بناء السد، مثل الصين وإيطاليا، وهما بالطبع لن تقبلا بمثل هذا الحل، بخلاف استعداد إثيوبيا لخطوة مثل هذه، وتأمين السد ومحيطه بدفاعات جوية متطورة للغاية".