خطة الإنقاذ الأوروبية: استقلالية اقتصادية للتخلص من التبعية السياسية

خطة الإنقاذ الأوروبية: استقلالية اقتصادية للتخلص من التبعية السياسية

19 يونيو 2020
يؤدي التنسيق الفرنسي-الألماني لمزيد من التضامن الأوروبي (تييري موناس/Getty)
+ الخط -
تسير أوروبا، التي صُدمت بجائحة كورونا وسجالات نقص الاستعداد في أنظمتها الصحية والاقتصادية، نحو تبنّي استراتيجية أكثر استقلالية وأقل اعتماداً على الخارج. فقبيل اجتماع المجلس الأوروبي، المقرر اليوم الجمعة، لمناقشة الموازنة ومقترح خطة الإنعاش، تكشف أهداف سياسة التنسيق الفرنسي - الألماني عن مزيد من التضامن الأوروبي، بتخصيص 750 مليار يورو (ويمكن أن يزيد الرقم إلى أكثر من ألف مليار) ضمن خطة الإنعاش.

وخرجت القضية من مجرد إنقاذ اقتصادات دول متعثرة بسبب كورونا، نحو تطبيق خطط استراتيجية ترتكز على مزيد من استقلالية القارة الأوروبية. استقلالية سياسية عن الولايات المتحدة، مع استعادة نقاش قديم طرحته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وتصريحاته المعادية لأوروبا، وتأكيدها حينها أن القارة مضطرة إلى تعزيز تسلحها العسكري، والاعتماد على القوة الذاتية لتقليل الاعتماد على القوة الأميركية. وهذه الاستقلالية تواجه رفضاً من دول أوروبية ترتبط استراتيجياً بأميركا إلى حد التبعية. إضافة إلى استقلالية اقتصادية، خصوصاً عن الصين المتوغلة في القارة العجوز، وما يرافق ذلك من جدل حول مواجهتها أو التوجّه لمهادنتها.

وترتبط الاستراتيجية الجديدة بمجمل الصناعات والبنى التحتية الهامة في القارة، وترتكز على مراجعة سياسة دعم الشركات المتعثرة، وتقييد بيع أو استثمار قوى خارجية في مؤسسات ذات أهمية لأوروبا، لمنع وقوعها في أيادٍ خارجية. وعلى الرغم من الدعم الذي تحظى به هذه الخطة من دول كبرى، تبرز مواقف معارضة لها، لا سيما من اليمين الشعبوي، إضافة إلى بروز مخاوف على التجارة الحرة وحرية التنافس.

لحظة حاسمة

في مايو/ أيار الماضي، وبعد تململ بعض الدول من الخطة الجديدة، قالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، أمام البرلمان الأوروبي، إن "هذه هي اللحظة الحاسمة لأوروبا". وهي تتفق في ذلك مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، التي شددت في مايو على أن أوروبا على مفترق طرق "فالدولة الوطنية لا مستقبل لها لوحدها"، معتبرة أن أزمة كورونا تشكل درساً للقارة ومستقبلها. ويتمحور النقاش الأوروبي منذ مايو الماضي على كيفية الخروج من أزمة كورونا، والتوجه نحو اعتبار القارة قوة عالمية أكثر سيادة من ذي قبل. ويأخذ النقاش أبعاداً تتعلق بعمق مستقبل السياسات الصناعية للاتحاد الأوروبي. ووفقاً لفون ديرلاين، يتطلب ذلك تعزيز مكانة القارة في المجالين الخاص والعالمي.

وتقوم هذه الاستراتيجية، المتفق عليها بين الدولتين الرائدتين في أوروبا، ألمانيا وفرنسا، على "إعادة التفكير بعلاقة أوروبا ببقية العالم"، باعتبار عنصر الاستقلالية حجر الزاوية. ولا يتعلق الأمر فقط ببناء نظام صحي أوروبي مستقل، من خلال تخصيص منح بمئات المليارات في اتجاه البحث العلمي وتطوير اللقاحات وإنشاء مخزونات أوروبية مشتركة من الأدوية ومعدات الحماية، بل بمجمل الصناعات والبنى التحتية الهامة.

وتتواصل مفاوضات ونقاشات تستند إلى تجاوز الصورة التي ظهرت فيها "الاعتمادية" الأوروبية على الصناعات التي نُقلت إلى الخارج، وخصوصاً نحو الصين. فالانتقال إلى "استراتيجية الاستقلالية" تدخل فيه مراجعة سياسة دعم الشركات المتعثرة، وتقييد بيع أو استثمار قوى خارجية في مؤسسات ذات أهمية لأوروبا. وبالإضافة إلى ذلك ثمة توجّه نحو الحد من الاعتماد على السلع الخارجية، من خلال بناء صناعات ضخمة على الأراضي الأوروبية. فالسياسات التجارية والصناعية الأوروبية جعلت خطة برلين وباريس في مجال الإنعاش تكتسب دعماً أوروبياً واسعاً، على خلفية ما أظهره وباء كورونا من اعتماد القارة على الخارج في القطاع الصحي، وبالأخص صناعاتها الدوائية والوقائية.


وإلى جانب أن الهدف المعلن هو "حماية الوظائف" وعدم تسريح الموظفين، يبدو أن الحجج التي يناقشها الأوروبيون الآن هي منع وقوع الشركات المهمة في أيادٍ خارجية. فسعي الصين لاقتناص بنى تحتية أوروبية حيوية لم يتوقف منذ 2010. وتُتهم بكين بالدفع بشركات تبدو في الظاهر "مستقلة وملكاً لرجال أعمال"، فيما هي تتبع للحكومة الصينية مباشرة، للهيمنة والاستحواذ على الشركات، لا سيما تلك المتخصصة في مجال التكنولوجيا والابتكارات. وجاء انهيار قيمة بعض الشركات، بفعل أزمة كورونا، ليفتح شهية الصينيين، وهو ما يجهد الأوروبيون لعرقلته ووقفه بحجة أنه يشكّل مساً بأمن واستقلالية القارة.

ولحماية القطاعات الحيوية، ذهبت المفوضية الأوروبية للتعاون مع البنك المركزي الأوروبي لإنشاء نظام مدفوعات رقمية للحد من الاعتماد على الآخرين، بمن فيهم الأميركيون. بل يسعى الأوروبيون بشكل متسارع لتعزيز أنظمة الدفع، بعد إعلان "فيسبوك" عن طرح "عملة عالمية" (ليبرا). وحذر البنك المركزي الأوروبي بأنه سيتدخل إذا لم تقم الشركات الخاصة بدعم نظام الدفع الأوروبي الخاص والمستقل عن الخارج.

نقاشات البرلمان الأوروبي
منذ ما قبل كورونا، كان النقاش بين البرلمانيين الأوروبيين، من اتجاهات سياسية مختلفة، يأخذ أولوية تقييد الاستثمارات الخارجية، ومنعها من الهيمنة على الشركات والبنى التحتية، وخصوصاً الصينية التي عملت خلال العقد الماضي وبشكل محموم على الاستثمار في موانئ وبنى تحتية متعثرة. ويتفق في النقاش ليبراليون ومحافظون مع يساريين. وقد قطع هؤلاء شوطاً كبيراً في تعزيز الاستقلالية الأوروبية، لمكافحة الهيمنة على الشركات ونقل أعمالها إلى أيادٍ خارجية.

ومن القطاعات التي يحاول الأوروبيون حمايتها، بتشريعات وسياسات حمائية، تبرز قطاعات الطاقة والصحة والماء والطيران والدفع والموانئ والصناعات الدفاعية. وليس فقط الحماية من الاستحواذ الأجنبي ما يعمل الأوروبيون على منعه الآن، بل يتجهون لترسيخ الاستقلالية بالتدخل لشراء أو دعم الشركات المتعثرة، وبالتالي الدفع بالصناعات الأوروبية لتبقى بيد أوروبية، ولو بإنشاء صناعات عالمية عملاقة، لكن بسيطرة الاتحاد الأوروبي.

مفوض السوق الأوروبية الداخلية، تيري بريتون، ومنذ تولى منصبه في 2019، وقبل ضرب كورونا الشركات الأوروبية، كان يسوّق لإبقاء سيطرة الأوروبيين على الصناعات الاستراتيجية الهامة. واعتمدت فلسفة بريتون على أن القارة تمتلك مقومات أن تكون قوة مهيمنة عالمياً، وهو يدعم بقوة المقترح الفرنسي الألماني بضخ مئات وآلاف المليارات في شرايين الصناعات الأوروبية، بل وتشجيع عودة الشركات الإنتاجية من الخارج إلى السوق الأوروبية. ويسعى الاتحاد الأوروبي منذ العام 2014 من خلال برنامج "المشاريع الحيوية ذات الاهتمام المشترك" إلى تثبيت ما وصل إليه أخيراً الأوروبيون من نتائج، لدعم بقاء شركاته وصناعاته على أراضٍ أوروبية.

تناقضات داخلية
لكن مقابل دعم كبريات الدول الصناعية الأوروبية لاستراتيجية استقلال أكبر، ثمة مصاعب داخلية تتعلق بمواقف بعض الدول والقوى، مثل أقصى اليمين الشعبوي المعارض لفكرة البقاء في الاتحاد الأوروبي. كما يرفض البعض فكرة الاستقلال الأوروبي من خلال دعم الشركات وشراء أسهم من قبل الحكومات في الشركات المتعثرة، باعتبار ذلك يتعارض مع فكرة التجارة الحرة.

وتثير الخطة انتقادات أخرى تتعلق بحرية التنافس. لكن مؤيدي الاستراتيجية الأوروبية يتسلحون بما كشفته أزمة كورونا ليضعوا "المصالح الاستراتيجية" في المقدمة، وخصوصاً ما يتعلق بالصناعات الحيوية، وهو ما يجد شعبية بين بعض الشعوب الأوروبية التي صدمها واقع أن قارتها شبه عاجزة عن مواجهة وباء كورونا في بداياته، وخصوصاً في ألمانيا، بحسب "شبيغل".

ولكن على الرغم من الانتقادات، تجد خطة التعافي المطروحة على رؤساء حكومات وقادة الاتحاد دعماً قوياً من قبل المفوضية الأوروبية، ولعبت شخصية فون ديرلاين البراغماتية، دوراً في عرض الخطة على أنها "سير باتجاه استقلالية استراتيجية لأوروبا"، وهي تحاول تليين مواقف الدول المعارضة، وبينها الدنمارك والسويد والنمسا وهولندا، وأخيراً المجر. ذلك لا يعني أن الأمور ستمر بلا تعقيدات وتناقضات أوروبية داخلية حين تُطرح على جدول الأعمال، وخصوصاً من الدول التي تخشى أن يكون الأمر ميزة لأولئك الذين لديهم بالفعل صناعات عملاقة. بيد أنه في المقابل تحاول فون ديرلاين تذليل المعارضة، بوعود لتلك الدول باستفادتها من الخطة القاضية بتوطين الصناعات وإعادتها إلى السوق الأوروبي.