"قانون قيصر": خيارات صعبة لروسيا

"قانون قيصر": خيارات صعبة لروسيا

18 يونيو 2020
فتح طريق "إم 4" هدف مهم لروسيا(دليل سليمان/فرانس برس)
+ الخط -
مع دخوله حيز التنفيذ، يغير "قانون قيصر" قواعد اللعبة في الأزمة السورية جذرياً، ويحرم روسيا من إمكانية الانفراد بتفصيل الحل السياسي حسب رؤيتها. كما أنه يجبر موسكو على الدخول في تفاهمات ومساومات مع الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية، من أجل عدم خسارة "إنجازاتها" العسكرية، والمحافظة على ما يمكن من مصالحها الاقتصادية والعسكرية والجيوسياسية في سورية. وتتضاءل حظوظ روسيا بالاستمرار في سياسة كسب الوقت لإطالة عمر النظام السوري، عبر تعطيل مبادرات المبعوثين الأمميين للأزمة السورية، وطرح تفسيرات خاصة للتوافقات الدولية للحل، مثل إعلان جنيف في 2012 والقرار 2254، مروراً باشتقاق مسار أستانة، ولاحقاً عقد مؤتمر سوتشي مطلع 2018 ومحاولة الدفع به بديلاً عن مسار جنيف الأممي للحل السياسي، وصولاً إلى عدم ممارسة ضغوط على النظام لانخراطه جدياً في مسار اللجنة الدستورية، والتسوية السياسية.

ورغم أن موسكو بدأت التحضير باكراً لمواجهة تداعيات "قانون قيصر"، الذي استغرق سنوات من البحث في واشنطن حتى إقراره، فإن سريان مفعوله في التوقيت الحالي يحدّ كثيراً من قدرة روسيا على مواجهة تبعاته والتصدي لها، في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يشهدها الاقتصاد الروسي بسبب تأثيرات فيروس كورونا وتراجع أسعار النفط والغاز. كما أن القانون يستهدف للمرة الأولى كل من يتعامل مع كيانات روسية وإيرانية في سورية، ما يؤثر سلباً على عمل الشركات الروسية العاملة في سورية، وسعيها لتحقيق مكاسب اقتصادية من المشاريع التي حصلت عليها من النظام مقابل الدعم السياسي والعسكري.

وبعيداً عن التنديد بـ"تحركات أميركية أحادية لتعزيز الضغوط خارج القانون الدولي" على حدّ وصف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف "قانون قيصر"، ومحاولة تسويقه على أنه يستهدف المواطنين السوريين ويزيد معاناتهم، ومع عدم قدرتها على وقف تنفيذ القانون، تراهن موسكو على تقلبات وعدم ثبات الموقف الأميركي. وتنطلق رؤيتها للتخفيف من تبعات القانون من اتباع النفس الطويل، ومراقبة وتحليل الأوضاع الداخلية في سورية بدقة، مع تسريع آلية اتخاذ القرارات بهدف تثبيت النظام، وتجنب أي سيناريوهات عاصفة قد تتسبب في انهياره حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة صيف 2021.

وتكاد تنحصر خيارات الجانب الروسي في محاولة العمل على الاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية الداخلية في سورية، عبر تحسين الإدارة والحدّ من الفساد، وتسريع الانتقال من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد السلم، وتجميد العمليات العسكرية في إدلب وشمال شرق سورية، واقتصار الجهد العسكري على محاربة أي هجمات قد يشنها تنظيم "داعش" في البادية. كما تسعى موسكو إلى تحقيق اختراقات في بناء توافقات بين النظام والجانب الكردي، المسيطر على مناطق واسعة في شرق الفرات. وبالتوازي تحضر لوجود أقوى في تلك المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية لمواجهة تداعيات "قيصر"، وتقويض نفوذ الأكراد في حال عدم الاستجابة لدعوات الحوار والتعاون عبر إنشاء تشكيلات عسكرية من القبائل العربية الرافضة لمشروع "الإدارة الذاتية".


وعلى الصعيد الإقليمي، ستكرس موسكو جهودها الدبلوماسية لإعادة الحياة إلى مسار أستانة، وتحاول ردم الهوة بين موقفي أنقرة وطهران، وتجاوز الخلافات بينهما بشأن مستقبل التسوية السياسية للأزمة السورية. ومن غير المستبعد ان تقدم تنازلات ملموسة للجانب التركي في ليبيا، مقابل إقناعه بالتعاون في الملف السوري وتأمين الاستقرار في شمال البلاد. ودولياً يمكن أن تكثف موسكو جهودها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والسعي لتخفيف شروط رفع العقوبات المفروضة بمقتضى "قانون قيصر".

السيطرة على الطرق الاستراتيجية

مع إدراكه للمخاطر الحقيقية التي تمثلها العودة الأميركية القوية إلى الملف السوري، عبر سلاح تشديد العقوبات الاقتصادية وربطها بالأمن القومي الأميركي، بدأ الكرملين باكراً التحضير لهذه المرحلة. وبعد منحه النظام ضوءاً أخضر لشن عملية عسكرية على إدلب ودعمه للتقدم، أجبره على التوقف بعد تحقيق غايته الأساسية، وهي إحكام سيطرته على الطريقين الرئيسيين في البلاد، اللذين يربطان جنوب البلاد بشمالها وشرقها بغربها. وتجنباً لانزلاق البلدين إلى مواجهة عسكرية مباشرة بعد تقدم النظام، وقع الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، في 5 مارس/آذار الماضي، مذكرة إضافية لوقف العمليات العسكرية، وتواصل موسكو تنسيقها مع الجانب التركي عسكرياً واستخباراتياً لحل عقدة "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، والتنظيمات "الإرهابية" الأخرى في إدلب. وعملت على تسيير دوريات مشتركة لفتح الطريق الدولي الاستراتيجي "إم 4" الواصل بين اللاذقية وحلب، كما اتفقت مع "الإدارة الذاتية"، التي يقودها الأكراد في شمال شرق سورية، على عدم تعطيل الحركة في الطريق الحيوي، وإقناع مختلف الأطراف التي تتقاسم النفوذ على الطريق أن لها مصلحة حقيقية في استئناف حركة تبادل البضائع.

وعشية دخول "قانون قيصر" حيز التنفيذ، سيرت روسيا مع الجانب التركي أطول دورية مشتركة في محافظة إدلب، عبرت نحو 40 كيلومتراً من قرية ترنبة في ريف إدلب الشرقي، إلى بلدة فريكة بريف إدلب الغربي. وجاءت هذه الدورية بعد إزالة "هيئة تحرير الشام"، في شكل مفاجئ، يوم الأحد الماضي، جميع حواجزها على الطريق. ويعدّ فتح الطريق الدولي هدفاً مهماً في إطار محاولة روسيا الاستغلال الأمثل لموارد سورية الداخلية، لمواجهة تداعيات القانون. وقبل أيام تواردت أنباء عن أوامر روسية لـ"الفرقة الرابعة"، بقيادة ماهر الأسد شقيق رأس النظام، بسحب حواجزها المنتشرة في الشمال السوري. وأكدت مصادر محلية أنها أُجبرت بالفعل على سحب حواجزها التي كانت موجودة في الجهة المقابلة لمعبر أبو كهف، الذي يربط مناطق النظام مع منطقة منبج في ريف حلب الشمالي الشرقي، ومن معبر الطبقة الذي يربط مناطق النظام مع محافظة الرقة من الجهة الجنوبية الغربية. وتكمن أهمية فتح هذه الطرق، وسحب الحواجز، في تسهيل نقل البضائع من منطقة شرق الفرات، المصدر الأساسي للمحاصيل الاستراتيجية، مثل القمح والقطن، بالإضافة إلى وجود حقول تضم ثلاثة أرباع الثروة النفطية المكتشفة ونصف إنتاج الغاز الطبيعي.

ويندرج إجبار ماهر الأسد على سحب حواجز "الفرقة الرابعة" من هذه المناطق في إطار حملة أوسع لتنشيط الحركة التجارية، وإنهاء مظاهر اقتصاد الحرب الذي يستفيد منه نافذون استغلوا الأوضاع لجني ثروات طائلة. ويدور الحديث عن سحب نحو 470 حاجزاً تديرها "الفرقة الرابعة" وتجني الملايين يومياً عبر فرض إتاوات على نقل البضائع والمنتجات الزراعية بين مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، بالإضافة إلى مناطق أخرى متفرقة من البلاد.

محاربة الفساد وأثرياء الحرب

في منتصف إبريل/نيسان الماضي، بعث الكرملين، عبر وسائل إعلام ومراكز بحثية مقربة منه، رسائل واضحة تشدد على ضرورة محاربة الفساد المستشري في سورية، والانتقال السريع إلى الاقتصاد السلمي وإنهاء مظاهر عسكرة الاقتصاد. ويبدو أن موسكو شجعت، أو أجبرت، النظام على فتح ملفات الملياردير رامي مخلوف، ابن خال رئيس النظام بشار الأسد، من أجل إثبات جديته في محاربة الفساد، وإنهاء الامتيازات الممنوحة لممولي حملات النظام العسكرية على الشعب السوري منذ أكثر من تسع سنوات. ورغم الصدى الكبير للحملة على مخلوف، فإن المعركة مع أثرياء الحرب الآخرين قد لا تفضي إلى نتائج مضمونة، وقد تتحول هذه الحملات إلى صراعات عسكرية، نظراً لقدرة مخلوف وغيره من المتضررين المحتملين على تمويل ما قد يزعج النظام، إضافة إلى أن معظم الثروات باتت خارج البلاد أصلاً.

واستباقاً للنقمة الشعبية على النظام، شنّ الإعلام الروسي هجوماً كبيراً على حكومة عماد خميس، الذي أقيل قبل أيام، في محاولة لتحميله مسؤولية تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية للمواطنين، والتي تسببت في تظاهرات شعبية في السويداء ودرعا، وقد تنتقل إلى جميع مناطق سيطرة النظام مع انهيار سعر صرف الليرة، والغلاء الفاحش، وفقدان بعض أنواع الأدوية والأغذية. ورغم عدم وجود ضمانات بأن الاستغلال الفعال لموارد النظام، التي تراجعت كثيراً منذ 2011، بعد الدمار الواسع في البلاد الذي طاول المصانع والبنية التحتية، وهجرة رؤوس الأموال والكفاءات إلى الخارج، يمكن أن يؤدي إلى نتيجة حاسمة، فإن الجانب الروسي يسعى في أقل تقدير إلى ضبط حرارة الأوضاع الداخلية حتى لا تصل إلى "ثورة جياع" عارمة تحرق جميع "إنجازاته" الحربية منذ بداية الأزمة، وقد تؤدي إلى خروج مذّل من سورية في تكرار لسيناريو المستنقع الأفغاني.

تعزيز الوجود وسرعة اتخاذ القرار

وفي خطوة لمتابعة الأوضاع عن كثب، وتسريع آليات اتخاذ القرارات الحاسمة في ظل توقعات بتطورات درامية، عين بوتين، الشهر الماضي، السفير الروسي لدى دمشق ألكسندر يفيموف مبعوثاً خاصاً له لتطوير العلاقات مع سورية. وتمنح الصفة الجديدة السفير إمكانية أوسع لبحث التطورات مع كبار المسؤولين السوريين، واتخاذ قرارات سريعة من دون المرور بقنوات الاتصال التقليدية. كما كلف بوتين وزارتي الدفاع والخارجية الروسيتين التفاوض مع النظام من أجل تنفيذ بروتوكول إضافي، لاتفاق نشر القوات الروسية في سورية في 2015، يمنح موسكو الحق في توسيع قاعدتي طرطوس البحرية، وحميميم الجوية، ويمكن أن يفتح على توسيع قواعد أخرى، بعضها في شمال شرق سورية، مثل مطار القامشلي.

تفعيل ثلاثي أستانة

وبعد تعطل قسري بسبب جائحة كورونا، سبقته خلافات بين "حلفاء الضرورة" في مسار أستانة، تسعى روسيا وإيران من أجل إعادة بث الحياة فيه، في إطار محاولتهما التخفيف من تداعيات "قانون قيصر". وفي ختام لقاء بين وزيري خارجية روسيا سيرغي لافروف وإيران محمد جواد ظريف، في موسكو، الثلاثاء الماضي، أكد الوزيران أن الجهود متواصلة لعقد قمة افتراضية بين الزعماء في أقرب وقت لبحث الأوضاع في سورية، على أن تتبعها قمة مباشرة في طهران قبل موعد انعقاد الجلسة المقبلة للجنة الدستورية.

وبدا واضحاً أن الطرفين يسعيان إلى جذب أنقرة عبر تقديم تنازلات في الملف الليبي. وفي مؤتمر صحافي مشترك، أشار ظريف إلى أن إيران تتشارك وجهات نظر مع تركيا بشأن سبل حل الأزمة الليبية. ورداً على سؤال حول إمكانية نقل تجربة التعاون في سورية إلى ليبيا، أكد لافروف هذا الاحتمال. وقال "ممكن بالتأكيد. لدينا تنسيق جيد في سورية، وهي تجربة مهمة، والمهم أن يكون المدخل قائماً، كما في سورية، على وقف النار، ودعوة كل الأطراف للجلوس حول طاولة الحوار وفقاً للقرارات الدولية".

الحوار مع واشنطن

ومع عودة واشنطن إلى لعب دور حاسم في الملف السوري، بدا واضحاً أن موسكو تسعى إلى تنشيط خطوط الاتصال الدبلوماسية مع الإدارة الأميركية. وأكد نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، أخيراً، أنّ موسكو "مستعدة للانخراط فوراً بحوار موسع مع الولايات المتحدة حول كل الملفات التي تخص الوضع في سورية". وبعدها خطا الجانبان خطوة إضافية. وبعد فترة انقطاع طويلة، بحث نائب وزير الخارجية والمبعوث الروسي الخاص لشؤون الشرق الأوسط سيرغي فيرشينين، مع المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية جيمس جيفري، في مكالمة هاتفية "تفصيلية"، الأوضاع في سورية. وذكرت الخارجية الروسية، في بيان، أن الدبلوماسيين البارزين بحثا "بشكل مفصل قضايا دفع عملية التسوية السياسية للأزمة السورية، بالاستناد إلى قرار مجلس الأمن الدولي 2254، الذي ينص على الالتزام باحترام سيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدة أراضيها". وأشار إلى أنهما ناقشا "الأوضاع على الأرض، ومن ضمنها مهمات ضمان إرساء الاستقرار في إدلب ومنطقة شرق الفرات وجنوب البلاد".

من الواضح أن دخول "قانون قيصر" حيز التنفيذ يربك حسابات الكرملين في سورية، ويجبره على الدخول في مفاوضات للوصول إلى تفاهمات مع الولايات المتحدة، التي أثبتت أنها تستطيع الدفع برؤيتها للتسوية السياسية في سورية إذا أرادت، من دون الكثير من الضجيج. فبدعمها الأكراد استطاعت واشنطن السيطرة على نحو ثلث أراضي سورية الأغنى مائياً والمصدر الأساسي للقمح والحبوب والقطن، والتي تحتوي على أهم حقول النفط والغاز في البلاد. ويبدو أن موسكو ستكون مضطرة للانتقال إلى مرحلة جديدة، تزيد فيها الضغوط على النظام من أجل الانخراط في التسوية السياسية، وتجبره على تنفيذ الشروط الأميركية لوقف تنفيذ "قانون قيصر"، وإلا فإنها تجازف بخسارة كل ما حققته من تدخلها العسكري والسياسي. فلا معنى لأي إنجازات عسكرية من دون استثمار سياسي يضمن المحافظة على مصالحها في سورية، التي باتت مهددة بفعل تداعيات القانون الذي يعطل إعادة الإعمار وتحسين الأوضاع الاقتصادية، في بلد بات على شفا اندلاع ثورة جديدة على نظام الأسد العاجز مع حلفائه في روسيا وإيران ولبنان عن وقف تداعيات القانون الكارثية على الاقتصاد السوري وداعميه، أو حتى من يفكر بالتعاون معهم.

المساهمون