الجزائر: هل يعود الحراك إلى الشارع؟

الجزائر: هل يعود الحراك إلى الشارع؟

16 يونيو 2020
يرى كثيرون أن العودة إلى الشارع ضرورية(رياض كرامدي/فرانس برس)
+ الخط -

لا تعوز الحراك الشعبي في الجزائر الدوافع والأسباب التي يمكن أن تدفع بالمتظاهرين للعودة إلى الشارع بعد توقف للاحتجاجات دام ثلاثة أشهر بسبب أزمة وباء كورونا. وحتى مع استمرار المخاوف من الأزمة الوبائية، فإنّ بعض التظاهرات ذات الطابع السياسي التي حدثت في الأيام الأخيرة، وعودة التظاهرات المطلبية الاجتماعية في مدن عدة خصوصاً في الجنوب، يمكن اعتبارها "بروفة" أولى في اتجاه عودة محتملة للحراك إلى الشارع، خصوصاً في ظلّ استمرار حملة الاعتقالات في حقّ الناشطين، وخيبة أمل كتلة شعبية هامة، من مسودة الدستور ومضمونها، والقلق من توجهات السلطة الجديدة، فضلاً عن ارتباك حكومي لوحظ في إدارة أزمة كورونا. كذلك، فإنّ بداية التطبيع العالمي مع الوباء، ومشاهد التظاهرات في دول عدة في أنحاء العالم، كالولايات المتحدة أو عودة الحراك في لبنان والعراق، قد تنعكس على الحراك الجزائري.

وشهدت مدينة ورقلة عاصمة النفط، جنوبي الجزائر، أول من أمس الأحد، تظاهرة حاشدة لمطالبة الرئيس عبد المجيد تبون بتنفيذ وعوده بتحسين الظروف المعيشية ومحاسبة المسؤولين الحكوميين عن سوء تسيير البلاد. وتزامنت هذه التظاهرة مع تظاهرة أخرى في منطقة المسيلة، وسط البلاد، رفع خلالها المحتجون شعار "أين الوعود يا تبون". ويوم الجمعة الماضي، انتظمت تظاهرة للمطالبة بالحريات السياسية وإطلاق سراح المعتقلين في مدينة تيزي وزو، بالإضافة إلى تجمع للناشطين في مدينة بومرداس، شمال البلاد. وبغضّ النظر عن كون هذه التحركات تمثّل خرقاً وتحدياً واضحاً لقرار السلطات بمنع التجمعات والتظاهرات مهما كان نوعها بسبب كورونا، فإنها جاءت كذلك بعد تصريحات للرئيس تبون، الأسبوع الماضي، حذّر فيها مما وصفه بـ"خطة لإطلاق موجة جديدة من الاحتجاجات"، وأبدى تشدداً ضدّ المطالبات المتعجلة بالحقوق الاجتماعية.

وقبل ذلك بأيام، كانت مدن عدة قد شهدت تظاهرات متقطعة. ففي منطقة تيميمون جنوبي الجزائر، تجمع ناشطون ومتظاهرون قبالة مقرات الأمن في مناطق متفرقة، دعماً للمعتقلَين ياسر قديري وأحمد سيدي موسى. وفي منطقة واسيف بولاية تيزي وزو قرب العاصمة الجزائرية، تجمّع ناشطون قبالة مركز للأمن في المنطقة بعد استدعاء ناشطين من قبل مصالح الأمن للتحقيق معهم بشأن مواقفهم في الحراك. كما خرج ناشطون في مدينة آث ورتيلان بولاية سطيف، شرقي الجزائر، في مسيرة دعماً للناشطين المعتقلين. وفي أول أيام عيد الفطر، خرج سكان بلدة بني دوالة بولاية تيزي وزو في تظاهرة لتوجيه التحية للمعتقلين بمناسبة عيد الفطر. كما تظاهر ناشطون في مدينة خراطة بولاية بجاية، شرقي الجزائر، لدعم المعتقلين.

ولم تعلن المكونات البارزة في الحراك الشعبي حتى الآن، موقفاً واضحاً بشأن العودة للشارع، كما لم تطلق دعوة لاستئناف التظاهر الذي كان قد توقف بطلب من تنسيقية أطباء الحراك بسبب فيروس كورونا، وممنوع أيضاً بقرار رسمي على خلفية الأزمة الوبائية، وذلك على الرغم من تداول بعض المجموعات النشطة دعوات للتظاهر، بدءاً من يوم الجمعة المقبل في 19 يونيو/حزيران الحالي. وتبرر هذه المجموعات دعوتها بخرق السلطة نفسها للهدنة المعلنة من قبل الحراك منذ منتصف مارس/ آذار الماضي، وزيادة قبضتها الأمنية، واستمرار حملة الاعتقالات والملاحقات ضدّ الناشطين، والذين كان آخرهم ثلاثة من أبرز الناشطين المعروفين، هم فوضيل بومالة ومحاد قاسمي وحكيم عداد، الذين اعتقلتهم السلطات أول من أمس، الأحد. ويأتي ذلك على الرغم من وعود نقلها عن تبون رئيس حزب "جيل جديد" جيلالي سفيان، أخيراً، وتتضمن وعداً بإطلاق سراح الناشطين المعتقلين قريباً، وفي مقدمتهم كريم طابو وسمير بلعربي.

ويبدو أنّ هناك رأياً لدى كتل شعبية وسياسية واسعة بضرورة العودة إلى الشارع، بما في ذلك جزء هام من كتلة (12/12)، والتي يقصد بها الكتلة التي اقتنعت بالمسار الانتخابي الذي طرحته السلطة والجيش وشاركت في انتخابات الرئاسة في 12 ديسمبر/ كانون الأول الماضي.

وبرأي الكثير من المتابعين الذين يرصدون تطور الموقف بين الحراك والسلطة، فانّ فترة ما بعد وقف التظاهرات في مارس/ آذار الماضي، كانت تمثل فرصة جدية للسلطة لكسب هامش من الثقة من قبل مكونات الحراك، خصوصاً أنّ أغلب هذه المكونات انخرطت آلياً في جهود مواجهة كورونا. فالمجموعات الطلابية التي كانت تدير تظاهرات يوم الثلاثاء، انتقلت إلى المختبرات الجامعية للمساهمة في صنع المحاليل، فيما توجّهت مجموعات أخرى لصنع الكمامات والتحذير من مخاطر الفيروس. كما وجّهت مكونات أخرى جهودها نحو جمع وتوزيع المعونات التموينية لصالح العائلات المعوزة وشراء التجهيزات لصالح المشافي. لكن السلطة في المقابل شنت حملة اعتقالات ضدّ الناشطين لم تتوقف إلى الآن.

ويرى الباحث نوري إدريس، في دراسة نشرها قبل أيام، أنّ "السلطة كانت السباقة بخرق الهدنة التي بادر إليها الحراك الشعبي بسبب كورونا منذ مارس الماضي، إذ انتظر المتظاهرون من السلطة أن تعامل الحراك بالمسؤولية نفسها التي تعاملوا هم بها مع المسيرات الشعبية". ويضيف إدريس أنّ "مناخ انتشار الوباء يفرض على الدولة تقديم إجراءات تهدئة ومدّ جسور الثقة بين المؤسسات والشعب من أجل التعاون لمكافحة انتشار كورونا، وإطلاق سراح المسجونين، وإلغاء، أو على الأقل تعليق، المتابعات القضائية في حق الناشطين. ولكن الأحداث المتتابعة، أعادت بعث مخاوف لدى كثيرين بشأن نية السلطة استغلال ظرف إنساني كهذا، لتحقيق مكاسب سياسية على حساب الحراك"، في إشارة إلى حملة الاعتقالات والمحاكمات ضد الناشطين السياسيين.

وبغضّ النظر عن القلق من حملة الاعتقالات، وإخفاق السلطة في كسب ثقة مكونات الحراك وتنفيذ تدابير التهدئة، فإنّ هناك تصوراً واضحاً يفيد بأنّ السلطة خسرت كذلك ثقة كتلة هامة من مؤيديها، أو على الأقل من الكتلة الشعبية والسياسية التي قبلت الانخراط في المسار الانتخابي، ولا سيما بعد طرح مسودة الدستور التي جلبت انتقادات حادة للسلطة من شركائها، ودفعت الكثيرين إلى مراجعة موقفهم منها ومن خياراتها السياسية، فضلاً عن التخوف والتشكيك بصدقية وجدية نوايا الإصلاح السياسي والدستوري الذي تتعهد به السلطة، وقد فتح ذلك ثغرة كبيرة في جدار الثقة بين الطرفين.

وفي السياق، يعتقد الأستاذ في كلية الإعلام والعلوم السياسية بجامعة الجزائر، أحمد فلاق، أنّ "ظروف ودوافع عودة الحراك الشعبي إلى الشارع تبدو واضحة، وترتبط بالمطالب العالقة للحراك وبسلوك السلطة السياسية ومشكلاتها". ويركز فلاق في تصريح لـ"العربي الجديد"، على مسألة مسودة الدستور "المخيبة"، ويقول: "أعتقد أنّ التعديلات الدستورية أكدت كل المخاوف التي انتابت مكونات الحراك من حدوث ردة سياسية، وتراجع السلطة والرئيس عبد المجيد تبون عن وعود أطلقها بإجراء تعديلات دستورية تعزز من حرية التعبير والنشاط السياسي والفصل بين السلطات". ويضيف "مسودة الدستور سيئة ورديئة، هاجسها الأول عدم تكرار مرحلة ما بعد سقوط الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وتعزيز الصلاحيات المبالغ بها للرئيس، والاحتفاظ بالمجالس الموروثة من عهد بوتفليقة. ثمّ كانت هناك إعادة بعث لحزبي السلطة (جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، اللذين سمح لهما بعقد مؤتمريهما العامين)، وغلق وسائل الإعلام وتكثيف الاعتقالات والمحاكمات، وهذه كلها مؤشرات تعزز الاعتقاد بأنّ النظام يتجدد بشكله الفج، وبكتالوغ قديم جداً".

ويشير فلاق إلى أنّ العودة إلى الشارع قد تشمل جزءاً كبيراً من كتلة (12/12)، لافتاً إلى أنّ "هناك تفتتاً في قاعدة 12/12، التي أحست بأنها تتبع سراباً سياسياً، وتحملت الخيبة تلو الخيبة من سلطة ساهمت في انتخابها، ثمّ خرجت عن المسار الذي تم تصويره قبل الانتخابات، خصوصاً بعد طرح مسودة الدستور، وظهور بعض التوجهات التي لا ترضي الأغلبية في خطاب السلطة، لا سيما في قضايا حساسة كقضايا الهوية".

ويعتبر فلاق أنّ "السلطة أظهرت أخطاء كثيرة على المستويات كافة، وارتباكاً في القرارات، وضعفاً في الجانب الاتصالي، وهذه كلها عوامل عززت من فكرة محدودية النظام وفشله في بناء سلطة متزنة، مستقرة، ومتجانسة في قراراتها، إذ بدت السلطة متخبطة، فيما لم يفد التسيير السياسي والإعلامي لجائحة كورونا، في التغطية على المشاكل الحياتية اليومية للمواطن، وهذا يشكل دافعاً آخر لعودة الحراك إلى الشارع". ويشير فلاق إلى أنّ المعطى والعنوان الاجتماعي "قد يأخذ موقعه هذه المرة ولا سيما في ما يتعلّق بتهاوي أسعار النفط التي لا يمكن تجاهل تداعياتها، وكانت نتيجتها قانون المالية التكميلي، الذي سيزيد من الأعباء الاقتصادية على شرائح واسعة من الشعب وربما بشكل أشد".

لكنّ رأياً مغايراً يدفع في الاتجاه المقابل، ويعتبر أنّ عودة تظاهرات الحراك في الوقت الحالي، "مغامرة تنطوي على مخاطر صحية بالدرجة الأولى". وفي هذا الإطار، يقول المحامي والناشط في الحراك عبد الغني بادي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ "توقف التظاهرات كان وفق تعليمات من الأطباء الملتزمين بالحراك الشعبي، وزوال المبررات الصحية المرتبطة بفيروس كورونا، يجب أن تكون أيضاً بتقدير منهم".

وهو الرأي الذي يؤيده كذلك المحامي والناشط البارز مصطفى بوشاشي، الذي أعلن بشكل صريح اعتراضه على فكرة عودة التظاهرات ونصح بالتريث قبل ذلك. ويقول بوشاشي لـ"العربي الجديد"، إنّ "العودة إلى المسيرات الشعبية في إطار الحراك تبدو سابقة لأوانها. يجب أن نتحلى بالصبر وأن نتبع رأي الخبراء (في إشارة إلى الأطباء)، بمن فيهم أولئك الذين يعملون في المؤسسات الرسمية".

ويربط الكثير من المتابعين بين تردد السلطات الجزائرية في رفع الحجر الصحي المتضمن منع التجمعات، بمخاوفها من عودة تظاهرات الحراك الشعبي، ورغبتها في الاستفادة من هامش الهدوء القسري للشارع، لتمرير مسودة الدستور، بالتزامن مع السعي لتوقيف كل الوجوه النشطة والمعروفة بتأثيرها في سيرورة الحراك، وهي تبدي حزماً وإصراراً على الصدّ الأمني في حال عادت التظاهرات. وهو ما عبر عنه تبون بوضوح في آخر مقابلة تلفزيونية أجراها، الخميس الماضي، إذ قال إنّ "كل التقارير التي تأتي من جهات متعددة تقول إن هناك موجة كبيرة من الاحتجاجات يتم التحضير لها، وهذا المخطط سيفشل أيضاً ونحن لهم بالمرصاد، لذلك بجب الحذر وأتمنى أن لا يدخل المواطنون في هذا اللعبة"، مضيفاً "هناك من هو منسجم تماماً مع الفوضى الخلاقة، فحذار من الانسياق، وعندما أقول حذار من الانسياق، فهذا لا يعني القمع بل القضية قضية حماية وطن".