قوات الشرطة بالشمال السوري: هل تستطيع تحدي سلطة الفصائل؟

قوات الشرطة في الشمال السوري: هل تستطيع تحدي سلطة الفصائل؟

26 مايو 2020
عناصر من الشرطة العسكرية في عفرين (نذير الخطيب/فرانس برس)
+ الخط -
تمثّل الشرطة المدنية في مناطق سيطرة فصائل "الجيش الوطني السوري" التابع للمعارضة والمدعوم من تركيا، في شمالي سورية، عامل أمان مهماً لمجمل المدنيين القاطنين في تلك المناطق والذين يزيد عددهم عن مليون شخص، خصوصاً مع الاتهامات التي توجه عادة لعناصر الفصائل المسلحة بعدم الانضباط، والاقتتال المستمر في ما بينها، فتكون الشرطة هي الملاذ الآمن للمدنيين.
وحسب بعض التقديرات، فإنّ هناك ما يزيد عن عشرة آلاف شرطي ينتشرون في مناطق سيطرة "الجيش الوطني" الثلاث: غصن الزيتون، درع الفرات، ونبع السلام، لكنهم يواجهون صعوبات في تأدية مهامهم بسبب سلطة الفصائل القوية، وسلبية الجانب التركي الذي يختار غالباً عدم التدخل لضبط سلوك الفصائل، ومنع تمادي بعض عناصرها بحق الشرطة والمدنيين، فضلاً عن بعض حالات الفساد وعدم الكفاءة بين عناصر وقادة الشرطة أنفسهم، خصوصاً في منطقة عفرين.
وفي الآونة الأخيرة، تكررت حوادث الاعتداء على عناصر الشرطة المدنية والعسكرية، وهو ما أثار تساؤلات حول مغزى ذلك، ومن يقف خلف هذه الاعتداءات. وأصيب خمسة من أفراد قوات الشرطة، الأربعاء الماضي، في قرية سجو بريف حلب، شمالي البلاد، جراء هجوم بعبوة ناسفة على حافلة أثناء توجههم إلى عملهم. قبلها بيومين، أصيب أربعة من عناصر الشرطة،  نتيجة هجوم من قبل مجهولين على دورية لهم على طريق أخترين في ريف حلب الشمالي. وتشير مصادر إلى أنّ المهاجمين كانوا ينوون استهداف أحد ضباط الشرطة الذي كان ضمن الدورية، وهو الرائد عبد الله الحمد. وقبل بذلك، تلقّت قوات الشرطة والأمن العام في مدينة أخترين بلاغاً حول وجود سيارة مشتبه بها وسط المدينة، حيث توجهت دوريات من الشرطة عقب البلاغ إلى مكان السيارة واحتجزتها، ليتبين عقب فحصها من قبل فرق الهندسة أنّها مفخخة.
وفي 13 مايو/ أيار الحالي، أقدم مجهولون على اغتيال شرطيين يتبعان لقسم الجنائية في شرطة ناحية الراعي على طريق العامرية، شرق حلب، فيما شهد مطلع الشهر الحالي كذلك اشتباكات بين فصيل "أحرار الشرقية" والشرطة العسكرية المدعومة من بعض فصائل "الجيش الوطني" في مدينة جرابلس، شمال شرقي حلب، بالقرب من الحدود السورية - التركية، وذلك عقب مقتل ضابط في الشرطة.

وحول هذه المشاكل التي تواجه الشرطة وتحدّ من فاعليتها، قال أبو اليسر، وهو المسؤول السابق للمكتب الإعلامي في الشرطة في منطقة غصن الزيتون (عفرين)، إنّ "الوضع في منطقة عفرين يرثى له، لأن الشرطة هناك فاشلة، وكثير من ضباطها من الشبيحة بالمعنى السياسي والمهني"، بحسب تعبيره. وأضاف في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ المنطقة "تعاني من تسلّط أصحاب النفوذ والأموال الذين يتسلمون زمام الأمور، ومعظمهم ليست له علاقة بالثورة والمعارضة". وتحدّث أبو اليسر مثلاً عن أنّ "هناك شخصاً برتبة رائد في صفوف الشرطة من مواليد 1998 فقط، ما يعني أنه لا يمكنه أن يكون بهذه الرتبة وهو بهذا السن. ولكن المشكلة الأكبر أنه هو وأهله موالون للنظام السوري بشكل فاضح".

وساق أبو اليسر مثالاً آخر يتعلق باعتقال قائد شرطة عفرين، العقيد رامي طلاس، من قبل السلطات التركية، مطلع الشهر الماضي، بتهم غير واضحة. وأشار إلى أنّ سبب اعتقال طلاس ومرافقيه وبعض أقاربه، هو أنّ نائبه عامر المحمد من أصحاب النفوذ، فهو قيادي في فصيل "العمشات"، وابن اخته هو "أبو عمشة"، قائد فصيل "لواء سليمان شاه"، فضلاً عن أنّ تحت يده أموالاً طائلة، على الرغم من أنه أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة". وتابع أبو اليسر أنّ عامر المحمد "تهجم على مكتب طلاس، ليقوم بعد اعتقاله من جانب السلطات التركية، بفصل كل شخص محسوب عليه من جهاز الشرطة، وخصوصاً أقاربه، بل تمّ فصل ضباط من الخدمة بسبب منشورات على فيسبوك تتضمّن صوراً لرامي طلاس وتأييداً له". وكانت السلطات التركية قد اعتقلت طلاس من دون الكشف عن التهم الموجهة إليه، لكن مصادر إعلامية تحدثت عن عمليات تحرش جنسي مزعومة. وعينت تركيا عامر المحمد قائداً لشرطة عفرين خلفاً لطلاس.

وأكّد أبو اليسر أنّ "هناك فساداً كبيراً ضمن شرطة عفرين، حيث يتسلم زمام الأمور من هم ليسوا أهلاً لذلك، فلا هم من المنشقين، ولا هم ممن حملوا السلاح مع الثورة، وكل ما عندهم أنهم هربوا إلى تركيا في بداية الثورة وتعلموا اللغة التركية، وتزلفوا للأتراك، ليصبحوا في صفوف الشرطة، بل ومن قادتها وضباطها". وبشأن موقف السلطات التركية مما يجري، قال أبو اليسر إنه ليس لديه تفسير أو علم بهذا الموقف.

وحول عدد أفراد الشرطة، وهل هم قوة يعتدّ بها قياساً بحجم الفصائل، أم أنّ وجودهم رمزي، أوضح أبو اليسر أنّ "عددهم يتجاوز الـ12 ألف عنصر في كل مناطق انتشار الجيش الوطني. أما في عفرين بالذات، فالعدد يراوح بين 4 و5 آلاف عنصر، وهم عموماً مزودون بسلاح جيّد، ويحظون بدعم كامل من جانب السلطات التركية، لكنهم يفتقدون للعزيمة، وهم قليلو الفاعلية بشكل عام، قياساً بأداء عناصر الفصائل، لأنّ هدفهم الوحيد هو الحصول على الراتب، وليس القيام بأي خدمة للمواطنين". ووصف أبو اليسر الوضع في عفرين بأنه "غابة، القوي فيها يأكل الضعيف".

في المقابل، قدم هشام دربالة، قائد الشرطة العسكرية في مدينة أعزاز، شمالي غرب حلب، صورة مغايرة عن مناطق درع الفرات، وقال في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "هناك تعاوناً بين الشرطة العسكرية والفصائل الموجودة على الأرض"، مضيفاً أنّ "الحوادث الأمنية قليلة، وتتم معالجتها أولاً بأول". ورأى دربالة أنّ "عدد أفراد الشرطة كاف وعتادهم وتسليحهم جيد"، مشيراً إلى أنّ "الشرطة تستمدّ قوتها من قوة القانون والقرار".

وتدعم تركيا الشرطة المدنية والعسكرية في مناطق نفوذها الثلاث في الشمال السوري، وتواظب على إقامة دورات تدريبية لعناصرها داخل تركيا. وأعلنت وزارة الداخلية في الحكومة السورية المؤقتة، في يناير/ كانون الثاني الماضي، عن تسليمها الدفعة الأولى من سيارات الخدمة لمديرية أمن مدينة تل أبيض، شمال محافظة الرقة، شمال شرقي سورية، وذلك في إطار مباشرة الشرطة المدنية عملها في المدينة التي وصل إليها عناصر من الشرطة كانوا قد أتموا دورة تدريبية بإشراف عناصر من القيادة العامة لقوات الدرك التركية. وتضمنت الدفعة سبع عشرة مركبة.

وتبلغ مساحة المناطق التي يسيطر عليها "الجيش الوطني" في سورية 8835 كيلومتراً مربعاً، وتضمّ أكثر من 1000 بلدة ومدينة، يقطنها نحو 1.2 مليون شخص، وأهمها مدن عفرين، تل أبيض، رأس العين، الباب، أعزاز، دابق، جرابلس، جنديرس، راجو وشيخ الحديد. وقد تمت السيطرة عليها خلال السنوات الماضية تباعاً، بعد طرد تنظيم "داعش" و"قوات سورية الديمقراطية" (قسد) منها. وهناك بلدات مثل أعزاز كانت بالفعل تحت سيطرة المعارضة السورية قبل التدخل التركي. وقد أنشأت محكمة عسكرية في مدينة الباب، لتنظيم عمل الشرطة العسكرية.

الشرطة الحرة
وقبل وجود هذه الشرطة المدعومة من تركيا، كانت توجد في مناطق سيطرة المعارضة ما تسمى بـ"الشرطة الحرة"، والتي تعود ولادتها إلى السنوات الأولى من عمر الثورة السورية. فعقب سيطرة فصائل "الجيش السوري الحر" على أحياء مدينة حلب، أواخر يونيو/ حزيران 2012، ومدنٍ وبلدات واسعة في أرياف حلب الغربي والشمالي والشرقي، كان لا بدّ من جهاز يدير الملف الأمني في تلك المناطق، حيث سعى بعض ضباط الشرطة المنشقين لتأسيس جهاز الشرطة، في سبتمبر/ أيلول من ذلك العام، استجابةً لمطالب الأهالي بضرورة تسيير الأمور الأمنية في المنطقة. وقد تمّ تشكيل "الشرطة الحرة" التي بدأت عملها نهاية العام نفسه، بعد أن كان الأمر يقتصر على دوريات ومخافر أسسها مدنيون وعناصر شرطة منشقون من دون تنظيم.

وقال قائد الشرطة الحرة السابق في حلب العميد أديب الشلاف، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ الجهود في تلك الفترة "انصبت على توحيد المبادرات المتفرقة لتأسيس جهاز موحد للشرطة، ليتوقف لاحقاً عمل هذا الجهاز في حلب، إثر سيطرة قوات النظام على المدينة في نهاية العام 2016. كما توقّف العمل في القطاع الشرقي بعدما سيطر تنظيم داعش على معظمه، لكن جهاز الشرطة ظلّ قائماً في القطاعات الجنوبية والغربية والشمالية من ريف حلب".
وأوضح الشلاف أنّه "كان يتم تأسيس مركز الشرطة بعد اجتماع قائدها مع أهالي البلدة أو المدينة، عبر لجنة تضم رئيس المجلس المحلي وأعضاء هيئات مدنية، والذين يقع على عاتقهم انتقاء العناصر والضباط المنشقين من المنطقة ذاتها. وفي حال لم يتوفر العدد المطلوب، تدرب الشرطة كوادر من خلال خبراتها الموجودة". وأضاف أنّ الشرطة كانت "مجتمعية، وليست مسلحة، ويحمل بعض أفرادها سلاحهم الذي انشقوا به للحراسة، فيما دعم آنذاك برنامج (أمان وعدالة مجتمعية) مالياً عملية تدريب الكوادر، كما رعى البرنامج في وقت سابق تدريبات في تركيا". وأوضح أنّ البرنامج "كان يزود المراكز بالسيارات والدراجات النارية والطابعات والقرطاسية، ومولدات الكهرباء، وفرش مكاتب المراكز، إضافة إلى كل ما يلزمها من معدات".

وكانت محافظة حلب مثلاً تضم 54 مركزاً للشرطة الحرة؛ 20 منها في الريف الغربي، وثلاثة في الجنوبي، إضافة إلى 13 أخرى في الريف الشمالي، وإلى جانبها خمسة مراكز إدارية، قبل أن ينخفض العدد إلى 40 بعد توقف مراكز المدينة، وكان يعمل فيها نحو ألفي عنصر بين ضباط وعناصر. وكانت الشرطة تتولى مكافحة الجرائم والسرقات وحلّ الخلافات والنزاعات، إضافة إلى تنظيم حركة السير، وخدمات أخرى.
وأشار الشلاف إلى أنه "منذ بداية عملها، دُمّرت للشرطة أكثر من 25 سيارة، وقتل العشرات من عناصرها نتيجة قصف قوات النظام وروسيا". ولفت إلى أنه "لا علاقة للشرطة الحرة التي كان يرأسها بالشرطة الحالية في مناطق سيطرة الجيش الوطني، إذ توقف عمل الأولى منذ أكثر من عام ونصف العام بسبب بعض الظروف، وأهمها تدخل هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) في مراكزنا، ولذلك قمنا بتجميد عمل الشرطة".
وكانت الولايات المتحدة وبريطانيا ومجموعة أخرى من الدول الأوربية تقدم دعماً لـ"الشرطة الحرة"، لكنها أوقفت ذلك الدعم اعتباراً من أغسطس/ آب 2018، وقد بررت هذا القرار بوجود "حكومة الإنقاذ" التابعة لـ"هيئة تحرير الشام"، والخوف من تسرب الدعم إلى الأخيرة.
وفي حديث سابق مع "العربي الجديد"، تساءل العميد الشلاف عن سبب توجه الدول المانحة لاتخاذ قرارات مماثلة وإضعاف المؤسسات المعبرة عن الثورة في سورية، فيما اعتبر قادة آخرون أنّ توقف دعم الشرطة الحرة هو دعم بطريقة غير مباشرة للتنظيمات الإرهابية.

بدوره، قال العميد المنشق فؤاد سويد، القائد السابق لشرطة إدلب الحرة، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "الشرطة الحرة في إدلب وحلب علّقت عملها منذ نهاية عام 2018، بسبب سيطرة الفصائل على الساحة، والتي سيطرت أيضاً على مقرات ومعدات الشرطة". وأشار إلى أنّ "الشرطة الموجودة في مناطق درع الفرات ونبع السلام وغصن الزيتون، تحت سيطرة الأتراك والحكومة السورية المؤقتة"، لافتاً إلى أنّ "بعض عناصرها كانوا يعملون مع الشرطة الحرة، وعندما توقفت الأخيرة انتسبوا لتلك الأجهزة".