لبنان: مواجهة رأسي السلطة المالي والسياسي

لبنان: مواجهة رأسي السلطة المالي والسياسي

26 ابريل 2020
الغضب الشعبي يتزايد ضد المصارف والسلطة (حسين بيضون)
+ الخط -
أظهرت الأزمة السياسية ـ الاقتصادية في لبنان وانعكاساتها السلبية اجتماعياً، أن الوضع بلغ "نقطة اللاعودة"، في ظلّ التدهور المتنامي لسعر صرف الدولار بالليرة اللبنانية، وتأثير ذلك على ارتفاع أسعار السلة الغذائية وباقي السلع الأساسية في البلاد. ومع إعلان الحكومة خطة من خمس مراحل زمنية لإعادة الحياة تدريجاً إلى البلاد، المتوقفة منذ 16 مارس/ آذار الماضي بسبب تفشي وباء كورونا، تبدأ غداً الاثنين، استعر الخلاف بين رئيس الحكومة حسان دياب، من جهة، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، من جهة أخرى، من دون بروز بوادر لحلّ سريع لإنقاذ البلاد من الانهيار الحتمي، وبالتالي يحمي ما بقي من شبكة أمان لدى اللبنانيين. وتدهور سعر صرف الدولار في السوق اللبناني، في الأسبوع الأخير بشدّة، خصوصاً بفعل مسارعة المصارف إلى تأمين الدولارات، سواء الموجودة في حسابات المودعين، أو في المنازل. وأدى هذا الأمر إلى رفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء إلى نحو 4 آلاف ليرة، مؤدياً إلى جو مشحون بين الصيارفة، لدرجة حصول إشكالات أمنية فيما بينهم. كذلك عملت بعض المصارف على محاولة إغراء الناس، والطلب منهم فتح حساب بالدولار، على أن يستردوه مضاعفة بـ2.1 مرة، لكن بالعملة المحلية ووفقاً لسوق متحرك يحدده المصرف المعني، لا المصرف المركزي.

وفي وقتٍ بدأ فيه السوق اللبناني يفتقد مواد أساسية، سواء لتركها من أجل "الأيام السوداء"، أو بسبب فقدان الدولار الضروري لعملية الاستيراد، طُرح موضوع إقالة سلامة على طاولة النقاش. وترافق ذلك مع حملة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، في ظلّ تأييد العديد من وسائل الإعلام المحلية له، لأسباب عدة. ومع أن إقالة سلامة كان مطلباً من مطالب قوى 17 أكتوبر/ تشرين الأول اللبنانية، إلا أن جميع الأطراف السياسية أيّدت استمراره في منصبه، لكن حزب الله وجّه رسائل ضمنية رافضة لسلامة، بما يوحي وكأنه خرج عن الإجماع العام. واعتبر دياب أن تعاميم مصرف لبنان وخطواته هي ما أدى إلى تردي الوضع الاقتصادي، واضعاً ذلك في سياق الضغط عليه لإسقاط حكومته، ملمحاً إلى وقوف رئيس الحكومة السابق سعد الحريري خلف سلامة.
لم يستمر ضغط حزب الله طويلاً، ففي جلسة حكومية عُقدت أول من أمس الجمعة، لم يتفق أحد على إقالة سلامة، حتى إن موضوع إقالته مرّ بشكل عابر، فاكتفى دياب بالإشارة إلى "خروج 7 مليارات دولار من مصرف لبنان في الشهرين الأولين من العام الحالي"، في ظلّ موافقة الحكومة على اقتراح وزارة المال تكليف شركة "KPMG، Kroll، Oliver Wyman" التدقيق في عمليات مصرف لبنان وحساباته. مع العلم أنه نُقل عن المستشار المالي للدولة اللبنانية، شركة "لازار"، سابقاً تأييدها إجراء "هيركات" (اقتطاع) من الودائع العالية، لكن الحكومة رفضت ذلك، لكن المصارف تمارسها حقيقة بفعل منعها المواطنين من سحب ودائعهم بالدولار، بل استبدالها بالعملة المحلية وفقاً لسعر الصرف الأساسي وهو 1500 ليرة.

الأبرز خلال الجلسة الحكومية الأخيرة، أن رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، وهو رئيس حركة "أمل"، رفض عبر وزيريه طرح إقالة سلامة، بما يوحي بتمايزه عن حزب الله في هذا الملف، وعلى استمرار صدامه مع دياب. العلاقة مع الرجلين لم تعد على ما يرام، مع سقوط بند تمرير مبلغ قدره 1200 مليار ليرة في الجلسات النيابية التي عُقدت في منتصف الأسبوع الحالي، المخصصة لدعم الأسر الفقيرة في فترة الحجر المنزلي، بفعل عدم تأمين النصاب النيابي لذلك.



لكن المشكلة لا تكمن هنا فحسب، بل إن سلامة نفسه يُعتبر محسوباً على النفوذ الأميركي. فإطاحة سلامة تعني الصدام مع واشنطن، وهو أمر غير مطروح، وخصوصاً بعد جولة أخيرة للسفيرة الأميركية في لبنان، دوروثي شيا، على عدد من الشخصيات المحسوبة على فريق حزب الله، ومنهم رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، ورئيس "التيار الوطني الحر"، جبران باسيل. مع العلم أن التيار الحرّ، بقيادة مؤسسه، رئيس الجمهورية ميشال عون، هو من اقترح التجديد لولاية كاملة من 6 سنوات لسلامة في عام 2017، على أن تنتهي في عام 2023. أما بالنسبة إلى رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، فقد أيّد فكرة محاسبة سلامة، لكنه ربطها مع فتح كل ملفات الهدر والفساد في لبنان. من جهته، اعتبر رئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، أن خطوات دياب تؤدي إلى إفراغ جيوب المواطنين من أموالهم. مع العلم أن رئيس الحكومة يعاني أيضاً من الضغط عليه من دار الفتوى، التي تميل إلى الحريري سياسياً. كذلك اتخذ الموضوع طابعاً طائفياً مع رفض بطريرك الموارنة بشارة الراعي إقالة سلامة، بادعاء أن ذلك يمسّ بـ"حقوق المسيحيين"، علماً أن منصب حاكم مصرف لبنان هو من ناحية العرف الطائفي، من "حصة" الموارنة، شأنه شأن رئاسة الجمهورية وقائد الجيش.

منذ ما بعد الحرب اللبنانية (1975 – 1990)، أطلق الراحل رفيق الحريري مرحلة إعادة الإعمار، التي جرى فيها ربط الاقتصاد اللبناني بالدولار، وترافق ذلك مع الإتيان برياض سلامة من مؤسسة "ميريل لينش" الأميركية إلى حاكمية مصرف لبنان في إبريل/ نيسان 1993. وجرى التمديد له مرات عدة بإجماع كل الأطراف السياسية في لبنان، من دون استثناء، وآخرها في عام 2017. ومع أن الكثير من الادعاءات ربطت سلامة بـ"استقرار الليرة"، وخصوصاً لجهة تثبيت سعر الصرف لأكثر من 20 عاماً، على سعر راوح 1500 ليرة للدولار، إلا أن ذلك ترافق مع تضخّم مالي كبير بفعل الاستدانة المستمرة للدولة اللبنانية من جهة، وعدم إقفالها مصادر الهدر والفساد من جهة أخرى، فضلاً عن عدم ضخ الاستثمارات في البنى التحتية وقطاعي الصناعة والزراعة.

غير أن الأمر كان مقبولاً، أو بالأحرى يمكن غضّ النظر عنه، بفعل عاملين أساسيين: الأول هو حجم الأموال الاغترابية، بسبب انتشار العديد من العمال اللبنانيين في الخارج. والثاني، كثافة الودائع الدولارية من دول الخليج خصوصاً. غير أن الحرب السورية أثرت سلباً على الوضع الاقتصادي اللبناني، بدءاً من إقفال الحدود بين البلدين، مروراً بشحّ الدولارات المرسلة من المغتربين، وصولاً إلى عمليات تهريب العملة الصعبة إلى النظام السوري، فضلاً عن المحروقات التي كانت تُدفع أثمانها بالدولار في لبنان، ثم تُهرَّب إلى سورية، وتُستبدَل بعقارات أو بالعملة السورية. في غضون ذلك، عمل سلامة على ترتيب هندسات مالية، استفادت منها مصارف عدة، تابعة للمنظومة السياسية المالية، بعد سحبها من ودائع الناس. ولم تنتهِ الأمور عند هذا الحدّ، بل عمدت وزارة الخزانة الأميركية إلى فرض عقوبات على أشخاص من حزب الله أو مقرّبين منه، ما اضطر المصرف المركزي إلى تشديد الرقابة المصرفية على الحسابات الدائرة في فلك هؤلاء الأشخاص. وبلغ الصدام حدّته في عام 2016، مع وقوع تفجير قرب أحد المصارف، رُبط بالنزاع بين سلامة، المُتهم بتنفيذ أجندة أميركية، وحزب الله. رغم أن التحقيقات لم تكشف مسؤولية أحد في التفجير.