محمد عمارة... صوت الثورة في الأزهر

محمد عمارة... صوت الثورة في الأزهر

01 مارس 2020
توفي عمارة الجمعة عن عمر ناهز 89 عاماً (تويتر)
+ الخط -

جدد رحيل المفكر المصري، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر، محمد عمارة، الحديث عن الخلافات بين الرئيس عبد الفتاح السيسي، وشيخ الأزهر أحمد الطيب، وتجلى ذلك في نعي الأخير لعمارة، الذي توفي مساء أول من أمس الجمعة عن عمر ناهز 89 عاماً، مؤكداً أنّ "المفكر الراحل ترك فراغاً يصعب ملؤه في صفوف كبار العلماء، الذين يحملون على عاتقهم أمانة العلم، وصدق الكلمة، والدفاع عن سماحة الإسلام ووسطيته وإعلاء شأنه".

وقال الأزهر في بيان رسمي، أمس السبت، إنّ "التاريخ سيظلّ يذكر فقيد الأزهر والأمة العربية والإسلامية، بعلمه وفكره الوسطي، ودحضه ما أثير عن الإسلام من شبهات، وتشهد على ذلك مصنفاته المملوءة علماً وحكمةً ومعرفةً، وإسهاماته الكبرى في إثراء الفكر الإسلامي، التي ملأت الدنيا، وغطت كل القضايا الفكرية العامة والمعاصرة، ومحاضراته التي أفاد منها الآلاف من طلاب العلم في العالم الإسلامي".

وجاء النعي بعبارات فسّرها عاملون في مشيخة الأزهر، بأنها تأتي رداً على عدم نعي مؤسسة الرئاسة لعمارة، في استكمال لما بدأته بإجباره على الاستقالة، بسبب العديد من المواقف السياسية له، التي أيّد فيها ثورة المصريين على نظام الرئيس المخلوع الراحل، حسني مبارك، وكان بمثابة صوتاً لهم وللثورة داخل الأزهر، كذلك كان صوتاً للشرعية في رفض الانقلاب العسكري الذي نفذه السيسي، لإطاحة الرئيس الراحل محمد مرسي من الحكم في 3 يوليو/ تموز 2013.

وأصدر عمارة بياناً في أعقاب الانقلاب، قال فيه إنّ ما حدث هو "انقلاب عسكري على التحول الديمقراطي الذي فتحت أبوابه ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011"، مشيراً إلى أنّ "دستور 2012 حدد طريقة التداول السلمي للسلطة عن طريق صندوق الاقتراع، كما هو متبع في كل الدول الديمقراطية".

وتابع عمارة قائلاً إنّ "الانقلاب العسكري أعاد عقارب الساعة في مصر إلى ما قبل 60 عاماً، حين اعتمدت الدولة البوليسية سُبل الإقصاء للمعارضين، حتى وصل الأمر إلى عزل إرادة الشعب المصري كله سياسياً، إذ زُوّرت إرادته، وعانى من أجهزة القمع"، مضيفاً: "هذا المسار الذي فتح الانقلاب أبوابه لا يضرّ فقط بالتحول الديمقراطي للأمة، وإنما يضرّ كذلك بالقوات المسلحة بشغلها عن مهامها الأساسية".

واستشهد عمارة بالهزيمة العسكرية التي حلّت بالدولة المصرية في ستينيات القرن الماضي، مستطرداً: "ما يزيد من مخاطر الانقلاب العسكري أنّ البعض يريده انقلاباً على الهوية الإسلامية في مصر، التي استقرّت وتجذرت عبر التاريخ، وفي هذا فتح لباب الفتنة الطائفية بالبلاد"، خاتماً بالقول إنّ "مرسي له بيعة في عنق الأمة مدتها 4 سنوات بحكم الدستور والقانون، ومن خرج وانقلب عليه هم الخوارج".

وبعد نحو عامين من وقوع انقلاب الجيش على مرسي، قبل شيخ الأزهر، أحمد الطيب، الاستقالة التي تقدّم بها عمارة من منصبه رئيساً لتحرير مجلة "الأزهر"، التي كان سبق أن تقدّم بها في 11 سبتمبر/ أيلول 2014، ورفضها الطيب آنذاك، موضحاً أنه "اضطر للاستقالة على وقع الضغوط التي تمارس على المسؤولين لإقالته من موقعه، وبلغت حدّ تدخل السيسي شخصياً بحسب وسائل الإعلام".

واشترك عمارة مع علماء آخرين في إصدار بيان مشترك خلال الأيام الأولى لثورة 2011، أعلنوا فيه بوضوح انحيازهم إلى الثورة ضدّ نظام مبارك، بوصفها "ثورة شعبية من أعمق الثورات التي عاشتها البلاد في العصر الحديث، وأظهرت المعدن الحقيقي للشعب المصري الأصيل".

وفي إبريل/ نيسان 2011، صدر عن عمارة مؤلفه "ثورة 25 يناير... وكسر حاجز الخوف"، الذي رصد فيه التعريفات المختلفة للثورة في الفقه الإسلامي، معدّداً مواقف أهل السُّنة من الموافقة على خلع "الإمام الجائر"، بشرط ألا يستلزم ذلك فتنة وقتالاً وهياجاً، وهو ما اعتبره نوعاً من التحفظ على التغيير بالثورة.

وفنّد عمارة آراء من سماهم "علماء السوء" و"فقهاء السلاطين"، الذين يزعمون أنّ الإسلام يوجب على الرعية طاعة الحكام في كل الأحوال، و"شكر الحاكم إذا عدل، والصبر إذا ظلم"، عازياً اندلاع الثورة إلى "انتشار الفقر والإحباط بين قطاعات كبيرة من الشباب"، و"تكريس جهاز الشرطة لحراسة النظام والأسرة الحاكمة، وقهر الشعب، وتزوير إرادة الأمة في الانتخابات والاستفتاءات".

وقال المفكر الإسلامي الراحل في تصريحات إعلامية سابقة: "قضيتنا ليست في إسقاط مبارك، ولكن في إسقاط نظام مبارك؛ هذا النظام الذي عاث فساداً على مرّ ثلاثة عقود، ووصفته دولة الاحتلال بأنه الكنز الاستراتيجي لأمن إسرائيل"، مضيفاً: "هذا عار على مصر، ولا بد أن يزال؛ فلم تتحرك الأمة في مواجهة حاكم كما تحركت في مواجهة مبارك، ولم يحدث إهانة لحاكم في التاريخ كما حدث له".

تجدر الإشارة إلى أنّ مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر تقدّم بـ"خالص العزاء لأسرة عمارة، ولطلاب العلم من تلامذته في مصر والعالم الإسلامي"، قائلاً إنّ "المفكر الإسلامي الراحل أسهم بدور كبير في خدمة العلم وأهله، بوصفه من أبرز أعلام اليقظة الفكرية الإسلامية الحديثة، وله العشرات من المؤلفات العلمية التي أثرت المكتبات بمضامينها النافعة".

ولد عمارة في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ في 8 ديسمبر/ كانون الأول 1931، حصل على ليسانس في اللغة العربية من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1965، وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الفلسفة من الكلية ذاتها عامي 1970 و1975.

اشتهر عن عمارة أنه واحدٌ من أبرز المتحوّلين من الفكر الماركسي إلى الفكر الإسلامي، ويعدّ من بين أبرز الذين تأثروا بالشيخ محمد الغزالي (1917-1996) مع الشيخ يوسف القرضاوي والمفكرين الإسلاميين، الدكتور عبد الحليم عويس والدكتور محمد سليم العوا والمستشار طارق البشري، وغيرهم.

لم يتوقف نشاط عمارة في الكتابة والتأليف والمحاضرة حتى رحيله، إضافة إلى مشاركاته المتعددة في الندوات والمؤتمرات. وكان عضواً فاعلاً ومؤثراً في العديد من المجالس والمؤسسات، مثل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، والمعهد العالي للفكر الإسلامي، وعضو هيئة كبار علماء الأزهر.

اهتم عمارة بتراث المفكرين الإسلاميين والوطنيين، وجمع أعمال عدد منهم، وقام بتحقيقها ودراستها ونشرها؛ فقدم الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي، والشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وقاسم أمين، وعلي مبارك، إضافة إلى بحوثه المتفرقة عن شخصيات أخرى، كالشيخ الغزالي وعبد الرزاق السنهوري وأبي الأعلى المودودي ولويس عوض وغيرهم.

كذلك اهتم في كتاباته بتفنيد الشبهات ضدّ الإسلام، والدفاع عن مبادئه الإنسانية العادلة في عدد من كتبه مثل: "الغارة الجديدة على الإسلام"، "الإسلام والسياسة: الرد على شبهات العلمانيين". ومن مؤلفاته الشهيرة أيضاً: "التفسير الماركسي للإسلام"، "المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية"، "معالم المنهج الإسلامي"، "الإسلام والمستقبل"، "نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام"، "معارك العرب ضد الغزاة"، "أزمة العقل العربي".

ومن آخر المؤلفات التي نشرها عمارة: "الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديل الأمريكاني"، و"الغرب والإسلام: أين الخطأ وأين الصواب"، و"مقالات الغلوّ الديني واللاديني".