9 أعوام على الثورة الليبية: لعنة السلاح والتدخلات الخارجية

9 أعوام على الثورة الليبية: لعنة السلاح والتدخلات الخارجية

17 فبراير 2020
يدفع الليبيون ثمن أخطاء السياسيين والعسكر (حازم تركية/الأناضول)
+ الخط -
كانت ليبيا في عام 2011 في مقدمة بلدان الربيع العربي، بعدما أدت تراكمات عدة من الانتفاضات والاحتجاجات على مدى سنوات إلى "الانفجار الكبير" في فبراير/ شباط 2011 بوجه العقيد معمّر القذافي. نجحت الانتفاضة، التي اندلعت في بنغازي أولاً، ومن ثم تمددت إلى باقي المناطق الليبية في إطاحة قائد ثورة الفاتح من سبتمبر/ أيلول 1969، بعد أشهر من انطلاقها، لتليها مرحلة صعبة في البحث عن الاستقرار وهوية وطنية جديدة لا تزال تتنازعها صراعات السياسيين، في شرق البلاد وغربها.

وبعد تسع سنوات على نجاح الثورة، يبدو أن الليبيين لا يزالون يدفعون إلى اليوم ثمن التدخلات الخارجية في انتفاضتهم وفوضى السلاح. ولم يسهم موت معمر القذافي في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2011 في وضع السلاح الذي رفع خلال الانتفاضة جانباً والتفرغ لعملية إعادة بناء الدولة وتحقيق تطلعات المنتفضين إلى مستقبل أفضل بعيداً عن الاستبداد السياسي الذي عاشوا تحت وطأته قرابة 4 عقود. بل بدا أن طيّ صفحة القذافي بداية لمرحلة أشد صعوبة كان على الليبيين أن يكابدوا وهم يحاولون إكمال انتفاضتهم وإنجاح المرحلة الانتقالية. لكن ذلك بدا كأنه أشبه بالحلم المستحيل، إذ لا تزال المعارك مستمرة إلى اليوم في غياب أي توافق داخلي، خصوصاً في ظل إصرار اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر على إغراق ليبيا أكثر في الحرب، عبر إفشال أي محاولة للحل السياسي تحت شعار "لن نتوقف حتى السيطرة على طرابلس"، وفي ظل عجز حكومة الوفاق المعترف بها دولياً عن إقناع جميع الليبيين بأنها قادرة على تمثيلهم جراء فشلها في ضبط فوضى المليشيات المحسوبة عليها وبناء قوة عسكرية وطنية جامعة.
ويحدث ذلك وسط تصاعد التدخلات الدولية والإقليمية في الصراع، على الرغم من أن بعض القوى الدولية شاركت في مؤتمر فيينا النمساوي في مايو/ أيار 2015 ومؤتمر برلين الألماني في 19 يناير/ كانون الثاني الماضي، لبحث عملية السلام الليبية التي يظهر أنها بعيدة المنال.

بدايات متعثرة

وما تمرّ به البلاد اليوم من أزمات يبدو أنه نتاج الأخطاء التي وقعت في عام 2011 والسنوات التي تلتها. فبعد نحو 8 أشهر من القتال ضد نظام القذافي وموت الأخير، برزت تجاذبات عدة، ومنها رفض الثوار تسليم أسلحتهم والعودة إلى حياتهم المدنية. إلا أن ذلك لم يمنع يومها من تنظيم انتخابات نيابية، أفرزت "المؤتمر الوطني العام" (البرلمان) في أغسطس/ آب 2012، ما سمح بتعزيز منسوب التفاؤل في ليبيا، ولو مؤقتاً. ويلخّص أحد الثوار في طرابلس، إسماعيل حميدان، أهمية ما جرى يومها عبر احتفاظه بصورته وإصبعه ملطخ بحبر الانتخاب. ويقول في حديث مع "العربي الجديد"، متأملاً الصورة: "هذا ما بقي لنا من لائحة الأهداف التي حملنا السلاح من أجلها".
وإثر انتهاء أول تجربة ديمقراطية بانتخاب أول برلمان عام 2012، يرى البعض أنها كانت متعجلة وأحد أسباب الأزمات المتلاحقة، اعتبر بروز حفتر، الذي اشترك في انقلاب رفيقه القذافي عام 1969 (ثورة الفاتح) وقاد أغلب حروبه في الثمانينيات من القرن الماضي، أبرز مظاهر انزلاقها في ساحات القتال، بل كان السبب في انقسام البلاد سياسياً. فبعد قرار المحكمة العليا، في سبتمبر/ أيلول 2014، ببطلان الانتخابات البرلمانية الثانية التي جرت في 25 يونيو/ حزيران من العام عينه، دعا حفتر مجلس النواب إلى عقد جلساته في مدينة طبرق أقصى شرق البلاد، وحوّله إلى واجهة سياسية شرعن خلالها "عملية الكرامة" التي أطلقها في فبراير/ شباط 2014. ما حدا كتائب الثوار التي كانت حكومة "المؤتمر الوطني العام" تعمل على دمجها في المؤسسات العسكرية والأمنية، إلى إعلان الثورة مجدداً وإطلاق عملية عسكرية عُرفت وقتها بـ"فجر ليبيا"، طُرد خلالها من العاصمة طرابلس أنصار الانتخابات البرلمانية المبطلة بحكم القضاء، وأعادت "المؤتمر الوطني العام" مجدداً إلى الواجهة السياسية. أدخل هذا الأمر البلاد في انقسام سياسي بين برلمانين وحكومتين، و"هذا أكبر تهديد واجه تحقيق أهداف الثورة وأرجع البلاد إلى وضع أكثر بؤساً مما عاشته زمن القذافي"، بحسب تعبير الناشط السياسي عقيلة الأطرش الفارّ من بنغازي بسبب معارضته لحفتر.

ومع وجود فوارق عديدة، إلا أن الأطرش شبّه خطوة وقف القتال (المؤقتة) حالياً في محيط طرابلس بين حفتر وخصومه، بخطوة إنهاء الاقتتال إثر اندلاع عملية "فجر ليبيا" نهاية عام 2014، في كلتا الحالتين انخرطت الأمم المتحدة بقوة، مقنعة الطرفين بالجلوس إلى طاولة حوار، "الأولى انتهت بالاتفاق في الصخيرات (المغرب) والثانية تجري الآن جنيف ولم تنتهِ". ورجّح الأطرش أن تؤدي عملية جنيف إلى فَسح المجال أكثر أمام حفتر للملمة شتات قواته، وهو ما بدأ يظهر من التصريحات الأخيرة للواء الليبي المتقاعد. وساهمت الحرب التي أشعلها حفتر على مدى السنوات الماضية في إغراق ليبيا في المعارك العسكرية، حتى إن بعض الذين كانوا قد رموا السلاح عقب موت القذافي عادوا إلى حمله.

يقول باسط هدية، الذي شارك الثوار في قتالهم في 2011، ثم رمى السلاح، إنه حمله مجدداً لمساندة رفاقه في مصراتة في قتالهم ضد مليشيات حفتر. ويشير إلى أنه "صدق رفاقي عندما قالوا إن الثورة لم تنتهِ بعد، فها هو حفتر وريث القذافي على بعد 100 كيلومتر من المدينة محاولاً إعادة حكم الديكتاتور".


ويحسب لمدينة مصراتة أنها قاومت حصار كتائب القذافي ثمانية أشهر. وهي لا تزال تحتفظ بثقلها السياسي والعسكري، وتصرّ على دورها الأساسي في إنجاح الثورة. وإلى جانب الطريق الرئيسي المفضي إلى المدينة، أقام الثوار "متحف الثورة". يقول أحد المشرفين على المتحف المتطوعين، رمضان الضلعة، في حديث مع "العربي الجديد" إن المتحف "يختصر آلام المدينة وآمالها"، مضيفاً: "يجب علينا اليوم أكثر من أي وقت مضى الاحتفال بذكرى الثورة، وسيكون ذلك تذكيراً سليماً بأهدافها". ويتضمن المتحف مئات من صور الضحايا الذين سقطوا خلال الثورة. وأمام المتحف بقايا الأسلحة الخفيفة التي قاوم بها أهالي المدينة. ويحتفظ المتحف بمقتنيات القذافي الخاصة، ككرسيه الأخضر وقبعته وثيابه.

لعنة النفط 
ووسط استمرار اتساع الفوضى الأمنية والسياسية، لم يكن النفط الليبي، عصب الحياة في البلاد، ويصفه البعض بأنه "لعنة ليبيا" التي بسببها لا ينطفئ التناحر الداخلي والتدخل الخارجي، بمنأى عن الأزمات. جرت أكثر من محاولة لوقف تدفق النفط على مدى السنوات الماضية، وجميعها كانت مرتبطة بحفتر وحلفائه. فحتى قائد مليشيات حرس المنشآت النفطية، إبراهيم الجضران، الذي أغلق موانئ النفط أمام حركة التصدير، كان وراءه التيار الفدرالي الداعم لحفتر. وقد توقف تصدير النفط عام 2013 على أيدي مسلحين مدعومين من دعاة الفدرالية المطالبين بحقوقهم في موارد النفط، بينما كانت المرة الثانية في 18 يناير الماضي على يد الجضران نفسه، مطالباً بتوزيع عادل لموارد النفط، التي فشل حفتر في الاستفادة منها على الرغم من مرور ثلاث سنوات على سيطرته الكاملة على حقول الهلال النفطي وموانئه.

وبينما تبدو أهداف حفتر سياسية من خلال سماحه للقبائل بوقف تدفق النفط، يرى الباحث الاجتماعي الليبي، عبد العزيز الأوجلي، في حديث مع "العربي الجديد" أن اللواء الليبي المتقاعد عزف على وتر الحاجات الإنسانية. فهناك قبائل في الجنوب المهمّش تماماً مشتركة في وقف تدفق النفط من دون دعوة من حفتر. ويؤكد أن أزمات البلاد "تضاعفت لتصل إلى حد تفتيتها"، متحدثاً عن صور معبّرة عن تهالك النسيج الاجتماعي في البلاد جراء الاحتكام للسلاح لتصفية ثأر تاريخي أو بسبب الاصطفافات التي أنتجتها التجاذبات السياسية طوال السنوات التسع، ويقول الأوجلي: "خلال 6 أشهر من عام 2013 اندلعت حرب بين الطوارق والتبو وبين التبو والزوية وأخرى بين القذاذفة وأولاد سليمان قبل دخول حفتر على خط المساومات والتحالفات لضرب القبائل ببعضها، بهدف السيطرة عليها وتحويلها لخزانات بشرية لتغذية حروبه". وهي شهادة يؤكدها يوسف الخطري، أحد أبناء القبائل في سبها جنوب البلاد، بقوله في حديث مع "العربي الجديد" إنه "اليوم لا توجد دولة في الجنوب الليبي بتاتاً، وهو منقسم إلى مناطق نفوذ قبلي عبر توفير كل قبيلة الأمن لأبنائها". ويشير إلى أن الجنوب يواجه تحوّلاً ديموغرافياً وشيكاً، بسبب زحف قبائل من دول الجوار الأفريقي سيطرت تماماً على بعض المدن، مثل القطرون، وطرد سكانها الأصليين رغم سيطرة حفتر شكلياً على كامل فزان.

محاولات الحل السياسي 
وعلى الرغم من نشاط عصابات تهريب الوقود والسلع والمخدرات والخطف من أجل المال وصولاً إلى تهريب البشر عبر الحدود الجنوبية إلى نقاط "قوارب الموت" على الساحل الشمالي، إلا أن حلول أزمة البلد المنهار انحصرت طوال هذه السنين في المداولات السياسية، حتى بعد نجاح اتفاق الصخيرات، في ديسمبر/ كانون الأول 2015، في تشكيل حكومة وفاق وطني انقسم النواب في طبرق على خلفية منحها الثقة. وبدا أن الحكومة انجرفت إلى مستنقع الخلافات، على الرغم من محاولة بقائها بعيداً عن التجاذبات التي هدّدتها أكثر من مرة بسبب استقالة عدد من أعضاء مجلسها الرئاسي أو محاولات مجلسي النواب والدولة لتعديل الاتفاق السياسي بهدف إعادة تشكيل الحكومة.

كان تمسك مجلس النواب بحكومته في الشرق وعدم اعترافه بحكومة الوفاق، سبباً رئيسياً لتقديم الحماية السياسية لحفتر حتى منتصف عام 2018، ومن ثم اتساع دائرة الدعم العسكري من حلفائه الذين رأوا فيه، وقتها، الرجل الأنسب لتكرار النموذج العسكري الذي حدث في الجارة مصر. مكّن ذلك الدعم حفتر من السيطرة على أغلب أجزاء البلاد، خصوصاً مواقع النفط المهمة للمجتمع الدولي، ما جعله مفاوضاً أساسياً للمرة الأولى في المحادثات التي استضافتها فرنسا في مايو/ أيار 2018، مع قادة مجلسي النواب ورئيس حكومة الوفاق، وبعدها في باليرمو الإيطالية في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام عينه.
ومنذ ذلك التاريخ ارتبط المشهد السياسي وآمال الحلول السياسية بمشروع حفتر العسكري المدعوم من خارج البلاد، لتنحصر المفاوضات بينه وبين رئيس حكومة الوفاق فائز السراج، على الرغم من عدم امتلاك اللواء الليبي المتقاعد أي صفة رسمية. آخر هذه اللقاءات كان في أبوظبي في فبراير/ شباط 2019، وهو لقاء تلقى فيه حفتر كل التنازلات من جانب السراج بحسب مصادر عدة، لكنه انقلب على الاتفاقات، كما انقلب على الجهود الأممية التي كانت ستتوج بعقد ملتقى غدامس منتصف إبريل/ نيسان 2019، مع بدئه حملة عسكرية استهدف خلالها العاصمة.

مع ذلك، فقد فشل حفتر بعد عشرة أشهر من المعارك في اقتحام طرابلس، ما أفضى إلى انكباب المجتمع الدولي للعمل على حلّ أزمة البلاد سياسياً. وفي خضم كل ذلك، جاء إعلان توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين حكومة الوفاق والحكومة التركية، فضلاً عن توقيع مذكرة للتعاون الأمني، ليعيد خلط الأوراق وتصعيد الخلافات الدولية حول الملف الليبي، خصوصاً بين تركيا التي بدت حاسمة في خيارها بالوقوف إلى جانب الوفاق ضد حفتر مقابل روسيا التي تصر على تغطيته إلى جانب دول غربية أخرى وأخرى إقليمية وعربية تتقدمها مصر والإمارات والسعودية التي تمده بمختلف أنواع الدعم العسكري.
ووسط اتساع دائرة التوتر، تسارعت الخطى لعقد قمة دولية في برلين بعدما حاولت ألمانيا لأشهر طرح نفسها طرفاً قادراً على جمع الأطراف الخارجية والمحلية الفاعلة في ليبيا. وهو ما حصل بالتزامن مع وقف إطلاق نار كانت قد دخلته ليبيا منذ 12 يناير/ كانون الثاني الماضي، وتخلله الاتفاق على عدد من المخرجات، أبرزها تعهد الدول المشاركة في المؤتمر بعدم التدخل في الحرب الليبية ودعم حظر الأسلحة المفروض من قبل الأمم المتحدة التي تبنى مجلس الأمن الدولي فيها قبل أيام قراراً يدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار في ليبيا في أقرب فرصة ودون شروط مسبقة، معرباً عن "القلق من تدخل المرتزقة المتزايد في ليبيا"، بعد أسابيع من الخلافات والنقاشات بشأنه.

ووفقاً لأحد المراقبين، فإن "المجتمع الدولي يهرع لإنقاذ حفتر كلما سقط، فكما أوقفوا عملية فجر ليبيا باتفاق الصخيرات وأطالوا عمر حفتر، اليوم ومع استعداد قوات الحكومة لهجوم عكسي، قدّم المجتمع الدولي مؤتمر برلين". لكن نتائج المؤتمر، وقرار الأمم المتحدة، قد لا يدوم طويلاً في ظل استعداد اللواء الليبي المتقاعد لفصل جديد من القتال.
لكن على الرغم من كل ذلك، لا يزال الليبيون يأملون مجيء اليوم الذي سينتهون فيه من دوامة القتال. يقول معز. م، الذي شارك برفقة مجموعة من الشباب النشطاء في إطلاق "مبادرة السلام الوطني" من بنغازي في الأول من يناير الماضي لوقف القتال في طرابلس، قبل أن تلاحقهم أجهزة أمن حفتر وتداهم بيوتهم، إن "الباعث على مبادرتنا هو وجود رفض خفي لحفتر في شرق ليبيا، وكنا نطمح إلى تشجيع الأصوات كي ترتفع". وعلى الرغم من فراره خارج البلاد، إلا أن معز أكد أن بنغازي ستكون شرارة لرفض الواقع المأزوم بسبب السلاح، كما كانت شرارة ثورة فبراير.



المساهمون