جونسون يتفرّد ببريطانيا: مسار إلغاء دوامة الخروج

جونسون يتفرّد ببريطانيا: مسار إلغاء دوامة الخروج

31 يناير 2020
تتخطى مكاسب جونسون تطبيق بريكست (دانيال لياس أوليفاس/فرانس برس)
+ الخط -

لم تنته الانتخابات العامة التي أجرتها بريطانيا في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بحسم الجدل حول مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي فقط، ولكنها منحت أيضاً حزب المحافظين الحاكم سلطةً مطلقة في البرلمان البريطاني، وجعلت الساحة شبه خالية لرئيس الوزراء بوريس جونسون لرسم مسار مستقبل البلاد، بعدما دخلت أحزاب المعارضة في دوامة البحث عن النفس، فاستقال زعيما العمال جيريمي كوربين، والديمقراطيين الليبراليين جو سوينسون، من منصبيهما بعد الفشل في مواجهة جونسون.

وترجمت حكومة جونسون أغلبيتها بخطواتٍ متسارعة داخل البرلمان، عندما أُقرّ اتفاق بريكست في أقل من أسبوع من النقاشات البرلمانية، بعكس البرلمان السابق الذي فشل في إقرار الاتفاق بعد عامٍ كامل من النقاشات. وعلى الرغم من اعتراض مجلس اللوردات على عددٍ من فقرات مشروع قانون بريكست، مثل ما يتعلق باللاجئين من القاصرين، أو حقوق مواطني الاتحاد الأوروبي، رفض مجلس العموم في بضع ساعات كل تعديلات الغرفة العليا في البرلمان، وبأغلبية تقترب من 100 صوت. وسرعان ما احتفى جونسون بنصره، قائلاً إن بريطانيا "ستجتاز أخيراً خط نهاية بريكست"، لتُغادر في الموعد المحدد، مساء اليوم الجمعة، عند الساعة الحادية عشرة.

ولكن عجلة مكاسب جونسون لن تتوقف عند تطبيق بريكست. فالانتخابات الأخيرة نجحت أيضاً في تدمير المعارضة الداخلية داخل حزب المحافظين لرؤيته لمستقبل بريطانيا، وفشل من كانوا يُعرفون بمؤيدي بريكست مخفف، مثل فيليب هاموند، في دخول البرلمان الجديد. إلا أن جونسون كان قد دعا مراراً إلى إعادة توحيد البلاد التي شتتها الخلاف حول بريكست، وهو ما سيسعى إليه من خلال إعادة تصوير نفسه من متشدد لبريكست إلى سياسي في يمين الوسط المحافظ، كجزءٍ من تيار "الأمة الواحدة" في حزب المحافظين.


ويُنتظر من جونسون أن يتقدم بمزيجٍ من السياسات الاقتصادية الأقل يمينية، وربما ذات الشكل اليساري، مقابل الدفع بسياسات يمينية ثقافياً واجتماعياً. وستكون ترجمة ذلك عملياً المزيد من الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة، مثل دعم الخدمات الصحية الوطنية، ودعم البنية التحتية في المناطق المهمشة، خصوصاً في الشمال الإنكليزي، مقابل دعم "القيم البريطانية"، ودعم سياسات بهدف المحافظة على هذه القيم مثل كبح الهجرة.

ولا تقتصر دوافع حكومة جونسون على تأييد القواعد التقليدية لحزب المحافظين، بل في رغبته أيضاً بالحفاظ على تأييد الدوائر الانتخابية التي كسبها أخيراً من حزب العمال. وهذه الدوائر التي كانت تعرف باسم "الجدار الأحمر" في شمال إنكلترا، والتي صوّتت تاريخياً لصالح حزب العمال، نظراً لكونها المناطق الصناعية التقليدية في بريطانيا، تعكس أيضاً إعادة الاصطفاف السياسي في المجتمع البريطاني. ففي القرن الحادي والعشرين، تحوّلت معايير المجتمع في بريطانيا إلى مؤيد للعولمة، وبالتالي التكامل مع الاتحاد الأوروبي، والمتركز في المدن الكبرى، ومؤيد للهوية القومية، ومتركز في المدن الأصغر والأرياف، والذي يرى في العولمة خطراً على الازدهار والتجانس الاجتماعي.

ولا يقتصر التأكيد على الهوية القومية على إنكلترا فحسب، بل يضيف بعداً آخر إلى الانقسام البريطاني الداخلي في اسكتلندا، التي شهدت هيمنة القوميين الاسكتلنديين على مقاعدها في البرلمان البريطاني. فالقوميون الاسكتلنديون يرون في تقدمهم في الانتخابات الأخيرة دعماً لمطلبهم بإجراء استفتاء على الاستقلال، أو حتى المزيد من سلطات الحكم الذاتي، وكان آخرها تقدم الحكومة في إدنبره بمشروع قانون لتأشيرة دخول اسكتلندية، كفصل جديد في المواجهة مع الحكومة المركزية في لندن. أما حزب العمال، فلا يزال يبحث عن خليفة لزعيمه جيريمي كوربن، بل ويبحث أيضاً عن هويته بعد هزيمة الكوربينية السياسية.

وستكون أولى خطوات جونسون بعيد بريكست على الصعيد الداخلي تشكيل حكومة جديدة لا تقتصر فيها التعديلات على أسماء الوزراء، بل أيضاً على الوزارات ذاتها. وحتى الآن فإن ساجد جاويد، وزير المالية، الوزير الوحيد الذي ضمن لنفسه مكاناً في الحكومة الجديدة، بينما طالب جونسون جميع الوزراء بتطوير عمل وزاراتهم أو المغادرة. وينتظر أن تلغى وزارة بريكست مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كما قد تدمج وزارة التنمية الدولية، والتي تساهم في دعم المشاريع الحكومية البريطانية خارجياً بميزانية قدرها 13 مليار جنيه إسترليني، في وزارة الخارجية البريطانية. كما يتوقع أن تدخل تعديلات هيكلية على طبيعة عمل وزارات المالية والأعمال، والداخلية وغيرها.

كما ستقوم حكومة جونسون بإعادة هيكلة مصلحة الضرائب للتعامل مع الترتيبات الجديدة التي ستشهدها أيرلندا الشمالية، وفقاً لاتفاق بريكست. فالتسوية التي توصل إليها جونسون مع بروكسل تقضي بدفع الرسوم الجمركية على البضائع التي تدخل الجزيرة الأيرلندية، واسترداد تلك الرسوم التي ينتهي بها المطاف في أيرلندا الشمالية فقط. كما أن الوضع الجديد خارج الاتحاد الأوروبي سيخلق ترتيبات جديدة على الحدود البريطانية، وهو ما قد يخلق مشكلة لبريطانيا، التي ستحتاج لزيادة أعداد العاملين في هذه المؤسسات.

وسيشهد البرلمان البريطاني مناقشة عدد من القوانين التي ستشرع الوضع الجديد الذي ستعيشه بريطانيا خارج الاتحاد. وعلى رأس هذه التعديلات، قانون جديد للهجرة يستجيب لمطالب ناخبيه بالحد منها. وكانت لجنة الهجرة الاستشارية قد تقدمت الأسبوع الحالي بتقييمها لنظام النقاط الذي ينوي جونسون تطبيقه في بريطانيا. ولا تعد توصيات اللجنة ملزمة، ولكنها قامت بعملها بتكليف من وزارة الداخلية، وقد تتبنى الوزارة توصياتها بالكامل. ودعا التقرير إلى تبني نظام هجرة مختلط يعتمد النقاط للقادمين إلى بريطانيا من دون عقود عمل، واعتماد نظام عتبة الأجور للقادمين بعقود عمل. كما أعلنت حكومة جونسون عن نوع جديد من تأشيرات الدخول "للمواهب العالمية" بهدف اجتذاب الخبرات إلى سوق العمل البريطاني. كما ينتظر أن يناقش البرلمان توسيع صلاحيات "أوفكوم"، وهي السلطة المنظمة للاتصالات في بريطانيا، لتشمل الإشراف على تقنيات الجيل الخامس للاتصالات.

وسيسعى جونسون للتخلص من كلمة بريكست من قاموس الإعلام البريطاني، في محاولة لتأكيد إنجازه، إذ يعتبر أن المهمة تنتهي بالخروج من الاتحاد، وذلك على الرغم من اختلاف الجانب الأوروبي مع هذا المنطق. وبدلاً من بريكست، ستكون "التجارة" عنوان المرحلة المقبلة. فبريطانيا ستكون على أهبة الاستعداد لإبرام اتفاقيات جديدة مع جميع الأطراف، سواء كانت الاتحاد الأوروبي أم الولايات المتحدة أو غيرها. وهو ما سيخلق منظومة جديدة من القوانين التنظيمية للبضائع والخدمات المالية. وسيتمكن جونسون، نتيجة لغياب المعارضة البرلمانية، من إدارة هذه المفاوضات عبر الدوائر الحكومية، وبغياب كبير للبرلمان الذي كان حاضراً وبقوة خلال مفاوضات بريكست. وسيكون الغموض المعلم الرئيسي لهذه الحقبة، فعلى الرغم من إصرار جونسون على جاهزية بريطانيا للتفاوض، لا تزال طبيعة موقف لندن غير واضحة حتى الآن. وينتظر أن يلقي جونسون كلمة الأسبوع المقبل يحدد فيها بشكل مقتضب الأطر العامة للمفاوضات التجارية.

أما على المدى القريب بعد بريكست، فينتظر أن تصدر وزارة المالية قطعة نقدية تذكارية من فئة 50 بنساً (نصف جنيه إسترليني) احتفالا باللحظة التاريخية. وتحمل القطعة النقدية شعار "سلام، ازدهار وصداقة مع جميع الأمم". كما ستعود جوازات السفر البريطانية إلى لونها الأزرق، بينما يحتفظ الجواز الخمري الحالي بصلاحيته حتى انتهائها. كما ستستمر أمور عدة على حالها مؤقتاً، حتى انتهاء الفترة الانتقالية في نهاية العام الحالي. ويشمل ذلك كلاً من السفر إلى الاتحاد الأوروبي، وشهادات قيادة السيارات، والضمان الصحي في أوروبا، والرواتب التقاعدية في إطار الاتحاد، إضافة إلى مساهمة بريطانيا في ميزانية الاتحاد الأوروبي.