العراق: لماذا ذي قار أسخن محافظات التظاهرات؟

العراق: لماذا ذي قار أسخن محافظات التظاهرات؟

26 يناير 2020
الناصرية معقل تاريخي للاحتجاج في العراق (فرانس برس)
+ الخط -

لا يختلف العراقيون على أنّ محافظة ذي قار، جنوب البلاد، هي عاصمة مختلف ألوان الفنون في العراق، حيث الشعر والغناء والثراء الثقافي بألوان متنوعة وأصيلة، إلى جانب احتضانها لمدينتي أور ولكش التاريخيتين، وغيرها من الحضارات التي انتهت وتوارت آثارها بفعل إهمال الحكومات المتعاقبة. وخلال القرن الأخير، تحوَّلت المدينة التي مثّلت عنوان المقاومة لكل الاحتلالات الأجنبية، إلى "أمّ الفقر"، إذ تفشّت البطالة والأمراض والعوز والتأخّر التعليمي فيها، مع ارتفاع معدلات الانتحار بين صفوف شبّانها. لذلك، فإنها دائماً ما تكون الأسخن في ثوراتها ضدّ الحكومات، ولعلّ الشاهد الأمثل، هو ما حصل في الاحتجاجات الأخيرة التي انطلقت في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وأدّت لسقوط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي في الـ30 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إثر يومٍ دامٍ شهدته الناصرية، مركز محافظة ذي قار.

وسقط في ذي قار وحدها منذ انطلاق الاحتجاجات الأخيرة، أكثر من 120 قتيلاً، بينهم نحو 50 في مجزرة ساحة الحبوبي التي نفذتها قوات الأمن العراقية مصحوبة بمليشيات يتهرب جميع المسؤولين من الكشف عن هويتها أو الحديث عنها، هذا فضلاً عن جرح أكثر من 300 شخص. حتى أنّ الأسرّة في المستشفيات لم تكن قادرة على استيعاب الضحايا، فكانت أياماً صعبة على العراقيين، وانتهت بإعلان عبد المهدي الاستقالة. لكن الواقع لا يزال يؤكد أنّ الناصرية لا تزال بطريقة شبه يومية، تُشيّع ناشطين ومحتجين مؤثرين في ساحات التظاهر يسقطون بنيران مجهولين.

والناصرية، وهي عاصمة ذي قار المحلية، لم تكن تحتاج إلى وصف يعتبرها قد عاودت التصعيد بالاحتجاجات هذا الأسبوع، مثل باقي مدن الجنوب، فهي منذ مطلع أكتوبر ساخنة ولم تبرد، ومنها كانت تنطلق أبيات الشعر والهتافات ذات الطابع الوطني والعروبي أيضاً، الرافض للتبعية والانقياد للإيراني أو الأميركي.

وتُشكّل الناصرية معقلاً تاريخياً للاحتجاج في البلاد، وقبل ذلك في بلاد ما بين النهرين، فالمدينة الفقيرة ذات البنى التحتية المتهالكة، كانت أكثر من أي منطقة عراقية، منبعاً للثورات. ففي عام 1928، أنشأ فيها الحزب الشيوعي العراقي أحد أول فروعه في البلاد، وظلّ يناوئ العائلة الحاكمة آنذاك، وقت كان العراق مملكة هاشمية، من قلب ذي قار، فيما اشترك الكثير من أهالي المحافظة في حركات مناوئة لنظام صدام حسين، حتى سقوطه عام 2003. ولم تنتهِ سلسلة كفاح الناصرية من أجل الحفاظ على العراق، إذ التحق أبناؤها بدفعات كبيرة بقوات الأمن، وتطوعوا ضمن قوات "الحشد الشعبي"، لمنع تمدد تنظيم "داعش" إلى مناطق الفرات الأوسط والجنوب، بعد أن انهارت المنظومة الأمنية في عهد رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي عام 2014. وظلّت المدينة تُدافع عن عروبتها، عبر دفع عجلة استمرار الزخم الجماهيري الرافض للنفوذ الإيراني الذي تصاعد في عهد حكومة المستقيل عبد المهدي.

في السياق، قال الباحث، ناصر أحمد، وهو مُشارك في الاحتجاجات في الناصرية، إنّ "أهالي المدينة هم الأكثر عنفواناً في التعامل مع القضايا المصيرية، والأجدر بترحيل الفاسدين في الحكومة الحالية، ولولا العطاء والدماء التي سقطت في المدينة، لما كان عبد المهدي ليتنحى عن منصبه". وأوضح في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ "المتظاهرين في ساحات المدينة، ليسوا من الشباب فقط، إنما أيضاً من عوائل الشهداء الذين سقطوا بنيران المليشيات، وينتظرون التغيير الذي سعى إليه أبناؤهم. ومن هنا، يتبيّن أنّ الثورة في ذي قار باتت مطلباً جماهيرياً له ثمن عظيم".

وتابع أنّ "تاريخ الناصرية مثقل بالبطولات والثورات ضدّ الحكام الفاسدين، وتكاد لا توجد أي أسرة في ذي قار، لم تخسر واحداً من أفرادها في مواجهة الاحتلال الأميركي بعد عام 2003، ثم الحرب ضدّ داعش، وحالياً يسقط بمعدلٍ شبه يومي أحد الناشطين المطالبين بالتغيير وتدعيم الدولة المدنية وترحيل الأحزاب الدينية الموالية لإيران"، موضحاً أنّ "المتظاهرين وأصدقاء القتلى أقسموا في الساحات على عدم الانسحاب".

أمّا الناشط من قضاء الرفاعي في ذي قار، أكرم عبد الله الغزي، فقد لفت إلى أنّ "الثورة في مدن الناصرية والشطرة والرفاعي، لا تعني رفض الكتل السياسية والأحزاب التي تتحكم بالعراق منذ عام 2003 فقط، إنما هي ثورة وعي تقف في الجبهة المناوئة للحكم العشائري الذي يسيطر على المدينة، والكبت الاجتماعي والظواهر المتخلفة، والتديّن الزائف، ونبذ رجال الدين الطائفيين والمليشيات؛ أي أن وجود آلاف الشباب من المدينة في ساحة الاعتصام لا يعني أنّ مشكلتهم هي مع الحكومة فقط، إنما مع دوائر حاكمة أخرى، وأصنام نسعى إلى تحطيمها".

وأكد الغزي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ "ذي قار دائماً في مقدمة المحافظات العراقية بأعداد القتلى وفي كل الأزمات، سواء أكانت حروباً أم احتجاجات، إذ لا يزال شباب المحافظة يسقطون بنيران عصابات طائفية تعمل لصالح الخارج، وتقتلنا بمعدل شبه يومي في سبيل إسكاتنا".أمّا الناشط من قضاء الرفاعي في ذي قار، أكرم عبد الله الغزي، فقد لفت إلى أنّ "الثورة في مدن الناصرية والشطرة والرفاعي، لا تعني رفض الكتل السياسية والأحزاب التي تتحكم بالعراق منذ عام 2003 فقط، إنما هي ثورة وعي تقف في الجبهة المناوئة للحكم العشائري الذي يسيطر على المدينة، والكبت الاجتماعي والظواهر المتخلفة، والتديّن الزائف، ونبذ رجال الدين الطائفيين والمليشيات؛ أي أن وجود آلاف الشباب من المدينة في ساحة الاعتصام لا يعني أنّ مشكلتهم هي مع الحكومة فقط، إنما مع دوائر حاكمة أخرى، وأصنام نسعى إلى تحطيمها".

وأشار إلى أنّ "الشباب في ذي قار بلغوا مرحلة اليأس من الحياة، وهذا يتضح من خلال نسب الانتحار المرتفعة، في صفوف الرجال والنساء، وهو ما يدفع إلى أن تكون تظاهراتهم عنيفة وأكثر سخونة مما يحدث في بغداد وبابل وغيرها من مناطق العراق".

وكان مجلس النواب العراقي قد صوَّت في وقتٍ سابق على اعتبار محافظة ذي قار "منكوبة"، بعد ما شهدته من أحداث عنف، ومن ثمّ تحويل مطالب الأهالي إلى البرلمان من أجل دراستها. وفي هذا الشأن، أشار النائب عن كتلة "صادقون"، عبد الأمير تعيبان الدبي، إلى أنّ "المحافظة لم تأخذ حقها في كل الحكومات التي مرّت على العراق؛ فمنذ أن كان الأخير مملكة، كان الفقر يقتل أهلها، وحتى التحوّل إلى الجمهورية ومروراً بفترة حكم نظام صدام حسين، حين كانت حصة أهل الجنوب من الموت الأكبر، وصولاً إلى حكومات ما بعد سقوط صدام عام 2003، ظلّت الناصرية تمثل منارة عراقية تهدي للبلاد أولادها، وتنشرهم في الحروب. ومع ذلك، لا تتوفر فيها أي خدمات حياتية أو اهتمام حكومي، مع نسب بطالة عالية، وتراجع التعليم وقلة المدارس والمستشفيات، وسطوة الأحزاب، وكل هذه المشاكل وأكثر أدّت إلى تظاهرات عارمة راح ضحيتها عشرات القتلى".

وتابع الدبي في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "الحكومات المحلية التي توالت على إدارة المحافظة، لم تخدمها كما يجب أن يكون، واكتفت بترتيب مصالح أحزابها، لكن الحالة العراقية الحالية تستوجب الانتباه إلى مناطق الجنوب ورعايتها".

من جهته، رأى المسؤول المحلي في ذي قار، حسن الوائلي، لـ"العربي الجديد"، أنّ "التظاهرات الغاضبة في الناصرية، هي نتيجة طبيعية لفساد الأحزاب منذ 16 عاماً، والهوّة الكبيرة بين العقلية الحاكمة وعقلية الشباب في البلاد؛ إذ إن الأحزاب تنظر إلى العراق على أنه ساحة للتناحر الاقتصادي والمذهبي والطائفي، في حين يرى شبّان الألفية الثالثة أنهم بحاجة إلى حياة خالية من العنف، مليئة بالسلام وحكومة تؤمن بالوطن". 

المساهمون