تغييب تونس عن مؤتمر برلين: مخاوف الإقصاء والدور المقبل

تغييب تونس عن مؤتمر برلين: مخاوف الإقصاء والدور المقبل

21 يناير 2020
تتوافق مخرجات برلين مع موقف تونس (إيمانويل كونتيني/Getty)
+ الخط -
انعقد مؤتمر برلين الخاص بتسوية الملف الليبي في غياب تونس. غياب أزعج الأوساط السياسية التونسية التي اختلفت في تحديد أسبابه، وسط خشيتها من أن تكون هناك نيّة مقصودة لإقصاء دور بلادها، وإبعاده عن الشأن الليبي. وترى هذه الأوساط أن ليبيا اليوم، بعد برلين، تمرّ بمنعرج دقيق، يضعها أمام أحد الاحتمالين: إما بداية حلّ سياسي جدي قابلٍ للصمود، أو انهيار الأوضاع، وبالتالي فتح الباب أمام حربٍ طويلة، وتدويل كامل ومكشوف للنزاع، الذي سينقل بدوره ليبيا إلى مرحلة التقسيم الفعلي.

وتداركاً لـ"خطأ" التغييب، تلقى الرئيس التونسي قيس سعيّد في وقت متأخر من ليل الأحد - الاثنين، اتصالاً هاتفياً من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي دعا تونس إلى الانخراط في المبادرات المقبلة حول ليبيا. وينتظر كذلك أن تبادر ألمانيا إلى محاولة إرضاء الرئاسة التونسية، ولو متأخراً، في وقت يختلف فيه المتابعون حول أسباب الغياب أو "التغييب" التونسي.

وتُعتبر تونس طرفاً أساسياً لدى كل حديثٍ عن مستقبل ليبيا. فهي جارة هذا البلد اللصيقة به، إذ تربط بينهما حدود برية بطول 459 كيلومتراً. كذلك لا يجب إغفال أن تونس هي الرئة التي يتنفس منها الليبيون حالياً، ويلجأون إليها من دون أي عوائق، نظراً لكونها البلد الوحيد الذي لم يغلق حدوده مع بلادهم منذ اندلاع الثورة الليبية، وحتى خلال أصعب الظروف، خلافاً لمصر وغيرها من دول الجوار. وتُعتبر تونس أيضاً قاعدة أساسية تستفيد منها جميع الأطراف المتنازعة في ليبيا، سواء للاستقرار فيها عند الضرورة، أو لتنظيم اجتماعاتها، إضافة إلى كونها المقر الرسمي لمختلف السفراء والمسؤولين الأمميين وبقية المنظمات الدولية، والمعنيين بالشأن الليبي، والدولة التي استضافت العديد من المؤتمرات والاجتماعات الإقليمية الخاصة بهذا الملف. ولكل هذه الأسباب، فإن الأوساط السياسية التونسية، تفاجأت بهذا الإبعاد عن مؤتمر برلين.

البعد الداخلي
تتعرض الدبلوماسية التونسية، اليوم، لانتقادات داخلية شديدة، إذ يعتبر قسمٌ من المحللين، وأيضاً السياسيين، أنها تمرّ بمرحلة معقدة تجمع بين الارتباك والجمود، فيما يقدّر آخرون أن هذه الحالة تعود إلى تداعيات الفراغ المترتب عن تأخر تشكيل الحكومة الجديدة. وبصرف النظر عن الأسباب الموضوعية، إن إحجام رئيس الجمهورية قيس سعيّد عن القيام بأي مبادرة دبلوماسية من شأنها أن تعيد بلاده إلى المشهد الإقليمي والدولي، سمح لهذا الجدل بأن يدور بين أطراف محلية، مختلفة في مشاربها واتجاهاتها وأولوياتها وارتباطاتها.

يعلم الجميع أن رئيس الجمهورية التونسي لا يملك خبرةً دبلوماسية سابقة، ولا يزال منذ توليه المسؤولية بصدد ترتيب ملفاته والتعرف إلى مختلف التحديات التي تواجه البلاد. وعلى الرغم من أنه تلقى دعوات عديدة من رؤساء أجانب وملوك، إلا أن البلد الوحيد الذي زاره حتى اليوم هو سلطنة عمان، لتقديم واجب التعزية في وفاة السلطان قابوس.


يقارن تونسيون ومتابعون كذلك في دول أخرى، في هذا المجال، بين سعيّد والرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، الذي كان حريصاً على الرغم من تقدّمه في السن حين كان في سدة الرئاسة، على المشاركة في العديد من المؤتمرات الإقليمية والدولية، إلى جانب الدور الذي قام به لتحسين العلاقات مع العديد من الدول العربية وغير العربية. مع ذلك، يقترح الكثير من المتابعين عدم التسرع في الحكم على الرئيس. فسعيّد، برأيهم، ينتظر التنظيم النهائي للأوضاع المترتبة عن الانتخابات التشريعية، خصوصاً بعدما وجد نفسه ملزماً بأن يكون القرار الحاسم في اختيار رئيس الحكومة التونسية المقبل. وعلى الرغم من كون الدبلوماسية تندرج ضمن صلاحيات الرئيس التونسي، إلا أن الأخير مدعو إلى التشاور مع رأس السلطة التنفيذية المنتظر.

البعد الخارجي
إلى ذلك، يجب عدم إغفال البعد الخارجي لغياب تونس. فعلى الرغم مما تتميز به العلاقات الثنائية لهذا البلد مع ألمانيا، والتعاون الوثيق الذي يربطهما على مختلف الأصعدة، إلا أن ذلك لم يمنع المستشارة أنجيلا ميركل من استبعاد تونس عن المشاركة في المؤتمر الليبي الذي تستضيفه. وحين استدركت برلين الأمر، في اللحظة الأخيرة، وبعد تواتر الطلبات من قبل العديد من الدول لتدارك هذا الخطأ، ومن بينها تركيا وإيطاليا، اعتذرت تونس عن عدم الحضور، معتبرة أن الدعوة وصلت "متأخرة".

ويسود اعتقاد بأن اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر هو الذي طالب بعدم حضور تونس، اعتقاداً منه، ومن بقية الأطراف الداعمة له، أن هذا البلد حليف لتركيا وقطر. لكن حفتر لم يكن في موقعٍ يسمح له بإملاء شروطه على الدولة صاحبة الدعوة، ولو رغبت ميركل في توجيهها مبكراً، لفعلت ذلك من دون نقاش. كذلك ليس من مصلحة اللواء الليبي المتقاعد إثارة أي خلافٍ علني مع تونس بحجة مساندتها لفائز لسرّاج وحكومة الوفاق. من جهتها، تؤكد تونس أن لديها معطيات عديدة لتبرير موقفها، أهمها التمسك بالشرعية الدولية، على الرغم من أن رئيسها أوضح أخيراً أن هذه الشرعية ليست "دائمة".

من المنتظر أيضاً أن تلجأ ألمانيا إلى محاولة ترضية الرئاسة التونسية، من دون إغفال الموقف الإيجابي لإيطاليا، وأيضاً لمبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة، الذي يعتقد أنه لا يمكن التقدّم عملياً في أي تسوية سياسية للنزاع الليبي، إلا من خلال وضع تونس في الصورة، والالتقاء بأطراف النزاع على أرضها. فرنسياً، دعا الرئيس إيمانويل ماكرون أمس الاثنين، خلال اتصال هاتفي بنظيره التونسي قيس سعيّد، إلى ضرورة مشاركة تونس ورئيسها في المبادرات المقبلة بشأن فضّ النزاع الليبي وإنهاء الاقتتال هناك، مشدداً على أهمية مشاركة هذا البلد الجار لليبيا في الحوار والنقاشات حول الوضع في المنطقة. وفي السياق، قدم ماكرون لنظيره التونسي معطيات عن تطورات النقاشات التي دارت في برلين، معرباً عن تفهمه لعدم مشاركة تونس في هذا المؤتمر، وفق ما أعلن الإليزيه في بيان رسمي. وتبادل الرئيسان، الفرنسي والتونسي، دعوات الزيارة.

من جهته، ذكّر الرئيس التونسي بالمبادرة التي قادها خلال شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، والتي جمع خلالها ممثلي القبائل والمجتمع المدني الليبي من أجل التوصل إلى حل ليبي - ليبي. وأشار الرئيس التونسي إلى أن بلاده تعتبر الدولة الأكثر تضرراً من الأحداث الليبية، باعتبارها تتحمل جزءاً كبيراً من آثار هذه الحرب أمنياً، وعلى مستويات أخرى. وتعليقاً على الاتصال الفرنسي، رأى المحلل السياسي قاسم الغربي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه يعكس إدراك الجانب الأوروبي للخطأ الواقع في تغييب تونس، وصعوبة الاستغناء عن دور هذا البلد في حلّ الملف الليبي، لذلك لا يصبّ اتصال ماكرون ودعوته لسعيّد في خانة الإجراء البروتوكولي فقط، بل هو اعتراف بالدور التونسي وأهميته في حلّ الأزمة.

الدور المقبل
والبيان الذي صدر يوم السبت الماضي عن وزارة الخارجية التونسية، وتضمن اعتذار تونس عن عدم حضور لقاء برلين، أكد في الوقت ذاته جاهزية تونس لاتخاذ كل الإجراءات الحدودية الاستثنائية لتأمين حدودها أمام أي تصعيد محتمل للأزمة في ليبيا. وفي هذا السياق، استخلص متابعون للشأن المحلي والدولي، أن تأكيد الخارجية للتدابير الاستثنائية، خلافاً لموقفها السابق إبان انطلاق أعمال العنف في ليبيا، واستيعاب الدول الجارة للأزمة الإنسانية التي عصفت بالبلد عام 2011، رسالة مبطنة إلى الجانب الأوروبي الذي غيّب تونس في برلين. ويفيد التحذير المبطن بأن تونس قد تمتنع عن أن تكون منصة للاجئين والفارين من الحرب، فيما يجعل إغلاق حدودها هذه التدفقات تتجه نحو أوروبا.

في المحصلة، ضاعت فرصة أمام تونس تمكنها من البقاء رقماً صعباً في معالجة الملف الليبي، كذلك إن ما تضمّنه البيان الختامي لمؤتمر برلين لا يختلف عما عبّرت عنه الجهات الرسمية التونسية. ما المتوقع أن تقوم به تونس حالياً بعد انتهاء هذا المؤتمر؟ بحسب ترجيحات محلية، قد تتجه تونس إلى تعميق المشاورات مع الجزائر، التي اقترح رئيسها عبد المجيد تبون استضافة الأطراف الليبية لمساعدتها على التوصل إلى تسوية. وتعتبر تونس، منذ أيام السبسي، الجزائر شريكة في معالجة هذا الملف، ولا يستبعد أن تقوم أيضاً بالتشاور مع المغرب الذي أُبعد أيضاً عن مؤتمر برلين، على الرغم من الدور الذي لعبته المملكة في معالجة أزمة ليبيا، وأبرزه استضافتها لاجتماع الصخيرات والاتفاق الذي تمخض عنه نهاية عام 2015.




المساهمون