"النهضة" التونسية تحصي أضرار سقوط الجملي... وسعيّد يستلم المبادرة

"النهضة" التونسية تحصي أضرار سقوط الجملي... وسعيّد يستلم المبادرة

13 يناير 2020
فشل الجملي بالحصول على ثقة البرلمان (ناصر طلال/الأناضول)
+ الخط -
بعد فشل حكومة الحبيب الجملي في الحصول على 109 أصوات نيابية من أصل 217 لنيل الثقة البرلمانية، انبرت حركة "النهضة"، التي يعتبر الجملي مرشحها لتشكيل الحكومة، يومي السبت والأحد الماضيين، إلى تقييم أسباب هذا الفشل، الذي من المتوقع أن تكون له تداعيات كبيرة على المشهد السياسي في البلاد، وعلى الحركة نفسها، وعلاقاتها الداخلية وقراراتها وخياراتها، كما على مؤتمرها المقبل، الذي يُفترض أن يُعقد خلال العام الحالي. كما تتجه الأنظار إلى خيار سيفرض على الرئيس قيس سعيد، بالانخراط أكثر في مسألة اختيار رئيس للحكومة، والتحديات المرافقة.

النهضة: تقييم ذاتي
وبدأ "النهضويون"، بعد سقوط تشكيلة الجملي في البرلمان، بإحصاء الأضرار وتبعات السقوط، الذي تسببت فيه أخطاء سياسية متلاحقة، حرمتهم الإمساك بزمام المبادرة ووضعتهم ليلة التصويت، في صورة حزبٍ منعزل يتحّد الجميع ضده. ولم تحصل تشكيلة الحكومة المقترحة، إلا على أصوات "النهضويين" و"ائتلاف الكرامة" القريب منهم (72 صوتاً)، بينما ذهبت كل أصوات الطيف السياسي المتبقي، على تناقضاته، إلى معارضتها، في مشهد وحدةٍ نادر منذ سنوات.

وأثار هذا السقوط شهية أكبر أعداء "النهضة"، "الحزب الحر الدستوري"، الذي دعا إلى العمل على إبعاد الحركة من رئاسة البرلمان وتوقيع عريضة سحب ثقة من رئيسها راشد الغنوشي، فيما لم تبد بقية الكتل حماسة لمثل تلك الخطوة، أو لعلها ترجئها إلى مرحلة لاحقة. واعتبر رئيس كتلة "النهضة" في البرلمان، نور الدين البحيري، في تدوينة على صفحته الرسمية على موقع "فيسبوك"، أن "أقلية من ضحايا حساباتهم الحزبية وشهواتهم الشخصية وارتباطاتهم الخارجية، دفعوا أحزاباً لإسقاط مشروع حكومة سياسية، وأوقعوا أغلبية مجلس نواب الشعب في إسقاط حكومة الكفاءات المستقلة، ولعلهم يخططون لإسقاط حكومة الشخصية الأقدر".

لكن التقييم الأدق والشامل، جاء على لسان القيادي في الحركة، العربي القاسمي، الذي عدد سلسلة الأخطاء التي تسببت في هذه النتيجة. وقال القاسمي، في تدوينة على صفحته الشخصية، إن "النهضة أخطأت حين قبلت المساومة على حقها الدستوري في رئاسة الحكومة، وأخطأ الجملي، بل ارتكب خطيئة عمره السياسية، حين خرج عن روح ونصّ التكليف، وتمرّد على مكلِّفه وسوّاه بغيره، وشرع في تشكيل حكومة كفاءات مستقلّة، بدل حكومة سياسية منفتحة على الكفاءات. وأخطأت النهضة، بل ارتكبت الخطيئة الكبرى، حين قبلت بهذا الانقلاب وحاولت مماشاته ولم تسحب التكليف مباشرة مهما كان الثمن، وأخطأ الجملي حين استعصى على الجهة المكلّفة، ولم يتراجع عن خياره، بل ولم يقبل بأيّ تعديل تطلبه النهضة رغم شبهات الفساد... أخطأ أكثر ولم يكن سياسياً بالمرّة، حين وعد بالاستجابة للتعديلات بعد المصادقة إن ثبتت تهمة فساد، فضرب مصداقيته مع فريقه قبل غيره في مقتل". واتهم القاسمي أيضاً، رئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد، بـ"التآمر ولعب دور قذر والتنكر للنهضة التي كانت سنده الحقيقي الوحيد طيلة فترة حكمه"، معتبراً أن الأخير "سقط أخلاقياً وسياسياً، ووضع بنفسه فيتو النهضة عليه في أيّ خيار خارج خيارها".

ووجه القاسمي سهام نقده الى الأمين العام المستقيل لـ"النهضة"، زياد العذاري، بإعلانه عدم التصويت لحكومة الجملي، معتبراً كذلك أن الأخير سقط أخلاقياً وسياسياً بدوره، كما توجه إلى من وصفهم بـ"الثورجيين"، الذين قال إنهم "وضعوا كلّ جهدهم ومكرهم لسلب حقّ النهضة في رئاسة الحكومة والالتفاف عليه ومصادرته"، متهماً إياهم بـ"الجشع السياسي وبالحقد الأعمى على النهضة".


ويُحّمل "النهضويون" مسؤولية ما حدث، تارةً إلى مجلس شورى الحركة، الذي فرض خيار الجملي على الجميع، على الرغم من عدم كون الأخير الشخصية الأولى التي كانت على رأس القائمة، وتارةً إلى رئيس الحركة راشد الغنوشي، بسبب سوء إدارته للمفاوضات. من جهته، توجه الغنوشي صباح أول من أمس السبت إلى تركيا، حيث التقى رئيسها رجب طيب أردوغان، في زيارة أسالت فيضاً من التعليقات بسبب توقيتها.

وفي موقفها الرسمي، أعربت "النهضة"، في بيانٍ، عن "تقبلها بكل ديمقراطية قرار حجب الثقة عن حكومة الحبيب الجملي، باعتباره يدخل ضمن العملية الديمقراطية وضمن الآليات الدستورية المعتمدة في تكوين الحكومة بعد الانتخابات، وهو تمرين سياسي جديد يعزز المسار الديمقراطي، ويرفع من درجة المسؤولية الملقاة على عاتق كل الأطراف السياسية داخل المشهد البرلماني وخارجه، وستعكف مؤسسات الحركة على تقييم الأداء والخيارات والاستفادة من ذلك بما يرتقي بالعمل الحزبي بالبلاد". ودعت الحركة إلى حكومة وحدةٍ وطنية توافقية على أرضية اجتماعية، معربة عن "ثقتها في رئيس الجمهورية الذي سيكلف بموجب الدستور بإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة، واستعدادها للتفاعل الإيجابي مع كل شخصية وطنية تتوفر فيها شروط النجاح وتعكس تطلعات التونسيات والتونسيين، وتجمع حولها حزاماً سياسياً قوياً".

حصن قرطاج

وينصّ الفصل 89 من الدستور التونسي على أنه "في حال تجاوز أجل الشهرين دون تكوين الحكومة، أو في حال عدم الحصول على ثقة مجلس نواب الشعب، يقوم رئيس الجمهورية في أجل عشرة أيام بإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر". وفي حال سقوط هذا الخيار، وفشل الحكومة القادمة في نيل ثقة البرلمان، فسيجد التونسيون أنفسهم أمام سيناريو إعادة الانتخابات التشريعية.

هذا الواقع الجديد سيفرض على الرئيس قيس سعيّد أن يغادر حصنه في قرطاج، وهو الذي حاول جاهداً البقاء على مسافة مما يحدث حوله، كما كان يبتعد إلى المدن والقرى البعيدة داخل البلاد ليخاطب الناس وليس النخبة السياسية، وينتقد النظام الانتخابي ويدعو إلى تغيير الدستور، وينأى بنفسه عن الوحل الذي تتخبط فيه الأحزاب منذ سنوات وتتصارع على التموقع وتجاهر بحالة عداء أيديولوجي وسياسي لا يتوقف.

وتُطرح علامات استفهام كثيرة في هذا الصدد، حول هوية الشخصية الفكرية والسياسية التي قد يختارها الرئيس، ونموذج الحكومة التي يميل إليها. وكان سعيّد تعرض على مدى الشهرين الماضيين لضغوط كثيرة من الأحزاب، تمثلت بإطلاق تسمية "حكومة الرئيس" على الحكومة الجديدة التي سيختار رئيسها، بما يعني ضمنياً تحميله مسؤوليتها بالكامل، وهو خيار ستكون تداعيات نتائجه، بالفشل أو النجاح، مصيرية على رصيد سعيّد الشعبي وصورته لدى ناخبيه وعموم التونسيين.

ومع دخول سعيّد، بالتفويض الشعبي الكبير الذي حققه في الانتخابات، تبرز مسألة أخرى غاية في الأهمية، وتتمثل في تموقعه السياسي وتموقع أحزاب تساند فكره وتدفع إليها منذ البداية، وخصوصاً "حركة الشعب" و"التيار الديمقراطي"، ومن خلفهما حزب "تحيا تونس" ورئيسه يوسف الشاهد. وإذا ما صدق هذا الائتلاف، فإن سعيّد ستكون بين يديه أدوات مهمة لتحقيق أفكاره السياسية، بما يؤدي ضمنياً إلى توسيع صلاحياته، وتضييقها بالتالي على "النهضة" والغنوشي.  

غير أن مسقطي حكومة "النهضة"، انضم إليهم أيضاً حزب "قلب تونس" ورئيسه نبيل القروي. وداخل البرلمان، تابع التونسيون صورةً جماعية لعدد من الأحزاب يتقدمهم القروي، في ندوة صحافية، بعدما كان الجميع يتبرأ منه ويعتبر أنه ينبغي الابتعاد قدر الإمكان عن "قلب تونس"، متهمين رئيس الحزب بالفساد والمصلحية وغياب الهوية السياسية، وكائلين لـ"النهضة" كل النعوت بسبب تقاربها معه.

 

المساهمون