أزمة سد النهضة: أخطاء مصرية قاتلة

أزمة سد النهضة: أخطاء مصرية قاتلة

13 يناير 2020
ستؤثر الخلافات حكماً في حصة مصر المائية(خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -
يبدو موقف مصر في قضية سد النهضة أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، قبل ساعات من استضافة واشنطن اجتماعاً مرتقباً وحاسماً، اليوم الاثنين، بين وزراء الخارجية والمياه في كل من مصر وإثيوبيا والسودان، بحضور وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين ورئيس البنك الدولي ديفيد مالباس، وذلك بعدما انقلبت أديس أبابا على كل التطورات التي اعتبرت إيجابية، وجرى التوصل إليها في الاجتماعات الفنية الثلاثة التي عُقدت في الشهرين الماضيين، لتعود المفاوضات إلى المربع الأول مرة أخرى. وجاء ذلك على الرغم من أنه سبق لإثيوبيا الموافقة على المقترح المصري المعدل بشأن آلية ملء السد في اجتماع واشنطن السابق الذي عقد مطلع ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وتدفع مصر ثمن سلسلة من الأخطاء السياسية، قبل الفنية، التي تعترف بها المصادر الدبلوماسية والحكومية بالقاهرة، أولها بطبيعة الحال توقيع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على اتفاق المبادئ في مارس/ آذار 2015، الذي اعترف أولاً بحقّ إثيوبيا في بناء السدّ، تحت لافتة "الحق في التنمية"، خلال خطابه الشهير أمام البرلمان الإثيوبي عقب توقيع اتفاق المبادئ، وهو الأمر الذي لم تكن مصر قد بادرت به من قبل. 
كذلك فإن السيسي أقرّ ثانياً بحق إثيوبيا السيادي في إدارة السد، ولم يطرح أي جزاء قانوني دولي عليها في حال مخالفة الاتفاقات السابق توقيعها في إطار الإدارة المشتركة لمياه النيل، وبصفة خاصة عامي 1902 و1993.

وعلى الرغم من إبداء لجنة الخبراء الدولية وتقريري المكتبين الاستشاريين اللذين استُعين بهما في المفاوضات السابقة، الخشية من الآثار السلبية الاجتماعية والاقتصادية التي ستلحق بمصر جراء المشروع، إلا أنّ اتفاق المبادئ، الذي أصرّ السيسي على توقيعه ويعتبره من إنجازاته، يوفر حماية للتصرفات الإثيوبية الحالية. فالمبدأ الخامس من الاتفاق، الذي يتحدث عن التعاون في الملء الأول وإدارة السد، يكتفي بالنص على التشارك في وضع "الخطوط الإرشادية والقواعد" من دون تفاصيل التشغيل. ويجيز لإثيوبيا إعادة ضبط سياسة التشغيل من وقت لآخر، بشرط "إخطار"، وليس أخذ رأي مصر والسودان أو استئذانهما.

كذلك إن المبدأ العاشر، الذي يفتح باب الوساطة الدولية الملزمة، يتطلب أيضاً "اتفاق الدول الثلاث على ذلك"، وهو ما لا يتوافر رسمياً في الوضع الحالي. فالسودان، الذي يبدو من الناحيتين الفنية والاقتصادية مستفيداً من بناء السدّ، يجدد ثقته بإمكانية التغلب على الخلافات باستمرار المفاوضات.

أما إثيوبيا، فهي ترفض اللجوء مرة أخرى إلى الرقابة أو الوساطة السياسية، بحجة أن القضية فنية فقط، ليظهر التناقض بينهما وبين الموقف المصري الأخير الذي يخشى استمرار إهدار الوقت من دون اتفاق.

وتزيد قيمة الوقت حالياً، وقياساً في الفترة السابقة، في ظل إعلان وزير الري الإثيوبي سيليشي بيكيلي أن بلاده ستبدأ حجز المياه في بحيرة التخزين الرئيسية لسد النهضة في يوليو/ تموز المقبل. مع العلم أنه سبق أن أفاد مصدر إثيوبي تابع لـ"جبهة تحرير تيغراي"، أحد مكونات التحالف الحاكم، في حديث مع "العربي الجديد" منذ أكثر من أسبوع، بأن مسؤولين حكوميين في وزارة الطاقة ومشروع سد النهضة أبلغوا قيادات الجبهة بأن توليد الطاقة الكهربائية من السد، سيبدأ بصورة جزئية في يوليو أو أغسطس/ آب 2021. وتجدر الإشارة إلى أنه في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وقبل انطلاق الاجتماعات الفنية الحاسمة برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي، أفاد نائب مدير مشروع السد بيلاتشو كاسا، لوكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية، بأن عملية الإنشاء تتقدم من دون أي تباطؤ "كما كان من قبل"، وأنه جرى بالفعل الانتهاء من لوح الوجه الخاص بسد السرج، وهو سد الخرسانة للوجه الصخري، الموجود على يسار السد الرئيسي. وللحفاظ على سلامة تدفق المياه، أُنجز العمل في جانب المجرى ليصبح السد قادراً على توفير الطاقة المطلوبة حتى 100 عام، وسيضم السد ثلاثة مجارٍ للمياه، بما في ذلك مجرى مائي في وسط السد الرئيسي، وممر للفتحات (قناطر) يمكن أن يسمح بأكثر من 14 مليون متر مكعب من المياه، وممر للطوارئ في الجانب الأيسر من سد السرج.


وبعيداً عن المرونة المؤقتة التي أظهرها الجانب الإثيوبي في ثلاثة اجتماعات فنية قبل اجتماع أديس أبابا الأخير قبل أيام، اتسم موقف أديس أبابا بالثبات المستمر إزاء جميع محاولات الوساطة التي جرت، للوصول إلى مساحة اتفاق بشأن خطة الملء الأول للخزان وتشغيل السد في السنوات السبع الأولى لدخوله الخدمة. وبحسب المصادر المصرية، استطاعت إثيوبيا على مدار شهور "التشويش" على الرواية المصرية، لحجم الخسائر الحيوية والاقتصادية المباشرة التي ستترتب عن إنشاء السد، ثم تشغيله بالصيغة التي اقترحتها في اجتماعات العام الماضي، والتي تحدد المرحلة الأولى من المراحل الخمس لملء السد بأن تستغرق عامين. وفي نهاية المطاف سيُملأ خزان السد في إثيوبيا إلى 595 متراً، وستصبح جميع توربينات الطاقة الكهرومائية في السدّ جاهزة للعمل، ما سيؤدي إلى تناقص منسوب المياه في بحيرة ناصر جنوب السدّ العالي بشكل كبير، خصوصاً إذا انخفض منسوب الفيضان في العامين المقبلين، ليقلّ عن مستوى 170 متراً، ما يعني خسارة 12 ألف فدان من الأراضي القابلة للزراعة في الدلتا والصعيد كمرحلة أولى، من إجمالي 200 ألف فدان تتوقع وزارة الموارد المائية والري المصرية خروجها نتيجة المدة الإجمالية للملء.

ويستند هذا "التشويش الإثيوبي" إلى أن الحفاظ على منسوب المياه في بحيرة ناصر عند 165 أو 170 متراً قد يؤدي إلى حرمان أديس أبابا إمكانية الملء لأشهر عديدة متتابعة، نظراً لتدني مستوى الفيضان في بعض الأحيان إلى أقل من 30 مليار متر مكعب، وبالتالي فإنها تعتقد أن المحددات لا يمكن أن تقاس بأي مؤشر في دولة المصب.

ويردّ الإثيوبيون على المقترح المصري السابق الخاص بالملء الأول في 7 سنوات والمقترح الجديد بالملء والوقف حسب هيدرولوجيا (علم المياه) فيضان النيل الأزرق، بأن ذلك قد يؤدي إلى إفشال المشروع بالكامل، ويقدمون إلى الجهات الدولية والعواصم الوسيطة بيانات إحصائية تؤيد هذه المخاوف. وينعكس هذا الوضع بالضرورة على المستثمرين والشركات الكبرى الأوروبية والعربية التي ترغب في استغلال ما سيحققه السد من نجاحات محلية في توليد الطاقة الكهربائية وتوفير مزارع سمكية وترشيد للمياه بإعادة استخدامها في الري المنتظم لمساحات أوسع من الأراضي غير المستغلة. وهي جميعها تمثّل فرصاً للاستثمار السهل والمضمون، في دولة تشهد تحولات اقتصادية عميقة إلى الأفضل وتدل كل مؤشراتها الاقتصادية على أنها تسير بثبات نحو طريق النهضة.

واستكمالاً لسلسلة الأخطاء، فإن مصر تحركت بصورة متأخرة على الصعيدين الدبلوماسي والإعلامي. فالاجتماعات التي عقدها مسؤولون مصريون مع سفراء الدول التي تشارك شركاتها في مشروعات السد بدأت فقط في الخريف الماضي، ولم تحقق أي نجاح بسبب إصرار فرنسا والصين وألمانيا وإيطاليا على أنها لا تستطيع التحكم في توجهات مستثمريها، على الرغم من أن الواقع يؤكد ضرورة حصول المستثمرين على ضوء أخضر ودعم حكومي للاستثمار، وفق خطط المساعدة التنموية الأوروبية والصينية لشرق ووسط أفريقيا. ولم تصدر الخارجية المصرية بياناً واحداً يهاجم الإثيوبيين بضراوة طوال الفترة الماضية، إلا يوم الجمعة الماضي، عندما أصدرت بياناً اتهمت فيه أديس أبابا بنشر المغالطات وتشويه الحقائق والسعي إلى التحكم المنفرد في النيل الأزرق.

وسبق أن كشفت مصادر لـ"العربي الجديد"، قبل صدور بيان الخارجية المصرية، أن الطريقة التي تحدث بها وزير الريّ الإثيوبي في الاجتماع الأخير الذي عقد في أديس أبابا، بدت وكأنها "إعلان حرب مياه على مصر". وانتقد الوزير المقترح المصري الذي يبني كل القياسات على أساس فيضان النيل الأزرق، لنفس السبب الذي تتمسك به مصر، وهو أنه سيفتح الباب لاستفادة مصر من بواقي الفيضان، وذلك بعد استفادة إثيوبيا من المياه المطلوبة لملء الخزان الرئيسي للسد، مع الابتعاد تماماً عن فكرة "المدة القطعية لزمن الملء الأول للخزان"، ما يعني أن بيكيلي لا يرغب في تحقيق مصر أي استفادة سواء في فترات الرخاء أو الجفاف.

وبينما صعد نجم رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد الفائز بجائزة نوبل للسلام العام الماضي، واتسع مجال تأثيره السياسي والاستراتيجي في المنطقة على حساب مصر، اكتفى السيسي في الإطلالات الأخيرة حول قضية سد النهضة، بتأكيده استبعاد الخيار العسكري، الذي كان التلويح به سابقاً في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك والرئيس المعزول الراحل محمد مرسي، مصدر إزعاج وقلق دائم للإثيوبيين. ولعل المشهد الذي كان الأكثر تعبيراً عن اتساع الفجوة بين أفكار السيسي والواقع الصعب، مشهد طلبه من أبي أحمد خلال زيارته لمصر في يونيو/حزيران 2018 أن يقسم اليمين خلفه على أن إثيوبيا لن تضر بمصالح مصر المائية، وردد أحمد خلفه القسم باللغة العربية. مشهد يعكس بوضوح بؤس الدبلوماسية المصرية في مشهد كاريكاتيري أثار ولا يزال سخرية واسعة النطاق.

وكان السيسي قد ذكر مطلع عام 2018 أنه "لم تكن هناك أزمة من الأساس حول سدّ النهضة"، بعد اجتماع في أديس أبابا مع نظيره السوداني عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايله ميريام ديسالين، على هامش حضورهم قمة الاتحاد الأفريقي. وخالف السيسي بذلك كل التصريحات الرسمية المصرية، التي أبدى فيها المسؤولون قلقهم وغضبهم من تردي المفاوضات، وميل الخرطوم إلى مواقف أديس أبابا، وعدم مراعاتهما المخاوف المصرية من تفاقم الفقر المائي، ثم اعترف السيسي خلال المؤتمر الثامن للشباب الذي عُقد في سبتمبر/ أيلول الماضي بصعوبة الموقف، ملقياً باللائمة على ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 بأنها أعطت إثيوبيا فرصة الإسراع في إنشاء السد.