الحراك الشعبي في الجزائر: الموجة الثانية

الحراك الشعبي في الجزائر: الموجة الثانية

07 سبتمبر 2019
لم يغادر الجزائريون الشارع منذ 6 أشهر (العربي الجديد)
+ الخط -
شكلت تظاهرات الجمعات الأخيرة من الحراك الشعبي في الجزائر، بدءاً من الجمعة الـ26، منتصف أغسطس/ آب الماضي وحتى تظاهرات يوم أمس الجمعة،، ملامح موجة ثانية للحراك الشعبي استعاد فيها النفس الاحتجاجي مجدداً، بعدما نجح في تجاوز ضغوط السلطة وعامل الوقت الذي راهنت عليه لإنهاكه، وأعاد تنظيم نفسه وتجاوز خلافات وتباين في تصور المسارات والموقف من الجيش والحوار والانتخابات.

وغصّ شارع ديدوش مراد وساحة اودان والساحة القريبة من البريد المركزي بالمتظاهرين أمس الجمعة، الذين رفعوا شعارات مناوئة لتدخّل قائد الجيش الفريق أحمد قايد صالح في الشأن السياسي، وإصراره على تنظيم الانتخابات في منتصف ديسمبر/ كانون الأول المقبل. وردد المتظاهرات شعارات للرد على خطابات قائد الجيش، منها "دولة مدنية لا عسكرية" و"لا لتدخّل الجيش في الشؤون السياسية". كما رفع المتظاهرون صور شخصيات معتقلة مطالبين بالإفراج عنها، كالمناضل الثوري لخضر بورقعة والمرشح الرئاسي السابق علي غديري.

وخلال الجمعات الأخيرة، بدأ الناشط الطالبي السابق عبد السلام باشاغا يلحظ عودة وتوافد المتظاهرين إلى الشارع، خصوصاً في العاصمة ومدينته سكيكدة الواقعة شرقي الجزائر. يعتقد باشاغا، الذي كان يقود أكبر تنظيم طالبي في الجامعة الجزائرية قبل سنوات، أن عودة النفس إلى الحراك الشعبي في العاصمة الجزائرية خصوصاً، يبعث الكثير من الأمل في تمسك الجزائريين بالحق ومطلب التغيير السياسي، وبإمكانية إعادة ترميم الشقوق التي حدثت في وقت سابق في الحراك الشعبي، معتبراً أن تظاهرات الحراك الأخيرة تكشف أن الأخير يتجه نحو موجة ثانية للتمسك بالمطالب المركزية للجزائريين.

ومنذ 22 فبراير/ شباط الماضي، وعلى امتداد أكثر من ستة أشهر، لم يغادر الجزائريون الشارع، للمطالبة بتغيير النظام السياسي ورحيل رموز نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ورفع الجيش يده عن السلطة. لكن الفترة الممتدة بين يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز الماضيين، شهدت تقلصاً في أعداد المتظاهرين، سواء في العاصمة أو باقي المدن الجزائرية، تمكّنت خلالها السلطة والجيش من استعادة زمام المبادرة السياسية، وطرح صيغة للحوار عبر هيئة وساطة يقودها رئيس البرلمان السابق كريم يونس وعضوية شخصيات مستقلة.

لكن الطريقة التي شُكّلت بها الهيئة، والشخصيات التي انخرطت فيها، والتي كان أغلبها مستفيداً من نظام بوتفليقة، مالياً وسياسياً، وإنتاج الهيئة لظروف فتحت لأحزاب بوتفليقة، التي كانت تدعم ترشحه لولاية رئاسية خامسة، مثل "جبهة التحرير الوطني" و"التجمع الوطني الديمقراطي"، منافذ للخروج من الحجر السياسي والعودة إلى المشهد والمطالبة بأن يكونوا شركاء في الحوار. وبالإضافة إلى هذه المعطيات، التي استشعر الجزائريون من خلالها بروزاً واضحاً لإمكانية منح السلطة والجيش فرصة لإعادة إنتاج النظام السابق، فإن هيمنة الجيش على المشهد، وسلسلة الاعتقالات التي مست ناشطين والإغلاق الشامل للإعلام في وجه المعارضة والتضييق اللافت على أنشطتها وعلى الحريات، دفعت الكثير من الناشطين إلى إطلاق صافرات التحذير من ضياع الحراك الشعبي، وإعادة استدعاء الحشود الشعبية إلى الشارع مجدداً، خصوصاً بعد نهاية فترة العطلة الصيفية.

ويؤكد الناشط عبد الوكيل بلام، وهو أحد أبرز وجوه الحراك الشعبي، أن الجزائريين استشعروا أن "حالة الاسترخاء التي مر بها الحراك الشعبي في الفترة السابقة، شجعت السلطة على المبادرة بفرض تصورات ومسارات سياسية محددة لحل الأزمة، عبر هيئة حوار ليست في الحقيقة سوى مجرد قناة لتمرير مشروع قانون انتخابي وقانون لهيئة مستقلة لتنظيم الانتخابات أعد سلفاً، ومن دون أي استشارة جدية للشركاء السياسيين". ويقول بلام، لـ"العربي الجديد"، إن "هذه الظروف دفعت الجزائريين للعودة بقوة إلى الشارع لحماية، على الأقل، المكاسب الرمزية التي تحققت لهم في الحراك، وعلى رأسها تحرير الشارع والمبادرة السياسية. ولذلك نلاحظ أن تظاهرات الجمعات الأخيرة أكدت أننا بصدد موجة ثانية للحراك الشعبي".



ويعتقد مراقبون وناشطون أن الدخول إلى المدارس، هذا الأسبوع، مثّل أيضاً استحقاقاً شعبياً كبيراً، إذ سيصبح في إمكان النقابات المهنية، الملتزمة بمطالب الحراك الشعبي، التحول نحو استخدام المجال الاجتماعي والمهني للضغط على السلطة، ما سيعطي زخماً أكبر للموجة الثانية من الحراك الشعبي، خصوصاً بعدما أفرغت السلطة ما في جعبتها من الضغوط والأدوات لإنهاء الحراك ومحاولة استرضاء الجزائريين بحلول يصفها الأستاذ الجامعي والناشط في "تيار الحراك الأصيل" والشبكة الوطنية لفعاليات الحراك يحيى جعفري بـ"الوهمية". ويؤكد جعفري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "انطلاقاً من كون الأزمة حقيقية، فإنه لا يمكن معالجتها بحلول وهمية، وشعبنا مصمم، أكثر من أي وقت مضى، على استعادة السيطرة على قراره السياسي". ويضيف "طالما أن بعض المطالب ما زالت عالقة، ومنها حق هذا الشعب في اختيار من يحكمه بطريقة حرة ونزيهة، فمن المتوقع أن يستمر الحراك، بل سيتعاظم مع الدخول الاجتماعي، لأن ثمة إحساساً بأن هذا الحق مهدد، في ظل توجّه سلطوي يجعل من المسار القضائي لسجن الفاسدين أولويته الأولى، على الرغم من أن ذلك لا يجب أن يتم بمعزل عن الإسراع في تسليم السلطة للشعب، في ظروف تمكن حقيقة الشعب من الاختيار الحر".

ومع أن عودة الديناميكية الشعبية إلى الشارع، أنهت دعاية سياسية تبنّتها السلطة تقول إن "الحراك الشعبي انتهى"، فإنها ستخلط كثيراً حسابات السلطة، التي كانت تعتقد أن إنجازها لهيئة الوساطة وبدء مسار الحوار يعني أنها قطعت المسافة نفسها باتجاه حل الأزمة على طريقتها. ويرى الكاتب والباحث في الشؤون السياسية عبد العالي زوغي أن "الأعداد التي شاهدناها، مؤشر على أن أسباب عودة الحراك الشعبي إلى زخمه وعنفوانه الأول، تبدو حاضرة بقوة خلال المرحلة الحالية، حتى يمكننا التنبؤ بصعود موجة ثانية، تعيد المظاهر الاحتجاجية التي صنعها الجزائريون في الساحات والشوارع، والتي أدت إلى خلخلة أركان النظام البوتفليقي وإسقاط رموزه". ويضيف زوغي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "أسباب انخفاض أعداد المتظاهرين في جمعات يونيو ويوليو الماضيين انتفت، وهي نفسها الأسباب التي عوّلت عليها السلطة الحاكمة منذ البداية، كشهر رمضان وفصل الصيف والعطلة السنوية للعمال والطلبة ومختلف الفئات الاجتماعية والنقابية"، متابعاً "لكن هناك أسباباً رئيسية تدفع باتجاه عودة قوية للحراك، ومن أهمها عدم تحقق كل المطالب التي خرج من أجلها الجزائريون، وإحساسهم بعدم وجود تغييرات عميقة في الآليات التي يشتغل بها النظام، على الرغم من الزج بعدد مُعتبر من رموزه في السجن. إلا أن ذلك لم يبعث على الارتياح، خصوصاً مع الرفض غير المبرر للسلطة الفعلية، لإطلاق حزمة من الإجراءات الباعثة على الثقة والتهدئة، والتي طالب بها الشارع والفواعل السياسية والمدنية، ورفض إقالة الحكومة الحالية، والسماح بتشكيل حكومة كفاءات جديدة، وإحداث القطيعة مع نظام التزوير وإغلاق الفضاء الإعلامي، والتضييق على المتظاهرين وإغلاق العاصمة أمامهم كل يوم جمعة"، مضيفاً أن استمرار هذه المعطيات ساهم في خلق نوع من عدم اليقين في نية السلطة وجديتها في إحداث التغيير المرغوب.

لكن الموجة الثانية للحراك الشعبي في الجزائر، وبقدر ما تؤشر على تمسك الجزائريين بفرصة تاريخية لإنجاز التغيير السياسي، فإن تداخل الحراك بمطالبه السياسية مع الوضع الاجتماعي في قطاعات الصحة والتشغيل والسكن والمياه والطرقات، والتي بدأت تدخل على خط المشهد العام، يطلق تحذيرات ومخاوف من إمكانية تعقد الأوضاع والأزمة إلى حد يصبح من الصعوبة بمكان تفكيكها. وفي السياق، يلفت الناشط في "الحراك الأصيل" يحيى جعفري إلى أن "هذا التداخل يمكن أن يشكل مكمن الخطر، لأن الثورات التي يتحالف فيها الوضع السياسي المتأزم مع الوضع الاجتماعي الصعب، يمكن أن تتحول إلى إعصار مدمر، تغيب فيه الحكمة بشكل كبير. والوقت للأسف ليس في صالح الوطنيين المخلصين، وكل يوم يضيع يكون فرصة تفلت من رصيد الحل"، مشيراً إلى أن "هذا الوضع يستدعي حالة استباقية من تفاهمات وتنازلات متبادلة لتمرير الأخطار، وتلافي تداعيات خطرة، خصوصاً في ظل مناخ سياسي متقلب تعيشه منطقتنا، وسط تهديدات داخلية وخارجية تزداد خطورة مع الوقت".