استهداف أرامكو: كيف أضعفت رهانات وسياسات خاطئة السعودية؟

استهداف أرامكو: كيف أضعفت رهانات وسياسات خاطئة السعودية؟

20 سبتمبر 2019
لم تستطع منظومة الأسلحة السعودية حماية المصافي (فرانس برس)
+ الخط -


مثّلت الهجمات الجوية التي تعرضت لها المنشآت النفطية السعودية في بقيق وخريص، التابعة لشركة أرامكو، شرقي المملكة، يوم السبت الماضي، والتي تسبّبت بخسائر اقتصادية كبيرة، شاهداً إضافياً على مدى تأثر الداخل السعودي بالسياسات الخارجية للمملكة خلال السنوات الأخيرة، بقدر ما أظهرت ضعف القدرات العسكرية السعودية، التي كان ولي العهد محمد بن سلمان يتحدث عنها خلال مقابلاته الصحافية، للتدليل على مناعة بلاده واستعدادها لأي طارئ عسكري بسبب السياسات الإيرانية في المنطقة.

وأثارت هذه الهجمات العديد من الأسئلة حول صفقات التسليح الضخمة التي كانت المملكة تعقدها خلال سنوات طويلة، ولم تستطع حماية مصافيها النفطية، فضلاً عن حسم حرب اليمن الطاحنة التي يخوضها الجيش السعودي بلا جدوى منذ سنوات؟

وجاء موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي أوضح فيه أن الولايات المتحدة لن تتورط في حرب عسكرية مع إيران دفاعاً عن السعودية، لكنه سيساعد السعوديين، شرط أن "يدفعوا المال"، بحسب تصريحه، فضلاً عن عدم حماسة دوائر صنع القرار، بما في ذلك الكونغرس لخوض حرب مباشرة، على الرغم من الإجماع الأميركي على إدانة الهجمات وفرض الإدارة عقوبات إضافية على إيران، لتظهر عدم دقة حسابات القيادة السعودية، التي كانت تظن أن ظروف السياسة العالمية ستكون مشابهة لظروف العام 1991 عندما تدخّلت الولايات المتحدة بحزم لدحر القوات العراقية التي قامت بغزو الكويت واحتلالها في 1990، وشنّ هجمات صاروخية عنيفة على السعودية استهدفت المنشآت النفطية والمدن الرئيسية آنذاك.

وتبدو الرياض اليوم في وضع صعب في المنطقة، دبلوماسياً وعسكرياً، مع فشل الحرب على اليمن، ونجاح طهران بتثبيت أقدامها في سورية، والوجود القوي للأحزاب والمليشيات المؤيدة لها في العراق ولبنان، والقصف الجوي المستمر للمصالح السعودية وآخرها النفطية. وساهمت تصرفات بن سلمان في ذلك، لا سيما بعدما عرّض منظومة مجلس التعاون الخليجي بأكملها للخطر، وأتاح لإيران مزيداً من التمدد العسكري والسياسي، حتى على حدود المملكة. وتدرك الرياض أن دول المنطقة، بما في ذلك الأقرب إليها، لن تنجر معها في أي مواجهة مباشرة مع طهران، خصوصاً أن أبوظبي، الحليف الأبرز للمملكة، عمدت قبل فترة إلى إعادة قنوات التواصل المباشر مع الإيرانيين، بداية بذريعة بحث "أمور الحدود البحرية المشتركة بين البلدين"، وانتهاء بتفاهمات تُرجمت بإعلان الحوثيين عن تجميد استهداف الإمارات، ما جنّبها التعرض للهجمات الصاروخية التي استهدفت السعودية. قبل أن يعيد المتحدث العسكري باسم جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) يحيى سريع، الأربعاء الماضي، تهديد الإمارات بأن لدى الحوثيين عشرات الأهداف، ضمن بنك أهداف في الإمارات، في ما بدا أنه تحذير لأبوظبي من محاولة خرق التفاهمات.


أما البحرين، فلا تشكّل أي ثقل في ميزان القوى في حال احتدام مواجهة مباشرة مع إيران، بل على العكس يبدو النظام البحريني بحاجة دائمة للجيش السعودي لحماية نفسه من شعبه الغاضب، منذ احتجاجات فبراير/ شباط 2011، والتي لم تتوقف إلا بعد دخول القوات السعودية للبلاد. كما تدرك الرياض أن الدول الخليجية الأخرى غير متحمسة لأي توتر في المنطقة، وإن كانت دانت بشكل واضح الهجمات التي استهدفت المنشآت النفطية التابعة لأرامكو، وعبرت عن رفضها لزعزعة استقرار المنطقة. وسبق أن اختارت سلطنة عمان، التي نددت بالهجمات واعتبرتها تصعيداً لا طائل منه، سياسة النأي بالنفس منذ أمد طويل. من جهتها، فإن الكويت، التي أعلنت وزارة الدفاع فيها رفع حالة الدرجة القتالية والاستعداد إلى القصوى، وأكد نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية، وزير الدفاع بالإنابة، الشيخ صباح الخالد الصباح، أن بلاده ستقف إلى جانب السعودية "ضد أي شيء يمكن أن يؤثر على أمنها واستقرارها وسلامة شعبها"، تنظر بقلق لأي أحداث من شأنها زعزعة الاستقرار في المنطقة، خصوصاً أنها مجاورة للعراق برياً وإيران بحرياً. كما أن قطر، التي افتعلت السعودية إلى جانب الإمارات والبحرين ومصر أزمة ضدها، تخللها حصار بري وبحري وجوي في محاولة لإملاء سياسات داخلية وخارجية عليها تمس استقلالية قراراتها، تتمسك بضرورة تهدئة التوتر. ودان نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، الهجمات على المرافق الحيوية والمدنية، وآخرها بقيق، مشيراً إلى أنه يجب أن تتوقف هذه الحروب والصراعات وأن تتكاتف الجهود لتحقيق الأمن الجماعي المشترك في المنطقة.

على الصعيد الدولي، تُظهر المواقف الصادرة من أبرز العواصم أن الرد المنسق على الهجمات لن يتجاوز الشق السياسي والعقوبات، بعدما رفضت سابقاً التورط في مواجهة مباشرة مع إيران. حتى أن معظمها تحفّظ عن الانخراط في التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة لحماية أمن الخليج بعد حرب الناقلات النفطية التي استعرت، فضلاً عن أنها غير مستعدة لخوض حرب بالنيابة عن المملكة التي تلاحقها الانتقادات الحقوقية في أوروبا بفعل ما تقوم به في اليمن وانتهاكاتها لحقوق الإنسان.

وتعود جذور أخطاء القيادة السعودية في السياسة الخارجية إلى العام 2011. فحين تفجرت موجة ثورات الربيع العربي، شاركت السعودية في قمع احتجاجات البحرين، ودعمت الانقلاب الدموي الذي قام به الجيش المصري، بقيادة عبد الفتاح السيسي، على الرئيس المنتخب محمد مرسي. واستهلك دعم هذا الانقلاب الكثير من الرصيد الشعبي للسعودية في أوساط العالمين الإسلامي والعربي، وسبّب ضرراً كبيراً لصورتها. وعلى الرغم من الدعم المالي والسياسي الكبير الذي قدّمته السعودية للسيسي، فإنه لم يقم بأي فعل مساند للرياض خلال مواجهتها المفتوحة مع طهران. كما أنه نأى بنفسه عن الحرب التي تخوضها السعودية في اليمن، والتي باتت أشبه بمستنقع تغرق فيه، بعدما أخطأت في حساباتها، عقب الثورة اليمنية التي ساهمت في احتوائها عبر المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية.

واستفاقت السعودية، التي كانت تغض الطرف عن تمدد الحوثيين بذريعة مواجهة نفوذ حزب "الإصلاح" (المحسوب على جماعة "الإخوان المسلمين")، على وقع سيطرة "أنصار الله" (الحوثيين) أواخر 2014 على العاصمة صنعاء، بمعاونة من الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح. وتحوّل اليمن، الذي كان يعد الحديقة الخلفية للسعودية، إلى مجال نفوذ إيراني. وبعد صعود العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى سدة الحكم، في يناير/ كانون الثاني 2015، وتعيين ابنه محمد بن سلمان وزيراً للدفاع، قرر الأخير شنّ الحرب على اليمن، بذريعة إعادة الشرعية، لكنه فشل في هذه المهمة، بل إن التحالف السعودي الإماراتي تحوّل إلى أحد أسباب تقويض سلطة الشرعية اليمنية، لا سيما بفعل ممارسات أبوظبي وآخرها دعم الانقلاب في الجنوب. وتحوّلت الحرب، التي تخوضها السعودية، من هجومية إلى دفاعية، تُركز فيها القوات السعودية على حماية حدودها من الهجمات، الجوية والبرية، التي يشنها الحوثيون.

وفي خضم الغرق السعودي في حرب اليمن، فوجئت المملكة بتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، في يوليو/ تموز 2015، ما أدى إلى ارتباك كبير في تعامل الرياض مع ملفات المنطقة، وإلى تصعيد الخطاب السياسي بين البلدين بعد إعدام السعودية لرجل الدين الشيعي المعارض نمر النمر، في يناير/ كانون الثاني 2016، واقتحام محتجين إيرانيين للسفارة السعودية في طهران بعدها بأيام قليلة، وتهديد السعودية بـ"نقل المعركة إلى داخل إيران". وسرعان ما توالت الأزمات، بعد الأزمة المفتعلة مع قطر، في يونيو/ حزيران 2018، واحتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، ومن ثم افتعال مشاكل حدودية قديمة مع الكويت، وأزمات دبلوماسية مع العراق وكندا وألمانيا وتركيا. وتفاقم كل ذلك بعد حملة القمع التي طاولت الناشطين والمعارضين السعوديين، وبلغت ذروتها باغتيال الصحافي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2018، ما جعل السعودية في وضع انعزالي كبير في المنطقة.