نهاية وشيكة لتحالف اليمين المتطرف والشعبويين: إيطاليا نحو الانتخابات

نهاية وشيكة لتحالف اليمين المتطرف والشعبويين: إيطاليا نحو الانتخابات

10 اغسطس 2019
عرف التحالف بين الرجلين خلافات عديدة (ألبرتو بيزولي/فرانس برس)
+ الخط -
بعد نحو 14 شهراً من الحكم الائتلافي لمعسكر اليمين المتطرف والشعبويين في إيطاليا، حزب "ليغا" (الرابطة) بزعامة نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية المثير للجدل ماتيو سالفيني، وحركة "النجوم الخمس" الشعبوية بزعامة نائب رئيس الوزراء أيضاً، لويجي دي مايو، وبدعمٍ برلماني غير مباشر من الحركة الفاشية "إخوة إيطاليا"، يبدو أن العقد الحاكم في روما قد انفرط، فيما تتجه البلاد إلى تنظيم انتخابات مبكرة، كأحد مخارج المأزق السياسي الذي تعيشه، في ظل انفتاح شهية زعيم "ليغا" لاحتكار رئاسة الحكومة، بعد النجاح الذي حققه في الانتخابات الأوروبية، ومنحه نسبة 39 في المائة من الأصوات من قبل استطلاعات الرأي، في أي استحقاق انتخابي مقبل.

عودة لعدم الاستقرار

وشهدت إيطاليا حركةً سياسية محمومة أول من أمس الخميس، وأمس الجمعة، بمشاركة رئيس الوزراء جوزيبي كونتي، مع احتدام الخلاف واتساع الفجوة بين طرفي التشدد اليميني القومي، والتي طفت على السطح إثر تحقيق سالفيني نتيجة جيدة في الانتخابات البرلمانية الأوروبية في مايو/أيار الماضي، وشعور شريكه دي مايو بالمرارة، إلى حد اتهامه الأول بالأنانية.

وبعد هدنة رست بين الطرفين في الأول من يونيو/حزيران الماضي، باتفاق سالفيني ودي مايو على استمرار التحالف، تفجّرت الخلافات، وخرجت إلى العلن من داخل البرلمان، إثر جلسة نقاشات شهدها يوم الأربعاء الماضي، بتصويت الحزبين ضد بعضهما في ما خص مقترح إنشاء سكة حديدية لقطارات عالية السرعة باتجاه فرنسا. إلا أن المسألة أعمق من مجرد تنافر على مشروع قطار، فيما الرئيس الإيطالي، سيرجيو ماتاريلا، الذي كان راقب مشهد الاختلافات بين طرفي الحكم على مدى أشهر، لم يختر حل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة، وتُرك الأمر لسالفيني ليعلن مساء الخميس أن "لا خيار سوى العودة سريعاً إلى الشعب ليختار".


تكتيك سالفيني، المصنف هو وحزبه بالقومي المتطرف، يتجه لاستغلال تقدمه في الاستطلاعات، بعدما اعتمد سياسات متصلبة ومتوترة مع قوى داخلية، وخارجية حيال الاتحاد الأوروبي، سواء تعلق الأمر بقضية اللجوء والهجرة، أو الموازنات والقضايا الاقتصادية والتزامات روما مع بقية دول الاتحاد، وتنامي شعبيته وحزبه "ليغا"، بتقدّم واضح في انتخابات البرلمان الأوروبي، بما تجاوز أيضاً شعبية "النجوم الخمس"، الذي أمل زعيمه دي مايو، في انتخابات ربيع العام 2018 أن يصل إلى مقعد رئاسة الوزراء، والذي خسره لمصلحة "ليغا"، فيما قوته في البرلمان الوطني في روما، أكبر من "ليغا".

ويعني إعلان سالفيني استحالة استمرار التعاون بين الطرفين، ومطالبته بقوة بإجراء انتخابات مبكرة، عودة إيطاليا إلى أجواء غياب الاستقرار السياسي الحكومي، الذي طغى منذ نهاية حقبة الفاشية. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، تشكلت في البلاد حوالي 60 حكومة، نتيجةً لغياب الاستقرار، الذي كان راهن عليه معسكر الشعبويين والقوميين المتشددين بعد تشكيل حكومتهما الائتلافية في يونيو/حزيران 2018. وليس غريباً أنه أثناء النقاشات التي جرت خلال الأيام الماضية، ذهب سالفيني للمطالبة بطرح تصويت على الثقة البرلمانية في الحكومة، وبالتالي فإن حزبه قادر بالتأكيد على جعل الأمر صعباً لشريكه "النجوم الخمس"، الذي حاول فرملة مشروع السكة والقطار السريع نحو فرنسا.

وكان حزب "النجوم الخمس"، بزعامة لويجي دي مايو، تصادم خلال فترة حكمه مع فرنسا في أكثر من مناسبة، ووصل الأمر إلى حد تراشق الاتهامات ووصفه باريس بـ"عدو إيطاليا"، على خلفية سجالات تعلقت بمساهمة روما في الموازنة الأوروبية، وإصرار دي مايو على النبش في الماضي الاستعماري لفرنسا في أفريقيا، محملاً سياساتها "المستمرة بالاستعمار حتى اليوم، مسؤولية تأخر أوضاع دول يأتي منها اللاجئون عبر المتوسط"، بحسب ما صرح به قبل نحو 10 أيام. وبعد كل التوتر الذي صبغ علاقة الرجل وحركته الشعبوية بالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بدا من الصعب أن يصوّت دي مايو لمصلحة مشروع تراه الطبقة المتنفذة في السياسة، وفي الاقتصاد الذي يئن في روما، مشروعاً إنعاشياً مفيداً للبلاد.

التراشق بـ"الفساد" المتعلق بهذا المشروع الذي حاول "النجوم الخمس" الأربعاء الماضي فرملته، كان آخر نقطة قبل أن يطفح كيل الائتلاف. فالأمر يتعلق بنفق بطول 58 كيلومتراً، يمتد من تورينو الإيطالية إلى ليون الفرنسية، وهو موضع سجال منذ عقدين. لكن التكلفة المالية التي قدرت بنحو 10 مليارات يورو تضاعفت إلى حوالي 20 ملياراً، في ظل أزمة وعجز في الاقتصاد الإيطالي، ليجد دي مايو ضالته لمهاجمة سالفيني، ما دفع الأخير للتعليق على شريكه بالقول إن "هؤلاء غير قادرين على حكم البلد".

وفي الوقت ذاته، تسبّبت سياسات وتصريحات سالفيني القومية المتعصبة بأزمات متعددة مع منظومة الاتحاد الأوروبي، وازدادت نغمة الانتقادات التي وجهها للاتحاد، بعد تحقيقه نتيجة 33 في المائة من أصوات ناخبي بلده في الانتخابات الأوروبية، ما يضعه كأكبر الأحزاب الإيطالية. فعدا عن الاقتباسات الفاشية المقلقة من زعيم "ليغا"، وعلاقته العلنية بتيار متطرف يقوده من روما مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب السابق، ستيف بانون، فإن سياسته تُصنف من قبل بعض الأطراف الداخلية والخارجية بالأكثر ولاء لروسيا ولرئيسها فلاديمير بوتين، وآخرها شبهة دعم النخبة الروسية القريبة من الكرملين بالمال لتحقيق المزيد من اكتساح الشارع، وهو ما فتح أيضاً باب فضيحة سياسية وإعلامية داخلية.

ويذهب محللون وخبراء في الصحافة الإيطالية، إلى أن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي أحدثت حالة انقلاب على الطرفين (دي مايو وسالفيني). وهؤلاء يشيرون إلى تحوّل في نتائج شعبية كل طرف؛ ففي انتخابات 2018، لم يحقق سالفيني سوى 17 في المائة، فيما حققت حركة "النجوم الخمس" بزعامة دي مايو 32 في المائة من الأصوات. وأدى التوتر في علاقة الطرفين أثناء الحملات الانتخابية للبرلمان الأوروبي، وتنافس الشريكين، إلى ما يشبه علاقة استفزاز ونكاية سياسية، استُحضرت فيها القضايا الاقتصادية والفساد، الأمر الذي دفع برئيس الوزراء كونتي إلى التصريح بداية يونيو/حزيران الماضي بأنه "لا يمكننا القيام بعملنا إذا استسلمنا للاستفزازات التي تقوض عمل الحكومة".

وبالرغم من انتماء الطرفين الحاكمين إلى معسكر التشدد، إلا أن التنافر بين الحزبين (ليغا والنجوم الخمس) أدى في ربيع 2018 إلى ثلاثة أشهر من الفوضى السياسية قبيل التوصل إلى اتفاق شراكة في حكومة ائتلافية. وحتى باختيار الشخصية الحقوقية، كونتي، لرئاسة الوزراء، ظلت الانقسامات قائمة حتى اضطر الأخير للطلب من سالفيني الوقوف أمام أعضاء البرلمان لتعليل طلبه بانتخابات مبكرة، متهماً إياه بأنه "هو المتسبب بهذه الأزمة الأكثر وضوحاً في تاريخ الجمهورية".

توجُّه سالفيني لفرط عقد الحكومة يُنظر إليه في روما كإلقاء "قنبلة"، أقله بحسب ما عنونته صحف عدة في العاصمة الإيطالية صباح أمس الجمعة، وهي تغمز من زاوية أن "سالفيني عمل منذ فترة لإسقاط الحكومة على وقع نتائج ما حققه في انتخابات البرلمان الأوروبي"، وهو ما أشارت إليه "لا ستامبا"، ناقلة عن سالفيني وصف شريكه في الحكم، دي مايو، بأنه "يكفي عملاً مع السيد لا، وسنطلب من الشعب الإيطالي أن يمارس قوته لحماية البلد".

التخمينات وبعض الاستطلاعات التي تمنح "ليغا" تقدماً كبيراً في حال إجراء انتخابات برلمانية، وبواقع قد يصل إلى نسبة 39 في المائة، ستضع هذا الحزب في مقدمة الأحزاب الإيطالية، وهو ما سيكون مدمراً لحركة "النجوم الخمس" الشعبوية، مع ملاحظة أن ميولاً متطرفة أكثر في الشارع الإيطالي تتجه إلى سالفيني صاحب العلاقة الجيدة بالمعسكر الفاشي، باقتباسات وسماح بمواكب ومسيرات تمجد بينيتو موسوليني حصلت خلال الأسبوع الماضي، بالرغم من أنه كوزير للداخلية، كان يمكن أن يمنع تحويل قبر موسوليني إلى مزار، ويمنع مسيرات يجري تشبيهها بموكب اقتحام الفاشيين لروما في بدايات العقد الثاني من القرن الماضي.

ومع هذه الشعبية الكاسحة التي يتمتع بها، ذهب سالفيني مساء الخميس، إلى خطاب أشبه بحملة انتخابية، حين ألقى خطبة نارية في مدينة بيسكارا، طالباً من الشعب "منحي القوة لإنقاذ البلد، فأنا المرشح الأول (لمنصب رئاسة الوزراء)". الرجل لم يكتفِ بذلك، فخطبة بيسكارا كانت ضمن جولة على أقاليم إيطاليا، صوّب خلالها نيرانه على دي مايو.


السيناريوهات المرتقبة

بعيداً عما قد تكشفه الأيام المقبلة من أدوار يمكن أن تؤديها الأحزاب السياسية التقليدية في السياسة الإيطالية، سواء يسار أو يمين الوسط التقليدي، وما يمكن أن يقدمه سيلفيو برلسكوني، الذي كان الأوروبيون ينظرون إليه حتى وقت قريب كأفضل الخيارات الإيطالية للتعاون، إلى جانب "الاجتماعي الديمقراطي"، الذي تراجع كثيراً في انتخابات العام الماضي، يبدو أن الرابح الأكبر من الانتخابات المبكرة إن تقررت سريعاً، سيكون معسكر اليمين في إيطاليا، وذلك لأسباب متعددة، لعل أولها وأكثرها تأثيراً قدرة سالفيني على التلاعب بورقة الهجرة وتراجع الاقتصاد.

ولا يمكن إغفال مقدرة حزب "ليغا"، على الانتشار في عموم إيطاليا، وهو الذي ظل حتى سنوات قريبة يركز على الشمال الإيطالي، باسم "رابطة الشمال"، وأحياناً بأصوات تدعو للانفصال عن الجنوب الفقير، فيما أدى سالفيني دوراً شخصياً بكاريزما تطرف قومي مدغدغ للتاريخ، في ظل ترداد بعض الإيطاليين عبارة "الحاجة لموسوليني جديد".

وتشير التوقعات إلى إمكان اتجاه إيطاليا إلى انتخابات مبكرة قد تجري في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، في حال تم حل البرلمان وفشلت كل المحاولات لإنقاذ مؤسسة الحكم، مع استبعاد خبراء السياسة المحلية في الصحافة الإيطالية إمكانية أن يستطيع كونتي مع ماتاريلا إيجاد مخارج. ويذهب هؤلاء أيضاً إلى أن كونتي ربما يختار الدعوة للتصويت بالثقة أو حجبها عن حكومته في البرلمان على خلفية الأزمة. ويستطيع ماتاريلا أيضاً أن يحل البرلمان، أو أن يختار تكليف كونتي بالقيام بجولة استطلاع لتشكيل حكومة بديلة، أو حتى الذهاب إلى حكومة تكنوقراط بعيداً عن الأحزاب، أقله لاعتماد الموازنة. الاحتمال الأقرب هو انتخابات برلمانية سريعة، بحدود 20 إلى 27 أكتوبر المقبل، وهو ما يمكن أن يصبح المخرج كما يحدث عادة في ظل أزمات مشابهة طيلة 70 عاماً من عمر الجمهورية الإيطالية. وتتطلب هذه الانتخابات أن يكون هناك حل للبرلمان، بغرفتيه، قبل 70 و45 يوماً من موعد الاقتراع، ونحو 60 يوماً من موعد تصويت الإيطاليين في الخارج. فلو حل البرلمان في 20 من شهر أغسطس/آب الحالي، لكان ممكناً أن تجري الانتخابات في 20 أكتوبر.

كل هذا يعني تعطل عمل البرلمان الإيطالي وتأجيل استحقاقات كثيرة تتعلق بوجوب تبنّي السلطة التشريعية موازنة يتوقعها الاتحاد الأوروبي قبل 15 أكتوبر المقبل، والتي يجب أن يتبناها البرلمان قبل 31 ديسمبر/كانون الأول المقبل، وبمشاريع إصلاحية واجتماعية، وهو ما يعني المزيد من الأزمات التي ستؤجل إلى العام المقبل، لتعود روما للدوران في حلقة مفرغة من غياب الاستقرار.

بالتأكيد لن تحمل الانتخابات، إن حصلت مبكراً، حلولاً سحرية وسريعة للبلد. ففي الواقع السياسي ــ الحزبي، ووفقاً للتقديرات والاستطلاعات، يستحيل، على الأقل في قراءة خبراء الشأن الإيطالي الداخلي، أن يحصل حزب واحد على أغلبية. وبالرغم من ذلك، يأمل ماتيو سالفيني، وفق صحيفة "لا ريبوبليكا" بحسب تقرير لها صدر أمس الجمعة، تحقيق نتيجة كبيرة في الانتخابات "لفرض ائتلاف يكون فيه هو الأقوى لقيادة البلد". لكن تجربة 2018، حين استمرت المفاوضات ثلاثة أشهر تقريباً لتشكيل حكومة الائتلاف الحالي، لا تبشر بالخير لسالفيني.


الحكومة الـ61

في حال أدى المأزق الحالي إلى تشكيل حكومة جديدة، فستكون إيطاليا أمام حكومتها الـ61 خلال نحو سبعة عقود. وجدير بالذكر أن إيطاليا الحالية عمرها فقط 200 عام، فهي كانت تتشكل من 10 دول مختلفة، وهذا ما يفسر الاختلاف الكبير في نواحي التقدم والتأخر الاقتصادي والصناعي بين مختلف أقاليمها، فالشمال الغني ظل لسنوات يطالب بالتصويت على الانفصال، ولا يبدو أن تلك النزعة انتهت في أكثر من مكان في البلد. وتتأثر مناطق الجنوب وجزر إيطاليا في المتوسط، كصقلية، بارتفاع كبير في نسب البطالة، مع انتشار المشاكل الاجتماعية وتفشي الجرائم والاتجاه نحو اليمين القومي المتعصب حتى لدى الطبقات الفقيرة.

كما أن الاقتصاد الإيطالي بالنسبة للاتحاد الأوروبي يؤثر كثيراً على مجمل منطقة اليورو، فثمة مخاوف اليوم في بروكسل مما يسمونه "إفراط الصرف" الذي يمكن أن يؤدي إلى أزمة اقتصادية. فقد استخدم اليمين والشعبويون المسألة الاقتصادية، وبالأخص الوعود بتخفيض الضريبة وتخصيص "راتب أساسي" للمواطنين وبتكلفة عشرات مليارات اليوروات، لجذب المزيد من التأييد، وقد تسببت تلك الوعود وغيرها بأزمات متتالية بين الإيطاليين ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تصاعد التراشق بسبب سياسات الهجرة واللجوء وعلاقات سالفيني القوية بروسيا ومعسكر الفاشيين حول أوروبا.

دلالات

المساهمون