ذكرى مجزرة رابعة: أسئلة الإذن القانوني بلا أجوبة حاسمة

ذكرى مجزرة رابعة: أسئلة الإذن القانوني بلا أجوبة حاسمة

14 اغسطس 2019
سقط في المجزرة الكثير من الضحايا (Getty)
+ الخط -
في الذكرى السادسة لمجزرة فض اعتصامي رابعة والنهضة في مصر لمؤيدي الرئيس المنتخب محمد مرسي ومعارضي انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013، ما زال الجدل يتجدد حول طبيعة ما تمّ في ذلك اليوم المشؤوم في 14 أغسطس/ آب 2013، وكيف ساقت الدولة المصرية الآلاف من مواطنيها العزّل نحو مصير محتوم دامٍ على يد عناصر الجيش ووزارة الداخلية، وكيف كانت النية مبيتة من قبل أعلى الجهات في هيكلية الدولة الحكومية والأجهزة السياسية والقضائية لارتكاب هذه المجزرة، بهدف الترويع وإرهاب كل من يقدم على الجهر بمعارضة النظام الجديد والتمسك بتنفيذ مطالب ثورة يناير/ كانون الثاني 2011.

أما تداعيات الجريمة الموثقة، والتي لا تزال تفاصيلها حاضرة في ذاكرة من نجوا من المجزرة، فلا تزال فصولها تتوالى حتى اليوم، إذ يواصل النظام، على الرغم من كل الانتقادات الحقوقية والدولية التي تطارده، التنكيل بمعارضيه ومحاولة التخلص ممن كانت له علاقة بالاعتصامين، مستخدماً سياسة القتل البطيء لجميع المعتقلين ممن ألقى القبض عليهم داخل رابعة والنهضة وخارجها، وزج بهم في السجون بذريعة انتمائهم إلى جماعة الإخوان المسلمين. ومنذ مجزرة الفض تحوّلت مصر إلى سجن كبير تتراجع فيه الحريات باستمرار، إذ يمنع أي انتقاد لو بسيط للنظام ويزداد القمع وتتوالى التصفيات الميدانية. وحتى شركاء النظام في تقديم الغطاء السياسي للمجزرة لم يسلموا منه. ووسط كل ذلك، واصل النظام بطشه لتعزيز نفوذه. وعدل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الدستور ليضمن بقاءه في الحكم أطول فترة ممكنة، محيطاً نفسه بمن يثق بهم فقط من عائلته أو من مقرّبين منه ومقصياً بكل من يشكك في ولائه المطلق له، فضلاً عن إحكام قبضته على مختلف المؤسسات بما في ذلك القضاء، إلى جانب انغماسه في التطبيع مع إسرائيل حتى أصبح رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو يجاهر بأن السيسي "صديق عزيز". في موازاة ذلك، تغوّل الجيش في الحياة الاقتصادية على حساب المهمات العسكرية، فيما زادت صلاحيات الشرطة على نحو غير مسبوق وباتت الانتهاكات فعلاً يومياً متجدداً يحظى بغطاء السيسي.

واكتسب الجدل حول طبيعة ما حدث في الغرف المغلقة قبل مجزرة فض اعتصامي رابعة والنهضة ببضعة أيام، أهمية مضاعفة بسبب مستجدين حصلا في السنوات اللاحقة: أولهما حادث اغتيال النائب العام هشام بركات في 29 يونيو/ حزيران 2015، الذي يعتبر أبرز شخص في نظام الانقلاب يتم اغتياله حتى اللحظة. والمستجد الثاني يتعلق بتوالي الروايات القضائية والأمنية المتضاربة حول المجزرة بسبب ما يمكن وصفه برغبة بعض مهندسي المجزرة في التنصل منها، وإلقاء الاتهام على كاهل آخرين حرصاً على عدم تحريك بلاغات أو قضايا ضدهم مستقبلاً بعد زوال النظام أو في أماكن أخرى خارج مصر.

في عام 2016 وفي معرض دفاعه عن سيرة النائب العام الراحل، قال القاضي حسن فريد، رئيس المحكمة التي تنظر في قضية اعتصام رابعة، والذي أصدر العام الماضي حكمه فيها، إن هشام بركات لم يصدر قراراً بفض الاعتصام، مفجراً بذلك مفاجأة من العيار الثقيل، فتحت باباً واسعاً للنقاش حول ما إذا كانت الشرطة ومن خلفها الجيش ووزير الدفاع آنذاك، الرجل القوي الوحيد في مجلس الوزراء عبد الفتاح السيسي، قد خدع الرأي العام، باستناده إلى قرار لم يصدر بالفعل لإجراء عملية الفض وما صاحبها من مذابح.

إلا أن حسن فريد في حيثيات حكمه، روى قصة أخرى مفادها أن هشام بركات أصدر بالفعل "قراراً" في 31 يوليو/ تموز 2013 بـ"اعتبار الوقائع التي تضمنها محضر التحريات المؤرخ في 30 يوليو، المحرر بمعرفة اللواء سيد شفيق مدير الإدارة العامة للمباحث الجنائية بالأمن العام، وكذلك باقي المحاضر المحررة في هذا الشأن، تنطوي على أدلة كافية على ارتكاب الجرائم المضرة بأمن الدولة من جهة الداخل ومقاومة السلطات وإتلاف المباني الحكومية والخاصة وتعطيل المواصلات والقتل العمد والقبض على الناس واحتجازهم من دون وجه حق والتعذيب البدني، وذلك لتنفيذ غرض إرهاب المواطنين وترويعهم".

وأضاف فريد "أمر هشام بركات بتكليف الشرطة باتخاذ اللازم قانوناً نحو ضبط الجرائم التي وقعت بمحيط دوائر ميادين التحرير ورابعة والنهضة بالقاهرة والجيزة، ومسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية، وميدان الشون بالمحلة الكبرى، وسائر الميادين التي وقعت فيها هذه الجرائم في الصعيد والوجه البحري، وكشف مرتكبيها وضبط السيارات المستخدمة بواسطتهم وسيارات النقل التلفزيوني وضبط المحرضين، ومنهم محمد بديع ومحمد البلتاجي وصفوت حجازي وحسن البرنس وباسم عودة وطارق الزمر".

ونحت نيابة أمن الدولة العليا في الاتجاه نفسه في تقرير الاتهام الصادر عنها في القضية 314 لسنة 2015 الخاصة باغتيال بركات، فقالت: "اشتكى عدد من مواطني المنطقة بعدم إمكانية العيش بمساكنهم، وتركهم أعمالهم التي يرتزقون منها، الأمر الذى أدى إلى احتقان المجتمع حيال تلك التصرفات، التي تحط من كرامة المواطنين وتمتهن آدميتهم، وبناءً عليه أعد قطاع الأمن العام بوزارة الداخلية تقريراً بكشف توافر دلائل حول انتهاكات الإخوان، وتم تسليمه للنائب العام الذى أصدر قراره في 31 يوليو 2013، باتخاذ الإجراءات اللازمة تجاه الأعمال الإجرامية التي وقعت داخل الاعتصام المسلح، وتسلم النائب العام الشهيد المستشار هشام بركات، بتاريخ 13 يوليو 2013، التقرير المُحَرَّر من قطاع الأمن العام، بشأن اعتصام رابعة العدوية بمدينة نصر في القاهرة، واعتصام النهضة بالجيزة. وتضمن التقرير توافر دلائل كافية لأعمال تخريب وإتلاف المنشآت العامة ومباني الدولة والقتل العمد ومقاومة السلطات، والاحتجاز والتعذيب البدني بغرض إرهاب وترويع المواطنين. وبناء على التقرير، كلف النائب العام وقتها قوات الشرطة بوقف الجرائم التي وقعت بمحيط ميدان رابعة العدوية، وضبط سيارات البث الإذاعي المسروقة من التلفزيون المصري، وضبط بعض القيادات الإخوانية المتورطة في التحريض".

وذكرت النيابة أن "الباعث على قتل بركات أنه من أهم رموز الدولة المصرية وقتله يساعد على إسقاطها ومؤسساتها، بينما زعم قادة الجماعة لأعضائها أن قتله لأمره فض تجمهري الجماعة برابعة والنهضة ومسؤوليته عمن قتل وأصيب بهما"، فأفتوا لبقية المتهمين باستباحة دمه تأويلاً لحكم القاعدة الشرعية "دفع الصائل".

وفي اتجاه قريب جاءت شهادة لجنة التقصي الرسمية التابعة للمجلس القومي لحقوق الإنسان التي أصدرت تقريرها بتقصي الحقائق عن الأحداث في مارس/ آذار 2014 من دون أن تتلقى أي إفادات خلال عملها من مكتب النائب العام. ولم تذكر اللجنة في تقريرها أن بركات هو الذي أصدر قرار ضبط الجرائم داخل الاعتصام، بل نسبت القرار إلى "نيابة مدينة نصر أول الواقع في دائرتها ميدان رابعة العدوية". وهو أمر لا يقلل من مسؤولية بركات عما حدث، لكنه يغيّر قليلاً من مسار الرواية الرسمية، وربما يعكس أمراً آخر، هو أن بركات نفسه كان يتنصل من المسؤولية عن فض الاعتصام، خصوصاً أن قرار ضبط الجرائم لم يصدر فقط بناء على شكاوى الأهالي للنيابة الجزئية، بل تحرر بشأنه تقرير من أكبر مسؤول عن المباحث في مصر، كما سبق وذكرت المحكمة، التي استمعت أيضاً لشهادة هذا المسؤول وهو اللواء سيد شفيق.

في اليوم نفسه الذي روت فيه المحكمة والنيابة، وتحت نظرهما الوثائق الرسمية، أنه شهد إصدار بركات لهذا القرار، كان الأخير قد أدلى بتصريحات لصحيفة "الشروق" المصرية قال فيها إن "النيابة العامة غير مختصة بإصدار قرارات فض اعتصامات مؤيدي محمد مرسي، سواء في محيط مسجد رابعة العدوية بمدينة نصر، أو ميدان النهضة بالجيزة"، مشيراً إلى أن التصريح بفضّ تلك الاعتصامات يقع خارج اختصاصات النيابة العامة.

وذكر بركات في تلك التصريحات أنه "لم يصدر حتى الآن قرارات بشأن البلاغات المقدمة للنيابة، التي تطالب بفض الاعتصام القائم برابعة العدوية، وأن النيابة العامة لم تتخذ أي تصرفات في تلك البلاغات بعد"، نافياً ما أثير حول "مخاطبة النيابة العامة لوزارة الداخلية، لإفادتها بخطة أمنية لفض تلك الاعتصامات". وأدلى بركات بهذه التصريحات على خلفية تقدم عدد من أهالي منطقة رابعة العدوية ببلاغات إلى النائب العام، يطالبون بإصدار أوامر بفض اعتصام رابعة العدوية، نظراً لتعرضهم لمضايقات من أصحاب الاعتصام، وتصاعد الحديث في وسائل الإعلام الموالية للانقلاب عن ضرورة فض الاعتصام بالقوة. التسليم بصحة ما أدلى به بركات من تصريحات في حينه، يعكس بوضوح تعرضه لضغوط ودخوله في مفاوضات لمحاولة الخروج بقرار يتماشى مع اختصاصات النيابة العامة وفي الوقت نفسه يسمح بالفض بهذه الصورة الدموية، من دون أن يتخذ القرار نفسه الفض عنواناً له.

مصادر قضائية شاركت في أعمال لجنة تقصّي الحقائق الرسمية، قالت لـ"العربي الجديد"، إن "بركات رفض التعاون مع اللجنة للنأي بنفسه عن الأحداث، لكن بعض المقربين منه كانوا ينقلون عنه آنذاك أن قراره لا يعني بالضرورة الفض بالقوة". ورجحت المصادر أن يكون امتناعه عن ذكر أي تفاصيل في التقرير الرسمي خوفاً من "انتقام دموي"، وذلك على غرار مسؤولين كثر وضباط جيش وشرطة التقت بهم لجنة تقصي الحقائق، التي أصدرت في نهاية المطاف تقريراً يحمّل المعتصمين الجزء الأكبر من مسؤولية ما حدث.

وأضافت المصادر أن المقربين من بركات في الأوساط القضائية كانوا ينقلون عنه تحميله الشرطة مسؤولية وقوع خسائر كبيرة في الأرواح وكان يرى إمكانية الخروج بخسائر أقل، لكنه في الوقت نفسه كان يرى أن فض الاعتصام كان السبيل الوحيد لإعادة بسط هيبة الدولة على العاصمة، مذكراً بأن قضية الاعتصام بتوجيه الاتهامات للمعتصمين الناجين من المجزرة بدأت في عهد بركات عقب الفض مباشرة.

وذكرت المصادر أن القرار الذي صدر من بركات كان بمثابة "تقنين على بياض" لتصرفات الداخلية على اعتبار أنه "لا يوجد في قرارات النيابة شيء اسمه (وأي ميادين أخرى) فهذا القرار أعطى الغطاء القانوني اللازم للدولة لقمع المعتصمين أو المتظاهرين في أي مكان على مستوى الجمهورية، وليس فقط في رابعة والنهضة". يذكر أن بركات توفي مساء يوم الإثنين 29 يونيو 2015 متأثراً بإصابته جراء استهدافه بتفجير سيارة مفخخة، وتم تنفيذ حكم الإعدام في فبراير/ شباط الماضي بحق 9 شبان قضت محكمة النقض بمسؤوليتهم عن اغتياله، وقضت بالإعدام غيابياً على 18 آخرين، والسجن المؤبد لـ15 آخرين، والسجن المشدد 15 سنة لـ8 متهمين، والمشدد 10 سنوات لـ15 متهماً.

المساهمون