عودة وشيكة لمرحلة ما قبل الاتفاق النووي

عودة وشيكة لمرحلة ما قبل الاتفاق النووي

16 يوليو 2019
يحاول روحاني وأعضاء حكومته تطمين الشارع الإيراني (الأناضول)
+ الخط -
عكست التحركات والتصريحات الأوروبية والإيرانية، أمس الإثنين، وجود قناعة بتراجع فرص إنقاذ الاتفاق النووي وبدء استعداد مختلف الأطراف لمرحلة ما بعد الانهيار الرسمي للاتفاق. ولعل تصريح وزير الخارجية البريطاني، جيريمي هنت، لدى وصوله إلى اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل أمس، كان الأكثر تعبيراً عن صعوبة المرحلة بقوله: "لا يزال أمام إيران عام على الأقل لإنتاج قنبلة نووية... لكن هناك فرصة ضئيلة لإبقاء الاتفاق على قيد الحياة"، قبل أن يضيف "لم يمت الاتفاق بعد" ونريد أن نعطي لإيران "فرصة للعودة عن تدابيرها المخالفة لتعهداتها". وعلى الرغم من أن الأوروبيين قرروا بذل كل جهد ممكن لإنقاذ الاتفاق النووي المبرم مع إيران، لكن استحالة الالتفاف على العقوبات الأميركية لا تترك لهم فرصة كما أفاد وزراء الخارجية الأوروبيون الإثنين في بروكسل. وفي السياق، قال وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان: "اتخذت إيران قرارات خاطئة ردًا على القرار الأميركي الخاطئ بالانسحاب من الاتفاق وفرض عقوبات تؤثر بشكل مباشر على المنافع الاقتصادية التي كان بإمكان البلد الحصول عليها من الاتفاق". وأضاف "نود أن تعود إيران إلى الاتفاق" وتحترم تعهداتها. وقال الإسباني جوزب بوريل، المعين لخلافة الإيطالية فيديريكا موغيريني كوزير لخارجية الاتحاد الأوروبي إذا وافق عليه البرلمان الأوروبي: "لا نعترف بالتأثير الواسع خارج نطاق الحدود" للقوانين الأميركية التي فرضتها واشنطن. وأضاف "نقوم بكل ما في وسعنا للحفاظ على الاتفاق المبرم مع إيران لكننا نعرف أن الأمر صعب للغاية بسبب موقف واشنطن". وتابع أنه "في حال حازت طهران السلاح النووي ستحصل عليه أيضاً دول أخرى من المنطقة وسيصبح الوضع في غاية الخطورة". وأضاف أن "إيران غير قادرة بعد على تطوير السلاح النووي ونود أن يبقى الشرق الأوسط خالياً من الأسلحة النووية".
وجاءت هذه التصريحات في وقت أعلنت هولندا أنها تدرس طلباً أميركياً بتوفير دعم عسكري في مضيق هرمز لحماية سفن الشحن في الممر البحري الرئيسي. وقال وزير الخارجية الهولندي، ستيف بلوك، أمس الإثنين، إن حكومته تنوي العمل حتى منتصف سبتمبر/أيلول المقبل لتقييم الطلب قبل اتخاذ القرار. وأضاف أن الأمر يعتمد على العتاد العسكري المطلوب والمخاطر الأمنية إجمالاً. وتابع قائلاً "سوف نستغل هذا الصيف لرؤية ما الرد الذي سوف نتوصل إليه معهم".
أما إيران، فشهدت في الأيام الأخيرة صدور تصريحات وخطابات لافتة عن الساسة والعسكر الإيرانيين بشأن عناوين التوترات والتحديات التي تواجهها طهران في الوقت الراهن، متضمنة رسائل عدة، على الرغم من اختلاف مفرداتها؛ فمنها ما هو موجه للخارج، وعلى وجه التحديد للولايات المتحدة والدول الأوروبية، ومنها أيضاً ما هو موجه للداخل، سواء في سياق تطمين الشارع ورفع معنوياته في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة للغاية، أو في إطار المناكفات والخلافات السياسية الداخلية.
وكان لافتاً في التصريحات الإيرانية خلال اليومين الأخيرين، اختفاء التهديدات بالرد بالمثل على احتجاز بريطانيا ناقلة النفط الإيرانية في جبل طارق أخيراً، ليعزّز ذلك القناعة بأنّ هذه الأزمة في طريقها نحو الحلّ، بعد ظهور مؤشرات وبوادر انفراجة، خصوصاً بعد الاتصال الهاتفي لوزير الخارجية البريطاني جيريمي هنت بنظيره الإيراني محمد جواد ظريف، وإفراج حكومة جبل طارق عن طواقم السفينة المحتجزين، وكذلك تصريحات وزير النفط الإيراني، بيجن نامدار زنغنه، هذا الأسبوع حول وجود "أنباء جيدة" في هذا الصدد، قد يتم الإعلان عنها قريباً.
أمّا الرسائل التي بدا أنّ إيران تسعى إلى إيصالها للخارج من خلال التصريحات الأخيرة، فهي الإظهار بأنّها ثابتة على مواقفها وسياساتها في مواجهة السياسات الأميركية و"المماطلات" الأوروبية حول الاتفاق النووي. وفي هذا السياق، أكد الرئيس الإيراني، حسن روحاني، أول من أمس الأحد، أنه "لا تراجع للوراء"، وأنه "لا خيار أمام إيران إلا الصمود"، معيداً شروط التفاوض مع الإدارة الأميركية، برفعها العقوبات، وعودتها للاتفاق النووي، والاعتذار من الشعب الإيراني. 

من جهته، جدّد الحرس الثوري الإيراني، على لسان مساعده للشؤون السياسية، يد الله جواني، رفضه المطلق لأي تفاوض مع واشنطن، معتبراً أنها "لا تتمتع بأهلية التفاوض ولا تلتزم بتعهداتها". وتطرق جواني، في تصريحات له أمس الإثنين، إلى مخاوف وقلاقل من تأثيرات "العمليات النفسية الأميركية" على قناعات الشارع الإيراني، ليظهر النظام "فاشلاً" في مواجهة التحديات ومنها البطالة والغلاء، بحسب قوله. واتهم جواني الإدارة الأميركية بـ"السعي إلى صناعة صورة خاطئة عن الثورة في أذهان الشباب الإيراني"، قائلاً إنها تقوم بـ"دعايات مكثفة لتفرغ الثورة من مضمونها وتصور الكيان البهلوي الفاسد (النظام الإيراني السابق) على أنه كان كياناً جيداً". كما رأى جواني في الحديث عن التفاوض حول القدرات الصاروخية لحلّ المشاكل المعيشية للناس "بمثابة خيانة"، معتبراً أيضاً الحديث عن أنه لا سبيل إلا التفاوض "مؤامرة أميركية".

وكان لافتاً أن يتهم جواني البعض في داخل إيران، من دون أن يسميهم، بـ"إظهار العدو قوياً بغية تحقيق أهدافهم السياسية"، ما يؤشر إلى أنّ التصريحات الأخيرة الصادرة عن المسؤولين في إيران لم تكن بعيدة عن المناكفات السياسية بين القوى الداخلية كذلك.

وتندرج مختلف التصريحات ورسائلها المبطنة، تحت سقف استراتيجيتين إيرانيتين: الأولى هي استراتيجية "المقاومة الفعالة" المبنية على قاعدة "لا حرب ولا تفاوض" في مواجهة استراتيجية "الضغط الأقصى" الأميركية أو المعادلة التي تسعى واشنطن فرضها على طهران بتدرج وهدوء، أي "إما الحرب أو السلام" بشروط أميركية.

وفي السياق، جدّد القائد العام للجيش الإيراني، عبد الرحيم موسوي، التأكيد في تصريحات أوّل من أمس الأحد، على أنّ إيران "لن تكون البادية في الحرب"، لكنها "سترد على أي ضربة أميركية بعشر ضربات"، مشيراً إلى أنها ستستهدف أيضاً أي دولة تقدّم الدعم للولايات المتحدة في حربها المحتملة ضدّ إيران. يبقى أنّ تأكيدات طهران المتكررة خلال الأيام الأخيرة على طبيعة الردّ على أي هجوم أميركي محتمل، والقول إنه سيكون "قوياً وحازماً وحاسماً"، بالرغم من استبعادها للحرب، يدلّ على وجود مخاوف لدى السلطات الإيرانية من احتمال انجرار الوضع نحو الهاوية والمواجهة العسكرية، لذلك تأتي هذه التأكيدات كمحاولات رادعة، وهو ما يؤشر إليه قائد الجيش الإيراني، بالقول إنّ "الظروف الحالية في العالم والمنطقة تفرض علينا أن نكون متأهبين أكثر من قبل"، مشيراً إلى وجود "مخططات شيطانية" لدى أعداء بلاده من دون أن يكشف عنها.

أمّا الاستراتيجية الثانية، فهي "التعامل بالمثل" أو "خطوة بخطوة" في مواجهة "المماطلات" الأوروبية في تنفيذ التعهدات تجاه الاتفاق النووي. وتتبنى إيران هذه الاستراتيجية في وقت أعلنت فيه تخليها عن استراتيجية "الصبر الاستراتيجي"، وهو ما أعلنه الرئيس الإيراني، الأحد، بقوله إنّ بلاده استبدلت "الصبر الاستراتيجي" اعتباراً من الثامن من مايو/أيار الماضي، باستراتيجية "التعامل بالمثل"، بشأن تطورات الاتفاق النووي بعد انسحاب واشنطن منه.

وفي السياق، تضمّنت التصريحات الإيرانية الأخيرة تأكيدات "ملحّة" على مواصلة سياسة تقليص التعهدات النووية، بعد تدشين المرحلة الثانية منها في 25 يونيو/حزيران الماضي، والتلويح بالانسحاب من الاتفاق النووي، إذ هدد المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، بهروز كمالوندي، أمس الإثنين، بأنه "في حال لم تنفذ أوروبا وأميركا تعهداتهما، فنحن أيضاً من خلال تقليص تعهداتنا، سنخلق تعادلاً ونعيد الظروف إلى ما قبل أربع سنوات"، أي قبل التوقيع على الاتفاق النووي.

وتتقاطع الاستراتيجيتان الإيرانيتان في مواجهة السياسات الأميركية والأوروبية، بأدوات هجومية، فضلاً عن أخرى دفاعية، تبرز مظاهرها في ممارسات عسكرية، مثل إسقاط الطائرة الأميركية المسيرة في الثالث عشر من الشهر الماضي، وكذلك في ممارسات سياسية ونووية مثل الانسحاب التدريجي من الاتفاق النووي عبر تقليص مستمر في التعهدات المنصوص عليها في الاتفاق.

تُظهر التصريحات الإيرانية الأخيرة أنه ليس في وارد حسابات طهران التراجع بمواجهة الأزمات المركبة التي تواجهها سياساتها الخارجية، إقليمياً ودولياً. وهو الأمر الذي يرجّح كفة التصعيد في المنطقة، ويقلل من فرص خفضها، لا سيما في ظلّ تمسك واشنطن بموافقها، وعدم إبداءها مرونة وتراجعاً عن ضغوطها، وخصوصاً في المجال الاقتصادي.

كما أنّ رفض إيران مجدداً التفاوض تحت "الضغط" من جهة، ومواصلة أميركا ضغوطها من جهة أخرى، يؤكّد أنه لا تزال فرص الدبلوماسية لحلّ الأزمة بين البلدين "شبه معدومة".

ومن الواضح أيضاً أنّ إصرار إيران على مواقفها بغية دفع الجانب الأميركي على التراجع عن ضغوطه الاقتصادية من خلال اللعب على وتر القلاقل الأمنية الأوروبية من انهيار الاتفاق النووي، مدفوع باعتبارات وقناعات عدة، أهمها استغلال ثغرات لدى الأطراف الأميركية والأوروبية، مثل انشغالات هذه الأطراف باستحقاقات داخلية، وكذلك القناعة بأنّها (طهران) بدأت تتأقلم مع الظروف الجديدة الناتجة عن العقوبات والضغوط الأميركية، مما يزيد من تشددها في الموقف.

ويمكن تفسير تصريحات المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي، الأحد الماضي، في هذا الإطار، إذ قال إنّ بلاده استوعبت الصدمة الأولى للعقوبات، مشيراً إلى أنّ "أوضاعنا جيدة والهدوء يسود اليوم الأسواق الإيرانية والتضخم في تراجع". كما تحدّث روحاني بدوره عن تحسن المؤشرات الاقتصادية لبلاده وانخفاض ديونه الخارجية وتراجع البطالة.

ولا يخفى أيضاً أنه فضلاً عن ما سبق ذكره، فإنّ التصريحات الإيرانية الأخيرة كانت مشفوعة بمحاولات تطمين الداخل، ومخاوف من تغيير قناعاته على ضوء ما تعتبره السلطات الإيرانية "الحرب النفسية الأميركية". وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى تصريحات روحاني وأركان حكومته عن تحسّن مؤشرات الاقتصاد، وكأنها محاولة لتطمين الإيرانيين ورفع معنوياتهم في هذه الظروف، على الرغم من أنه قد لا يتفق معه الكثيرون من القوى السياسية والشارع حول تحسّن هذه المؤشرات.

المساهمون