تصريحات السفير الأوروبي في تونس: سجال الشكل والمضمون

تصريحات السفير الأوروبي في تونس: سجال الشكل والمضمون

16 يوليو 2019
الدفاع عن استقلال القرار من بين القضايا الرئيسية بتونس(Getty)
+ الخط -
فتحت تصريحات سفير الاتحاد الأوروبي في تونس، باتريس بيرغاميني، قبل أيام لصحيفة "لوموند" الفرنسية، ثم اعتذاره عنها، أبواباً واسعة في تونس وخارجها لسجالات تتعدى حدود التدخل الدبلوماسي بشؤون داخلية، لتصل إلى مضمون المواقف المعلنة. لم يكن الشارع السياسي في تونس يتوقع أن يتحدث السفير الأوروبي (من أصل فرنسي) بهذا الوضوح عن الوضع الداخلي والحالة الاقتصادية في البلاد. اتسمت غالبية الردود الرسمية بالنقد الشديد لأسلوبه وخروجه عن التحفظ الذي يمليه عليه موقعه الدبلوماسي، واعتبر حواره نوعاً من "التدخل في الشأن المحلي"، ودليلاً آخر على "ممارسة الوصاية والمسّ بالسيادة الوطنية لتونس".

ويعتبر الدفاع عن استقلال القرار الوطني، من بين القضايا الرئيسية التي أصبحت مطروحة بقوة بعد الثورة في تونس. فالحريات التي وفرتها الثورة جعلت الجدل حول هذه المسألة يكتسب بعداً وطنياً استثنائياً، ويعمّق الانقسام بين الفاعلين السياسيين الذين يتبادلون التهم حول ما يسمونه الاصطفاف وراء هذا المحور الإقليمي أو ذاك. وزير السياحة روني طرابلسي، الذي يعتبر صديقاً لفرنسا، فاجأته تصريحات بيرغاميني، وجعلته يعبّر عن "استغربه"، قائلاً: "كيف يقوم أجنبي بإبداء رأيه في اقتصاد تونس؟".

لم يعد خافياً أنّ تونس، البلد الصغير ذا الموقع الاستراتيجي الحيوي، يتعرّض منذ سنوات لضغوط قوى إقليمية ودولية ذات مصالح متناقضة. فالبعض يؤكّد أنّ البلد يعجّ بشبكات استخباراتية تنتمي لدول ومحاور متعددة، كل يرصد ويستقطب ويحاول التأثير على الأطراف السياسية أو المالية، مستغلين ضعف الدولة وتعدد التحديات التي تواجهها. وهو أمر تعمل الأجهزة الأمنية التونسية على مراقبته والتصدي له، خصوصاً بعد أن تمكّنت وزارة الداخلية من إعادة بناء أجهزتها السابقة التي تعطّلت أو تراجع أداؤها بعد الثورة بسبب حصول خلط لدى المعارضين والنشطاء بين مفهومي "البوليس السياسي" الذي كان مسلطاً على رقاب الجميع، وبين أمن الدولة الذي يتجاوز الأفراد ويحارب التجسس والجماعات المسلحة التي تتخذ من الإرهاب وسيلة لتخريب الأمن القومي.

وقال سفير الاتحاد الأوروبي لـ"لوموند"، إنّ الاقتصاد التونسي "تحكمه لوبيات معينة، يتحكّم فيها عدد من العائلات النافذة والتي تسعى لخدمة مصالحها الشخصية فقط". وأضاف أنّ هذه الأطراف "تمنع أي منافسة في السوق من طرف المؤسسات الصغرى، وتتصدى لجميع محاولات إرساء الشفافية والحوكمة في القطاع الاقتصادي". ودعا، في السياق نفسه، إلى "ضرورة إعادة توزيع الثروات التونسية حتى لا يتم تفقير الطبقة الوسطى أكثر فأكثر، مما سيؤدي إلى انقراضها". وحتى يؤكد أنّ هذه "الاتهامات"، بحسب ما وصفها البعض، هي من باب "النصيحة"، شبّه بيرغاميني تونس بالجندي "الذي يصارع في سياق إقليمي مضطرب، من أجل تحقيق الانتقال الديمقراطي واستكمال المسار"، وقال إن النموذج الديمقراطي التونسي "يحتاج إلى تنمية اقتصادية"، مشدداً على أنّ الاتحاد الأوروبي يدعم "الجندي" التونسي ولا يريد أن يفقده في منتصف الطريق".

وكان لافتاً أنّ غالبية التعليقات التونسية على تصريحات السفير، تركّزت على إدانة تجاوزه الحدود المفروضة عليه بحكم وظيفته، من دون الوقوف عند مضامين تصريحاته، والردّ عما إذا كانت "العائلات" التي أشار إليها واتهمها باحتكار الاقتصاد التونسي، موجودة أم لا، وما إذا كانت تلقى الدعم من الأحزاب الحاكمة كما زعم.

ما يقوله الدبلوماسيون الأوروبيون داخل الغرف المغلقة، وخلال لقاءاتهم ببعض الصحافيين والنشطاء، أصبح اليوم يقال علناً. فالأطراف الدولية بما في ذلك الأوروبية، مقتنعة بوجود فساد مركّب عمّق الاختلالات الهيكلية، وزاد في انخرام التوازنات الاقتصادية والاجتماعية، وحال دون تساوي الفرص بين التونسيين. وهي مسائل معروفة، ويخشى أن تؤدي في غياب حلول جذرية، إلى انهيار الأوضاع ودخول تونس مرحلة الفوضى والوصول إلى محطة الدولة الفاشلة.

وفي هذا الإطار، يبرز مشروع اتفاق "الأليكا" الذي يتعلّق بدمج الاقتصاد التونسي في السوق الأوروبية، والذي يستوجب حواراً أوسع وأكثر جديةً، إذ من المهم أن يتصدّى المجتمع المدني خصوصاً، لأسلوب التسرّع والانخراط غير الناضج في مسار ستكون له تداعيات خطيرة على وحدة الاقتصاد التونسي، وسيؤثّر على القطاع الزراعي بشكل سلبي وخطير. لكن الجميع يعلمون أنّ هذه "الشراكة" تكاد تصبح حتمية، وأنّ المصلحة الوطنية تقتضي اتخاذ كل الإجراءات الضرورية والتسلّح بمطالب المعنيين بالأمر قبل خوض التجربة. المزارعون التونسيون يتخوفون من التداعيات السلبية لهذه الشراكة التونسية الأوروبية، وهم محقون في ذلك. لكن ما تجب مناقشته الآن ليس التصدي فقط لبعض التوصيات والسياسات المدمرة التي قد تترتب عن ذلك، وإنما أيضاً البحث عن الجانب الآخر من هذه الشراكة، للتأكّد من صحة ما توصّلت إليه نتائج الدراسة التي أشار إليها السفير الأوروبي في حواره، والتي أنجزها مركز بحوث نمساوي، مؤكدةً أنّ الاتفاقية "ستزيد بمعدل 1,5 نقطة النمو في الناتج المحلي التونسي في حالة التحرير الفوري للتجارة". في جميع الأحوال، لن تكون هناك أزمة سياسية بين تونس والاتحاد الأوروبي بسبب هذا الحوار المثير لبيرغاميني، فكلا الطرفين حريص على تعزيز الثقة بينهما.

المساهمون