معذبون منسيون... شهادات على جرائم الأسد في سجونه السرية

معذبون منسيون... شهادات على جرائم نظام الأسد في سجونه السرية

11 مايو 2019
صور لمعتقلين معذبين بسورية عرضت بواشنطن 2015 (صامويل كوروم/الأناضول)
+ الخط -
يحاول بشار الأسد التباهي بـ"انتصار" نظامه في سورية، وقمعه لثورة لم تمت منذ 2011، مستنداً بذلك في الأساس، إلى الدعم العسكري اللامحدود من قبل روسيا وإيران، إلا أنّ الاعتقالات التعسفية وسجون التعذيب السرية، تعتبر محوراً أساسياً لأساليبه في سحق المعارضين.

تزامناً مع عملياته العسكرية على الأرض، شنّ النظام السوري حرباً قاسية على المدنيين، وألقت قواته بمئات الآلاف في زنزانات قذرة حيث يتعرّضون لمختلف أساليب التعذيب التي عادة ما تؤدي إلى قتلهم. قلة يتمكّنون من النجاة من جحيم العذاب، إذا ما حالفهم الحظ بدفع أقاربهم مبالغ باهظة رشوة للقضاة أو الضباط، من أجل الإفراج عنهم.

قصص هؤلاء، كانت محور تقرير مطوّل، لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، اليوم السبت، سلّطت فيه الضوء على التعذيب في سجون الأسد السرية، يرويها ناجون باتوا لاجئين في الخارج، ويحاولون من خلال جمع ما أمكن من معلومات ووثائق، بالتعاون مع محامين وجمعيات حقوقية، محاسبة مسؤولي النظام على جرائمهم.

تشير الصحيفة إلى أنّ حوالى 14 ألف سوري قُتلوا "تحت التعذيب"، بينما يُعتبر حوالى 128 ألف سوري في عداد المغيبين قسرياً، ويُفترض أنّهم إما ماتوا أو لا يزالون رهن الاعتقال، وفقاً لتقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان.

وعلى الرغم من تلاشي اهتمام العالم بالقضية السورية، ومسارعة بلدان عدة ومنها دول عربية لتطبيع العلاقات مع نظام الأسد، زادت وتيرة الاعتقالات والتعذيب والإعدامات في سورية، بحسب ما تلفت الصحيفة.

ففي عام 2018، وثّقت الشبكة السورية 5607 عمليات اعتقال جديدة تصنّفها على أنّها "تعسفية"، مسجّلة أكثر من 100 عملية اعتقال أسبوعيا، بنسبة بلغت 25% أكثر من العام الذي سبقه.

ومع أنّ عمليات الاختطاف والقتل التي ارتكبها تنظيم "داعش" الإرهابي، لقيت مزيداً من الاهتمام في الغرب، وفق الصحيفة، إلا أنّ النظام السوري، تفوّق على التنظيم في عمليات الاعتقال في سورية مرات عديدة، إذ يمثل الاحتجاز الحكومي حوالى 90 في المائة من حالات الاختفاء التي سجلتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان.


وعلى الرغم من محاولة النظام السوري، طمس جرائمه في مقتل آلاف المدنيين تحت التعذيب الممنهج في سجونه السرية، كشفت الصحيفة، في تقريرها، عن مذكرات حكومية تُظهر أنّ مسؤولي النظام الذين يقدّمون تقارير مباشرة إلى الأسد أمروا بالاعتقالات الجماعية، وكانوا على علم تام بالفظائع.

ووجد محققون متخصصون بجرائم الحرب، في لجنة "العدالة والمساءلة الدولية" غير الربحية، مذكرات حكومية تأمر بقمع معارضين ومناقشة حالات وفاة في الاعتقال.

وتشير الصحيفة إلى أنّ المذكرات تم توقيعها من قبل كبار المسؤولين الأمنيين في النظام السوري، بمن فيهم أعضاء اللجنة المركزية لإدارة الأزمات، والتي تقدم تقاريرها مباشرة إلى الأسد.

وتشير مذكرة من رئيس المخابرات العسكرية رفيق شحادة، إلى أنّ المسؤولين يخشون الملاحقة القضائية في المستقبل، وتكشف أنّه يأمر الضباط بإبلاغه بجميع حالات الوفيات، واتخاذ خطوات لضمان "الحصانة القضائية" لمسؤولي الأمن.

في الأشهر الأخيرة، اعترف النظام السوري ضمنياً بأنّ مئات الأشخاص قد ماتوا في المعتقلات. وتحت ضغط من موسكو، أكد النظام مقتل ما لا يقل عن عدة مئات من الأشخاص المعتقلين، من خلال إصدار شهادات الوفاة، أو إدراجهم في عداد المفقودين في سجلات عائلاتهم.

يقول مؤسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان فاضل عبد الغني، لـ"نيويورك تايمز"، إنّ "هذه الخطوة من النظام بعثت برسالة واضحة للمواطنين: لقد فزنا، لقد ارتكبنا ذلك، ولن يعاقبنا أحد".

ولفتت الصحيفة إلى أنّه "لا يوجد أمل كبير في مساءلة كبار المسؤولين في أي وقت قريب"، لكنها في الوقت عينه تشير إلى أنّ "هناك حركة متنامية تسعى إلى تحقيق العدالة من خلال المحاكم الأوروبية".

وتذكّر في هذا السياق إلى أنّ النيابة العامة في كل من فرنسا وألمانيا، ألقت القبض على ثلاثة مسؤولين أمنيين سابقين، وأصدرت أوامر اعتقال دولية لمدير الأمن القومي السوري علي مملوك، ومدير المخابرات الجوية جميل حسن، وغيرهم على خلفية تورّطهم بتعذيب وقتل مواطنين أو مقيمين في سورية.

رحلة في معتقلات التعذيب

يستذكر مهنّد غبّاش، في حديثه لـ"نيويورك تايمز"، عندما اعتقل لأول مرة وكان آنذاك طالب حقوق في حلب وعمره 22 عاماً، كيف علّقه ضباط الأمن السوري من معصميه لساعات، وضربوه ضرباً مبرحاً، وصدموه بالكهرباء، ووضعوا مسدساً في فمه، خلال تعذيبه في أحد المعتقلات.

نجا غباش من التعذيب في 12 معتقلاً على الأقل، مما أهّله ليكون "مرشداً سياحياً" لرحلات التعذيب في معتقلات النظام، كما يقول للصحيفة.

في المعتقل كان غباش يحتفظ في جيبه، بأظافر قدميه التي سحبها معذبوه، وبقايا جلد تقشرت من رجليه بفعل الضرب المبرح، أملاً في أن يقدّمها يوماً ما كدليل على تعرّضه للتعذيب أمام القاضي، لكن المحققين عمدوا في أحد الأيام إلى أخذ سرواله.

يشير إلى أنّه اعترف مراراً وتكراراً بـ"جريمته الفعلية": تنظيم احتجاجات سلمية ضد النظام، لكّنه وتحت التعذيب المتواصل لمدة 12 يوماً، كتب اعترافاً خيالياً يقر فيه بالتخطيط لتفجير.

يروي أنّه تم نقله إلى سجن مزدحم في قاعدة المزة الجوية في العاصمة السورية دمشق، حيث قام الحراس بتعليقه عارياً هو وغيره من المعتقلين على سياج، وعمدوا إلى رشهم بالماء في الليالي الباردة.

ولترفيه زملائه على العشاء، كان ضابط النظام الذي يسمّي نفسه "هتلر"، يجبر المعتقلين على تمثيل أدوار الكلاب والحمير والقطط، بينما يعمد إلى ضرب أولئك الذين يفشلون في النباح أو النهيق.


يستذكر غباش كيف شاهد في مستشفى عسكري، ممرضة تصفع معتقلاً بترت ساقه بينما كان يتوسلها من أجل إعطائه مسكنات للألم، بينما أحصى في معتقل آخر، 19 من زملائه الذين ماتوا بسبب المرض والتعذيب والإهمال، خلال شهر واحد.

يقول غباش وقد بلغ الآن 31 سنة، بعدما نجا من فترة 19 شهراً رهن الاعتقال، حتى رُشِي قاضٍ لإطلاق سراحه: "كنت محظوظاً".

بعد إطلاق سراحه في عام 2013، توجه غباش إلى غازي عنتاب في تركيا، حيث يعمل في برنامج معني بحقوق المرأة وتقديم المساعدات للاجئين.

اغتصاب واعتداء جنسي

تشير الصحيفة إلى أنّ النساء والفتيات تعرّضن للاغتصاب والاعتداء الجنسي، في ما لا يقل عن 20 فرعاً من أجهزة المخابرات التابعة للنظام السوري، فيما تعرّض رجال وصبيان لذلك في 15 من هذه الفروع، حسبما ذكرت لجنة تابعة للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، العام الماضي.

تروي مريم خليف وهي أم لخمسة أطفال تبلغ من العمر 32 عاماً من مدينة حماة، لـ"نيويورك تايمز"، كيف تعرّضت للاغتصاب بشكل متكرر أثناء اعتقالها، على خلفية مساعدتها متظاهرين مصابين، وإيصالها إمدادات طبية إلى الثوار.

في سبتمبر/أيلول 2012، كما تروي مريم، جرّها رجال أمن من منزلها، إلى فرع أمن الدولة "320" في حماة الذي كان يترأسه العقيد سليمان جمعة.

تقول للصحيفة من منزلها الآن في ريحانلي بتركيا، حيث تعمل معلمة في مدرسة للاجئين، إنّ جمعة "كان يأكل الفستق وبيصق القشور علينا. لم يدع أي كلمة قذرة إلا واستخدمها معنا".

تتذكر كيف تم اعتقالها في زنزانة مساحتها ثلاثة أقدام مربعة مع ست نساء أخريات، كان الحراس يقومون بتعليقهن على الجدران وضربهن وتكسير أسنانهن. وتروي كيف شاهدت الحراس يجرون سجينة كانت تشتكي من الجوع إلى المرحاض وقاموا بغمر فمها بالبراز.



وتتابع "في منتصف الليل، كانوا يأخذون الفتيات الجميلات إلى العقيد سليمان للاغتصاب. أتذكر العقيد سليمان وعينيه الخضراوين".

وتشير إلى أنّه لم يكن هناك مرحاض في زنزانة النساء، والتي كانت تلطخها الدماء الناجمة عن الاغتصاب العنيف، بينما أجهضت كذلك إحدى المعتقلات.

وتلفت إلى أنّ أحد أبناء عمومتها تمكّن من عقد صفقة لإطلاق سراحها بعد شهر من اعتقالها، لتهرب في ما بعد إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة وقد فقدت ثلث وزنها.

تقول خليف إنّ عائلتها نبذتها بسبب موقفها السياسي وما اعتبروه "خسارتها للشرف"، بينما أرسل إليها شقيقها الموالي للنظام تهديدات بالقتل وطلّقها زوجها.

ولم تخفِ مريم شيئاً عن زوجها الجديد، وهو ثائر سابق، كما تقول، مضيفة: "يقول لي أنت وسام على صدري، أنت التاج على رأسي"، في إشارة منه إلى تقديرها كإحدى الناجيات من الاعتداء الجنسي في الحرب.

أسماء مكتوبة بالدم

تلفت الصحيفة إلى أنّ معتقلين كانوا يخاطرون بحياتهم لإخبار عائلاتهم عن محنتهم، وإيصال صوتهم إلى العالم، وتشير في هذا الإطار إلى أنّ معتقلين في زنزانة الفرقة الرابعة، كانوا يعمدون إلى استغلال أي وسيلة لتهريب أسماء كل معتقل يمكنهم التعرف إليه.

يقول أحدهم واسمه منصور العمري، الذي سُجن بسبب عمله في مجال حقوق الإنسان، لـ"نيويورك تايمز"، "رغم أننا كنا في الطابق الثالث تحت الأرض، كان لا يزال بإمكاننا مواصلة عملنا".

حاول نبيل شربجي وهو صحافي، كان من قبيل الصدفة أول من ألهم غباش للمشاركة في التظاهرات في عام 2011، ثم شاركه الزنزانة في المزة، كتابة الأسماء على قصاصات من القماش بواسطة معجون الطماطم.

غير أنّ الأسماء ظهرت باهتة للغاية، ولذلك استخدم شربجي أخيراً دماء المعتقلين، ممزوجة بالصدأ، على خرقة أخاطها زميله المعتقل على قميص العمري.

وتشير الصحيفة إلى أنّ الرسالة بالدم وصلت إلى العواصم الغربية، حيث تم عرض قصاصات القميص في متحف "الهولوكوست" في واشنطن، بينما كان شربجي لا يزال في المعتقل. بعد ذلك بعامين، أفاد معتقل أُفرج عنه، بأنّ شربجي تعرّض للضرب حتى الموت.

"لا تنسونا"

يقول مازن درويش، المعتقل السابق، والمحامي المتخصص بحقوق الإنسان، الذي يعمل حالياً في برلين ويساعد المدعين العامين في ملاحقة المسؤولين المتورطين بالجرائم، لـ"نيويورك تايمز"، إنّ "الملاحقة القضائية هي الأداة الوحيدة المتبقية لإنقاذ المعتقلين".

وقال "إنها تمنحك الطاقة لكنّها مسؤولية كبيرة في الوقت عينه. يمكن لهذه الوسيلة أن تنقذ روحاً. بعض أصدقائي، عندما أُفرج عني قالوا لي: رجاءً لا تنسونا".

في العام الماضي، صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على إنشاء وتمويل هيئة جديدة، هي الآلية الدولية المستقلة والنزيهة من أجل مركزية إعداد قضايا جرائم الحرب، لكن الهيئة ليس لديها القدرة على توجيه الاتهام أو أوامر الاعتقال لضالعين في جرائم كهذه.

المساهمون