قرار السيسي بزيادة الأجور: بين الدوافع السياسية وعجز التمويل

قرار السيسي بزيادة الأجور: بين الدوافع السياسية وعجز التمويل

02 ابريل 2019
يُتوقع أن تتسبب الزيادة بكساد في الأسواق(محمد الشاهد/فرانس برس)
+ الخط -

انشغل الرأي العام في مصر على نطاق واسع بقرار رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي بزيادة الحد الأدنى لأجور العاملين بالدولة إلى ألفي جنيه (نحو 115 دولاراً) من أول يوليو/تموز المقبل، وإعلان وزارة المالية أن تكلفة هذا القرار ستتخطى 30 مليار جنيه (نحو مليار و732 مليون دولار)، بجانب 28.5 مليار جنيه (نحو مليار و654 مليون دولار) لتمويل زيادات المعاشات الاجتماعية بحد أدنى 150 جنيهاً، بالإضافة إلى مليار جنيه لتمويل إضافة 100 ألف أسرة لبرنامج المعاشات "تكافل وكرامة".
وهناك العديد من المؤشرات التي تؤكد أن قرار رفع الأجور يتضمن شقاً سياسياً واضحاً هو التمهيد لاستفتاء التعديلات الدستورية الجديدة، المرجح إجراؤه في النصف الثاني من شهر إبريل/نيسان الحالي، أبرزها أن الإعلان عن مثل هذه القرارات التي تخص الموظفين والموازنة الجديدة كان يتمّ باستمرار مطلع شهر مايو/أيار بمناسبة عيد العمال، أو بالقرب من انتهاء السنة المالية في نهاية يونيو/حزيران من كل عام، لكن السيسي فضّل هذه المرة الإعلان في مناسبة مصطنعة هي "يوم الاحتفال بالمرأة المصرية" والذي كان من المقرر الاحتفال به قبل منتصف مارس/آذار الماضي، ومن دون أي مقدمات عدا الاستعداد للاستفتاء الدستوري.

والمؤشر الثاني والأهم أن العاملين في الدولة الذين سيستفيدون بشكل أساسي من هذه الزيادة، هم العاملون المدنيون، على درجات دائمة والمتعاقَد معهم بمكافآت شاملة مموّلة من الخزانة العامة في كل من الوزارات والمصالح والأجهزة والهيئات العامة الخدمية ووحدات الإدارة المحلية، غير المخاطبين بقوانين أو لوائح خاصة. هذه الفئة من العاملين في الدولة تحديداً هي التي كان السيسي يضع، منذ صعد إلى سدة الحكم، نصب عينيه تخفيض عددهم بنسبة كبيرة، وما زال يستهدفهم بقوانين ولوائح تؤدي إلى الفصل والعزل والحرمان من المعاش، كالكشوف المفاجئة لتعاطي المخدرات والمسكرات، والتخيير بين الاستمرار في الإعارات أو العودة لمباشرة العمل في مصر، والإجبار على المعاش المبكر، والتحريات الأمنية ومراقبة الآراء الشخصية، وغيرها من القواعد الجديدة التي تضرر منها آلاف الأطباء الحكوميين والمعلمين على وجه الخصوص.

أما المؤشر الثالث على البُعد السياسي لهذا القرار، فهو أنه مرشح للتسبّب في موجة غير مسبوقة من التضخّم والكساد الاقتصاديَين، فمؤشرات الاقتصاد المصري لا تتحسن بما يسمح بزيادة إنفاق الدولة على الأجور، خصوصاً أن السلطة ما زالت تتحدث عن ضعف مردود إجراءات رفع الدعم عن الطاقة والمحروقات، والتي تسبّبت في انخفاض مستوى معيشة قطاع كبير من المواطنين، فضلاً عن عدم وصول سعر الجنيه مقابل الدولار إلى المستوى الذي وعد به السيسي عندما قرر تعويم الجنيه نهاية 2016. وبالتالي، فإن المبالغ المالية المقرر تمويل قرارات السيسي بها ستضيف أعباءً على كاهل الدولة، وليس من المحدد حتى الآن ما إذا كانت ستُموّل ذاتياً أم بطباعة المزيد من العملات الورقية، أم بالاقتراض أم بفرض ضرائب ورسوم سيكون بعضها بطبيعة الحال على المستفيدين من زيادة المرتبات، وأكثرها على أصحاب القطاع الخاص والعاملين فيه الذين لن يستفيدوا من قرارات السيسي على الإطلاق.

والجدير بالملاحظة أن وزير التموين الحالي علي المصيلحي، كان قد أعلن في مايو الماضي عدم إصدار بطاقات تموين جديدة للمواطنين الذين يتقاضون راتباً من الحكومة أو غيرها يزيد على 1500 جنيه، وبدأ منذ شهر حذف الآلاف من المواطنين حاملي البطاقات بحجة أنهم يتقاضون رواتب تزيد على ألفي جنيه وبحسب إنفاقهم الشخصي على بنود الكهرباء والبنزين والضرائب، وهو ما يجعل من المرجح مستقبلاً حذف عدد غير معلوم من موظفي الحكومة من قوائم مستحقي التموين المدعوم على أساس زيادة مرتباتهم بالنسب الجديدة التي أعلنها السيسي وفصّلها بيان لوزير المالية محمد معيط. ووفقاً لذلك البيان، إن الحد الأدنى لأجور العاملين المدنيين في الدولة سيتحرك من 1200 جنيه إلى ألفي جنيه شهرياً، بنسبة ارتفاع 66 في المائة، فيصل راتب موظف الدرجة الممتازة إلى 7 آلاف جنيه وموظف الدرجة السادسة إلى 2150 جنيهاً، وبينهما تتدرج مرتبات باقي الدرجات.

لكن هذه الأرقام على المستويين المالي والقانوني تثير تساؤلات أعمق من الشق السياسي للقرار، تتعلق بحجم استفادة المواطنين فعلياً من هذه الزيادة، ومدى معقولية الأرقام التي أعلنتها الحكومة، وكذلك مصداقية القول إن الحد الأدنى لأجور العاملين حالياً هو 1200 جنيه.
ولفهم هذا الملف، تنبغي العودة إلى ما كان الوضع عليه قبل 30 مارس/آذار 2010، وهو التاريخ الذي أصدرت فيه محكمة القضاء الإداري في القاهرة أول حكم قضائي بإلزام الحكومة بوضع حد أدنى للأجور بقرار من المجلس القومي للأجور الذي لم يضع حداً أدنى منذ إنشائه عام 2003 برئاسة وزير التخطيط وفقاً للمادة 34 من قانون العمل.


ولم تحدد المحكمة رقماً لهذا الحد الأدنى، وكلّفت الحكومة بوضعه، فتجاهل الرئيس المخلوع حسني مبارك تنفيذ الحكم، على الرغم من أن طموح العاملين المدنيين في الدولة في تلك الفترة كان يدور في فلك مبلغ 1200 جنيه فقط، وكان بعض الموظفين الحكوميين في ذلك الوقت يتقاضون شهرياً مبالغ لا تزيد على 400 جنيه.
وفي عام 2011، بعد إطاحة مبارك، وفي محاولة للالتفاف على مطالب الموظفين بوضع حد أدنى للأجور وتقليص الفوارق المالية مع الوظائف القيادية، في ظل انتشار المعلومات عن قضايا الفساد التي ظهرت لرموز نظام مبارك، أصدر المجلس العسكري الحاكم مرسوماً بقانون لوضع حد أقصى للمداخيل وربطه بالحد الأدنى للمداخيل، بأن يكون 35 مثلاً، أخذاً في الاعتبار أن المرسوم استخدم تعبير "الدخل" بمفهومه العام والشامل للأجور الثابتة والمتغيرة كالعلاوات والبدلات والحوافز. ولم يحدد هذا المرسوم 242 لسنة 2011 أو قرار رئيس الوزراء المتضمّن القواعد التنفيذية له 322 لسنة 2012، أي حد أدنى للدخل في أي جهة مُخاطَبة بهذا القانون.

كما أن قانون الحد الأقصى أصبح يسري على جهات بعيدة كل البُعد عن الطبيعة الإدارية المدنية ولها قوانينها الخاصة التي تنظّمها، كالهيئات القضائية والجامعات والشرطة وقناة السويس والبنك المركزي المصري والبنوك العامة وأعضاء السلك الدبلوماسي والقنصلي. وبالتالي، يتضح أنه حتى عام 2012 ظل حكم الحد الأدنى للأجور معطلاً وغير منفذ، حتى جاءت حكومة حازم الببلاوي في أعقاب انقلاب يوليو/تموز 2013، والتي كان من بين أعضائها عدد من أعضاء الحزب "المصري الديمقراطي الاجتماعي"، فأعلنت في يناير/كانون الثاني 2014 زيادة الحد الأدنى للعاملين المدنيين في الدولة إلى 1200 جنيه، أي بعد 4 سنوات تقريباً من مطالبة الموظفين بالرقم نفسه.

لكن المفاجأة أن القرار التنفيذي لزيادة المرتبات لم يُعبّر عن فكرة الحد الأدنى، بل نصّ على قواعد "زيادة المرتبات الحالية" من دون الحديث عن التزام الحكومة بحد أدنى للأجور، وتضمّنت قواعد الصرف تدريجاً تنازلياً للحد الأقصى للعلاوة المستحقة شهرياً من الدرجة الأقل إلى الأعلى، فكان الحد الأقصى لفئة العلاوة للدرجة السادسة 400 جنيه و70 جنيهاً لمتوسط المزايا التأمينية، بينما كان الحد الأقصى لعلاوة وكيل أول الوزارة 130 جنيهاً و20 جنيهاً متوسطاً لمزاياه التأمينية، في محاولة لتقليل الفوارق بين الأجور، وهو ما انعكس بالفعل على انخفاض نسبة أعلى راتب إلى أقل راتب من 293 في المائة إلى نحو 232 في المائة في قطاع التعليم، ومن 491 في المائة إلى 311 في المائة في باقي القطاعات.

ومنذ ذلك الحين، أي لمدة أكثر من 5 سنوات، أبرمت الحكومة عقود توظيف مؤقتة مع آلاف المواطنين في قطاعات مختلفة، خصوصاً في التعليم والنقل، كانوا يحصلون على مبالغ مالية أقل من 1200 جنيه، باعتبار أن الحد الأدنى للأجور غير معلن وغير رسمي، بل إن أحدث عملية تعاقد جماعية، لم تتم بعد، مع المعلمين المؤقتين، كانت تتضمن رواتب لا تتعدى 1200 جنيه قبل اقتطاع الرسوم.
وبالتالي، إن الأرقام التي أعلنها السيسي وحدد على أساسها الزيادة الجديدة تفتقر إلى الواقعية، ولا تجد أي وثيقة حكومية تدعمها، فالدولة لم تعلن أبداً من قبل أي حد أدنى للأجور. كما أن الزيادة في 2014 والقرار الجديد لا يلتزم كلاهما بالأسعار العالمية أو متوسط سعر صرف الدولار في السوق المصرية. ولم يأخذ قرار السيسي في الاعتبار عدالة التوزيع وحدود الفقر العالمية (حوالي 8 دولارات يومياً لأسرة من 4 أفراد) والذي إذا تم الاحتساب على أساسه فإنه يجب أن يصل دخل الأسرة التي تعيش على الكفاف إلى ما يتجاوز 4332 جنيهاً شهرياً بعد تعويم الجنيه.

فضلاً عن أن القرار الذي سيستفيد منه 5 ملايين موظف تقريباً، لن ينعكس بالإيجاب على موظفي قطاع الأعمال العام الخاضع لقوانين الاستثمار، والذين تتسع لديهم الفجوة بين أعلى وأدنى المرتبات بشكل واضح، لاشتمال هذا القطاع نصف الحكومي (الذي تم إعفاؤه بأحكام قضائية من قانون الحد الأقصى للأجور) على شركات قابضة وشركات تابعة تعتمد على الإداريين المحترفين وممثلي حملة الأسهم الذين يحصدون نسباً عالية من الأرباح من دون حد أقصى، واشتمال الشركات التابعة على مصانع ووحدات منتجة صغيرة تعتمد على العمال الذين لن يجدوا مردوداً من قرار السيسي.