الجزائر تعود إلى العالم والتاريخ

الجزائر تعود إلى العالم والتاريخ

06 مارس 2019
نبذ الجزائريون انقساماتهم واتحدوا معاً (رياض كرامدي/فرانس برس)
+ الخط -

لم يحدث في التاريخ السياسي للجزائر انبثاق حالة إجماع وطني تخلى فيها الجزائريون عن العصبية والقبلية والمناطقية، وانتفت فيها الأيديولوجيا والذات الهوياتية، وتأخر عامل الفئوية وتقرر فيها استجماع الطاقات لصالح قضية مركزية ذات صلة بإعادة البلاد إلى سياق التاريخ واستعادة الدولة من قوى الاستعمار والهيمنة، إلا في استحقاقين تاريخيين: الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 و22 فبراير/ شباط 2019.

خلال العقود الثلاثة الماضية استقال الشعب الجزائري من السياسة، بعد صدمة العشرية السوداء (1991 ــ 2002) القاسية على الجزائريين، والتي أعقبت فترة من الربيع السياسي بعد أكتوبر/ تشرين الأول 1988. انزوى الجزائريون على أنفسهم وقد خسروا ثلاثة مطالب: الخبز والأمن والديمقراطية. وعند إعادة ترتيب هذه الأولويات، بدا للجزائريين أن الأمن أهم من الخبز، والخبز أهم من الديمقراطية.

بعد 30 سنة اكتشف الجزائريون أن هذا الترتيب خاطئ وغير منهجي، ولا يليق بشعب عظيم سابق للشعوب العربية في اكتشاف الديمقراطية، وبلد دفع كلفة باهظة مرتين لأجل تحرير الأرض والإنسان وإعادة الجزائر إلى التاريخ والجغرافيا. كان الخطأ في أن الخبز الذي يأتي من غير ديمقراطية، هو خبز بلا كرامة، عدا أنه مقتطع من لحم الشعب نفسه ونفطه، والأمن الذي لا يتأسس على ديمقراطية حقة ويشعر فيه المواطن بالخوف وتجتزأ منه الحريات ويمنع فيه الأفراد من حق التظاهر والتعبير والتفكير، هو أمن بوليسي يتولد منه التعسف والفساد واستغلال المؤسسة الأمنية والقضائية.

وحين كان ترتيب المطالب خاطئاً، أمكن السلطة الجزائرية أن تفاوض كل فئة ومنطقة بشأن مطالبها على حدة. تفاوضت مع منطقة القبائل على مطالبها الهوياتية المتعلقة باللغة والهوية الأمازيغية، وتفاوضت مع منطقة عين صالح على مطالبها البيئية المتعلقة برفض استغلال الغاز الصخري، وتفاوضت مع المطالب الفئوية أيضاً: المعلمين على مطالب الأجور، ومع الحرس البلدي على التقاعد، ومع العسكريين المتقاعدين على منحة العطب ومكافحة الإرهاب، ومع الأطباء على السكن وظروف العمل، ومع سكان الأحياء الفقيرة على السكن، ومع الطلاب على المطعم والنقل الجامعي، وهكذا دواليك.

وفي لحظة أُثقل فيها على الشعب وتراكم الفساد والقمع والاحتكار، تخلى الجزائريون، عرباً وأمازيغ وأفارقة، إسلاميين وعلمانيين ويساريين، تقدميين ومحافظين، أغنياء وفقراء، طلاباً وعمالاً ومزارعين وصحافيين ومحامين وموظفين وعاطلين من العمل، في لحظة تفاعل بين كيمياء التاريخ والعنفوان الثوري، عن المطالب الفئوية لصالح قضية مركزية، وهي منع المغامرة بالبلد واستعادة الجزائر من مجموعة حاكمة تحللت من الأخلاق واللباقة السياسية. وحلت لحظة القطيعة، وتصالح الجزائريون مع أنفسهم ومع الشارع، وقرروا تصحيح المسار وإعادة ترتيب أولويات الديمقراطية والأمن والخبز. صار الشارع بيت الجزائريين، وسقف مطالبهم أن ترحل العصبة الحاكمة والعصابة المستفيدة ومعصوبو الأعين الذين لن يكتبهم التاريخ في الدفاتر ولن يراهم إلا في المزبلة.