إفشال قمة هانوي: ابحث عن حسابات ترامب الداخلية

إفشال قمة هانوي: ابحث عن حسابات ترامب الداخلية

03 مارس 2019
يلعب ترامب الآن ورقة هدم صدقية الخصم (Getty)
+ الخط -


"كل السياسات محلية"، قالها رئيس مجلس النواب الأميركي في ثمانينيات القرن الماضي، تيب أونيل. في اعتقاده أن مواقف وتوجهات الرؤساء والسياسيين تحكمها حساباتهم المحلية الانتخابية. مقولة تتردد في واشنطن منذ ذلك الوقت، وثبتت صحتها إلى حد بعيد.

وهذه الأيام تعود هذه المقولة لتُثبت صحتها بعد فشل قمة هانوي بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون. الاعتقاد الذي أشاعه ترامب يفيد بأن التباين حول المقايضة أطاح باحتمال عقد صفقة مع كيم جونغ أون، ولذلك انهارت القمة منذ البداية. زعم بأن مطالبة الزعيم الكوري الشمالي برفع كافة العقوبات عن بلاده مقابل تفكيك موقع تصنيع نووي رئيسي، لم يترك أمامه سوى الانسحاب المبكر من القمة لأنه لا يقوى على تلبية مثل هذا الطلب. لكن مسارعة وزير خارجية كوريا الشمالية ري يونغ هو، إلى عقد مؤتمر صحافي على غير العادة، لنفي صحة زعم ترامب والتشديد على أن بلاده طالبت فقط برفع "جزئي" للعقوبات، فتح باب التساؤلات حول حقيقة الأسباب والدواعي الفعلية التي دفعت القمة نحو الفشل.

السبب الحقيقي للفشل أو للإفشال مجهول. ليس في واشنطن من يجزم بشأنه. هناك تفسيرات حوله، قد تكون كلها أو بعضها من العوامل التي ساهمت مباشرة أو غير مباشرة في الفشل، لكنها لا تفسر الصيغة المفاجئة والسريعة لانهيار القمة، والتي قد تكون على الأرجح نتاج ظروف مستجدة ضاغطة. كثيرون يرون أن العلة الأساسية كانت في مقاربة ترامب، إذ إن تعويله على "العلاقة الشخصية" مع الزعيم الكوري الشمالي لمعالجة ملف استراتيجي بهذا الحجم والأهمية، كانت "ساذجة" في أحسن أحوالها ومحكومة بأن تصطدم بالحقائق على الأرض التي كان يجب التعامل معها "من تحت إلى فوق" وليس العكس، ومن خلال الاختصاصيين القادرين على تفكيك تعقيداتها بالتدريج، كما حصل في الملف النووي الإيراني. وربط آخرون الفشل بعدة أسباب، منها غياب تحالف دولي وازن مشارك في المفاوضات، إضافة إلى الخلاف داخل الإدارة بين المتشددين مثل جون بولتون وبين المحبذين للمرونة وانتزاع التنازلات بالتقسيط مثل المبعوث الخاص إلى كوريا ستيفن بيغون. وثمة من يعتقد بأن ترامب نأى عن خيار تفكيك العقوبات على دفعات، حتى لا يؤخذ عليه أنه كرر أسلوب سلفه باراك أوباما في الملف النووي الإيراني، والذي سبق له أن انتقده بقوة.



ربما كانت هذه الاعتبارات واردة في حسابات الرئيس الأميركي، لكن لا يبدو أنها كانت كافية لحمله على الإطاحة بقمة طالما اعتبرها واعدة، ولو بقدر متواضع يحقق له مكسباً هو بحاجة إليه في ظل ظروفه الداخلية الخانقة. المفارقة أن هذه الظروف بالذات هي التي جعلته على الأرجح، ينسحب وبسرعة من القمة، فما إن غادر إلى فيتنام حتى انهالت فضائح التحقيقات ضده في الكونغرس، مع تنامي الحديث عن احتمال المباشرة بإجراءات "العزل"، وهذه المرة بصورة جدّية على ما يبدو. وكانت شهادة محاميه السابق مايكل كوهين، أمام ثلاث لجان في الكونغرس وعلى مدى الأيام الثلاثة الأخيرة وما كشفت عنه من مخالفات وتزوير وأسماء، فجّرت موجة التحقيقات الجديدة التي ستقوم بها عدة لجان في مجلس النواب. ومن المتوقع أن تنظر هذه اللجان في أوضاعه المالية السابقة وبياناته الضريبية ومدى علمه بملابسات الوثائق التي نشرها موقع "ويكيليكس"، التي احتوت على معلومات مؤذية للمرشحة للانتخابات الرئاسية في العام 2016 هيلاري كلينتون.

والآن أضيف ملف آخر للتحقيق فيه، يتعلق بما تم الكشف عنه قبل يومين من أن ترامب تدخل وأصرّ، خلافاً لنفيه، على وجوب منح صهره جاريد كوشنر "تصريحاً أمنياً" يخوله الاطلاع على كافة وأدق أسرار الأمن القومي الأميركي. نكرانه مخالفة تعزز المطالبة بمباشرة إجراءات "العزل"، حسب أستاذ القانون الدستوري في جامعة هارفارد لورانس ترايب. وهذه نغمة انتعشت أخيراً بالترافق مع نوع من التململ والتذمر، ولو الخافت، من تصرفات الرئيس، في صفوف الجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ، وهو ما انعكس في تصويت مجلس النواب، الأسبوع الماضي، على مشروع قرار لإبطال إعلان حالة الطوارئ. ومن المقرر أن يصوت مجلس الشيوخ على هذا المشروع بأكثرية تضم على الأقل أربعة جمهوريين، مع أن الرئيس هدد باستخدام حق النقض (الفيتو) ضده. كما طُرح مشروع قرار آخر لشجب موقف ترامب المتهاون مع كيم جونغ أون في وفاة الطالب الأميركي أوتو وارمبير، الذي احتجزته كوريا الشمالية لمدة 17 شهراً. والتصويت الجمهوري المتزايد لصالح هذه القرارات، وما يؤشر إليه من احتمالات افتراق عن الرئيس، لا بدّ أنه كان بمثابة جرس إنذار دفع ترامب، على ما يبدو للتضحية بأي توافق مع كيم جونغ أون، إذ يعترض الجمهوريون والمحافظون أصلاً على طريقة تعامله مع الزعيم الكوري الشمالي، ناهيك بالثقة به. ويلعب ترامب الآن ورقة هدم صدقية الخصم واتهام الديمقراطيين بالترويج للاشتراكية، علّ التخويف من هذا الأمر يحول الأنظار ويخفف من حدة التداعي. لكن جرافات التحقيقات تواصل سيرها بكل طاقتها وحفرياتها تهدد بالأدهى.