تحركات حفتر بين سرت وطرابلس: مناورات سياسية وعسكرية

تحركات حفتر بين سرت وطرابلس: مناورات سياسية وعسكرية

13 مارس 2019
تجوّلت قوات حفتر بالقرب من بوابات سرت (فرانس برس)
+ الخط -
تؤكد التطورات الميدانية المتسارعة في ليبيا أنه لا يمكن توقع نوعية المواقف التي يخرج بها اللواء المتقاعد خليفة حفتر أو معرفة ما يضمره مسبقاً، في ظل طموحه الدائم إلى التفرّد في الحكم. وعلى الرغم من أن مواقفه المعلنة في الآونة الأخيرة توحي بتماهيه مع الجهود المحلية والدولية لإرساء السلام من خلال مبادرات الحل السياسي، آخرها اتفاقه في أبوظبي مع رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فائز السراج على "ضرورة إنهاء المرحلة الانتقالية من خلال انتخابات عامة"، وفق ما أعلنت عنه البعثة الأممية، إلا أن حروب حفتر في الجنوب وتحركات عسكرية مشبوهة أخرى حول طرابلس، تثير مخاوف من أن تجاوبه العلني مع محاولات الحل السياسي ليس أكثر من مناورة بانتظار الوقت المناسب لتحقيق أهدافه.

آخر ما قام به حفتر تمثّل في تحريك فصائله المسلحة بالقرب من تخوم مدينة سرت، الواقعة شمالي وسط ليبيا وتجاوزه لخط التماس مع قوات البنيان المرصوص، التابعة لحكومة الوفاق، والمحدد سابقاً بمنطقة التسعين كيلو شرق المدينة، ما يعني وقوفه وجهاً لوجه مع مسلحي مصراته. كما رُصدت تحركات غامضة أخرى في أكثر من موقع غرب البلاد.

وأظهرت مقاطع فيديو نشرتها صفحات مقربة من قوات حفتر مسلحيه يتجولون بالقرب من بوابات شرق سرت. كذلك أظهرت المقاطع سرية استطلاع وصلت بالفعل إلى جزيرة بوهادي القريبة من قلب سرت. لكن المتحدث باسم قوة حماية وتأمين سرت (إحدى فصائل قوات البنيان المرصوص المكلفة بتأمين سرت) التابعة لحكومة الوفاق، سالم الأميل، أكد أن "بوابة شرق المدينة تحت سيطرة قوات حماية وتأمين سرت"، مشيراً إلى أن "دوريات استطلاع تجوب المنطقة لمتابعة أي تحركات بعد أن تم رصد بعضها يوم السبت الماضي".

وقال الأميل، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "التحركات التي تم رصدها السبت الماضي كانت لقوات حفتر المرابطة في منطقة التسعين كيلو، شرق المدينة، لكنها لم تكن سوى سرايا استطلاع لم تُعرف أهدافها". وأكد في الوقت نفسه استعداد قوات سرت لصد أي هجوم على المدينة. وكانت قوة حماية وتأمين سرت، قد أعلنت مساء الأحد الماضي، حالة النفير والطوارئ، وطالبت كافة وحداتها الاحتياطية بالالتحاق بمراكزها، على خلفية تقدم قوات تابعة لـ"عملية الكرامة" جنوب مدينة سرت، وفق بيان نشرته القوة عبر صفحتها الرسمية.

وعلى الرغم من تطمينات الأميل، إلا أن المخاوف تبقى قائمة من أن حفتر الذي يطمح بالوصول إلى طرابلس يحرص على ترك تهديد في منطقة سرت ومحيطها، يُبقي فصائل مسلحة قوية في الغرب الليبي منشغلة وبعيدة عن تحركه من اتجاهات أخرى نحو طرابلس، حيث توجد قوات موالية له أعلنت عن نفسها في مناطق العجيلات (80 كيلومتراً غرب طرابلس) وصرمان (70 كيلومتراً غرب طرابلس) وقاعدة الوطية (140 كيلومتراً جنوب غربي طرابلس). ويتعزز هذا الاعتقاد بعد إعلان غرفة عمليات سرت الكبرى التابعة لحفتر، مساء الاثنين، عن "عودة الوحدات العسكرية المتمركزة في منطقة الهلال النفطي لمواقعها بعد مشاركتها في العمليات العسكرية في الجنوب".

ولم يخفِ إعلان الغرفة وقوفها وراء عمليات الاستطلاع التي وصلت إلى مشارف سرت الشرقية، وهو ما رأى فيه الخبير الأمني، محيي الدين زكري، في حديث لـ"العربي الجديد"، "جزءاً من خطة شاملة لتحييد قوة مصراته التي تعتبر أمن سرت مهماً بالنسبة لها". وأشار إلى أن "قوات مصراته استوقفها بالفعل تهديد حفتر، فأطلقت طلعات جوية عدة بواسطة الطيران المرابط في معسكراتها". وعلى الرغم من تأكيد زكري معرفة قادة مصراته بأن "سرت غير مهمة بالنسبة لحفتر، إلا أنهم لا يستبعدون تقدم قواته باتجاهها لتهديدها، وبالتالي عليهم تركيز وجودهم في سرت لصدّ أي تقدم".

ويبدو أن الواقع الجغرافي لموقع سرت يؤكد ما يذهب إليه زكري؛ إذ تمتلك سرت أهمية استراتيجية نتيجة وقوعها في منتصف المسافة على الساحل الليبي، وإشرافها على شبكة طرقات صحراوية تربطها بشكل جيد بمناطق جنوب طرابلس، تحديداً المناطق التي تقع فيها القواعد العسكرية الأهم، كالجفرة (420 كيلومتراً جنوب غربي طرابلس) مروراً بالشمال الغربي وصولاً إلى قاعدة الوطية (140 كيلومتراً جنوب غربي طرابلس) وإمكان ربطهما بقاعدة القرضابية بسرت. ويمكن أن توفّر هذه القواعد طوقاً لتهديد طرابلس جواً. لكن في ذات الوقت يبدو أن المسافة الفاصلة بين سرت وطرابلس، التي تزيد عن 500 كيلومتر بعضها صحراء وبعضها قرى ومدن متكاثفة، يزيد عددها عن 10 مناطق، ستشكّل عائقاً أمام أي محاولة تقدم بري. فأغلب مسلّحي هذه المناطق يتبنّون موقفاً مشتركاً مع مسلحي مصراته الرافضين لوجود حفتر عسكرياً. وأكدت على ذلك البيانات التي صدرت كرد فعل على تحركات حفتر المشبوهة في الغرب. كما ذكر مجلس حكماء وأعيان مصراته أن "شعار الإرهاب الذي يرفعه حفتر مجرد حجة لدخول المدن وتدميرها وسرقة وحرق البيوت وتهجير ساكنيها، بالإضافة إلى التصفية الميدانية". بل ذهب أبعد من ذلك بوصفه حفتر صراحة بأنه "مجرم حرب". وشدّد البيان على "ضرورة الاستعداد لصدّ أي تقدم باتجاه سرت ورفض التحركات الاستفزازية حولها".

وجاء بيان قادة مصراته متزامناً مع بيان لقاء جمع قادة عسكريين ومدنيين ينتمون لمدن عدة غرب البلاد، عُقد في زوارة غرب طرابلس الأسبوع الماضي، شدّد على رفض وجود حفتر العسكري في الغرب الليبي. واعتبر المجتمعون أن "القوات الموجودة بالغرب الليبي أكثر تنظيماً وأقرب لمسمى الجيش. بالتالي يمكنها فرض الأمن ومحاربة الإرهاب، كما حدث في سرت أثناء حرب البنيان المرصوص ضد تنظيم داعش". وفي تحذير واضح لحفتر وداعميه، اتفق البيانان على أن "التقدم العسكري لقواته باتجاه الغرب سيجرّ الوطن إلى شلّال من الدماء وحرب أهلية طويلة المدى ستأكل الأخضر واليابس".

وجاء بيان زوارة الداعم لبيان قادة مصراته، رداً على تحركات أخرى في غرب طرابلس، وتحديداً في العجيلات وصرمان، اللتين أُعلن فيهما عن وجود فصائل مسلحة يقودها ضابط موالون لحفتر. كما أن قاعدة الوطية استضافت الأحد الماضي آمر غرفة "عمليات الكرامة" التابعة لحفتر، اللواء عبد السلام الحاسي، الذي بحث "مع ضباط المنطقة الغربية مستجدات المرحلة المقبلة في المنطقة هناك"، بحسب منشور للمكتب الإعلامي لقيادة قوات حفتر.


غموض تحركات حفتر العسكرية في أكثر من موقع في غرب البلاد يوازيه غموض سياسي وأمني في طرابلس. فحكومة السراج لم تعلن عن أي موقف من تلك التحركات المعلنة لحفتر، باستثناء تأكيد السراج على "رفض عسكرة الدولة". كما أن مليشيات طرابلس التي تخشى من تداعيات خطة الترتيبات الأمنية عليها، وترى فيها محاولة من حكومة الوفاق لتقليص نفوذها يبدو موقفها غامضاً، وسط تزايد التسريبات عن اتصالات يجريها حفتر مع قادتها. ويعزز هذا الأمر من اعتقاد مراقبين بأن خطط حفتر لا تعوّل على الحل العسكري في المرحلة الأخيرة من مساعيه للوصول إلى طرابلس. وكانت مصادر عدة قد أكدت وصول تحذيرات غربية لحفتر بعدم الاقتراب من طرابلس عسكرياً.

وما يدعم هذا الرأي أن حفتر يدرك صعوبة التقدم العسكري لقواته تجاه طرابلس، نظراً لمعرفته بكثرة معارضيه المسلحين إضافة لاستحالة إمداد معاركه في الغرب بالقوات اللازمة من معسكراته التي لا تزال بعيدة. كما أن فتح أكثر من جبهة حول طرابلس يقلّل من فرص انتصاره بسبب وجود مؤيديه في مدن منقسمة على نفسها. وصحيح أن مؤيدين له يوجدون في الزنتان الجبلية وصرمان غرب طرابلس، إلا أن فيهما أيضاً من يعارضه بقوة.

بالتالي فإن الوصول إلى طرابلس عسكرياً أمر صعب على حفتر، لا سيما أن العاصمة محصّنة بنطاق جغرافي يتضمن مدناً تعارضه فصائلها، وتحتاج إلى محاولة إزاحتها من قبل حفتر لوقت طويل يدخله في ما يشبه حرب المدن. كما أن أي تطور من هذا القبيل من شأنه أن يوقع مؤيديه الدوليين والإقليميين في حرج مماثل لما حدث في بنغازي سابقاً، والتي استغرقت حرب السيطرة عليها لوحدها ثلاث سنين متتالية.

في هذا السياق، كشفت مصادر مقرّبة من حكومة الوفاق لـ"العربي الجديد" في وقت سابق، عن "جانب آخر قد يُمكّن حفتر من الوصول إلى طرابلس بعيداً عن لغة السلاح، تحديداً عبر صفقة تجرى في الخفاء تديرها دول الخلاف حول الملف الليبي، تحديداً فرنسا وإيطاليا، من دون اتضاح ملامح تلك الصفقة وضماناتها بالنسبة لتلك الدول".

وفي تأكيد لما سرّبته تلك المصادر كشف المستشار السياسي السابق للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، أشرف الشح، تفاصيل تلك الصفقة، في تغريدة على حسابه على "تويتر"، إذ ذكر أنها "أُبرمت أثناء لقاء حفتر بالسرّاج في أبوظبي نهاية الشهر الماضي". وأوضح أنها "تضمّنت تقاسماً للسلطة بين الرجلين يهدف إلى إعادة تشكيل المجلس الرئاسي الحالي مع بقاء السرّاج وانضمام حفتر إلى عضويته، على أن يُعيّن العضو الثالث من معارضي حفتر وتصدر قرارته بالإجماع". وتابع الشح قائلاً إن "حفتر سيتولى رئاسة مجلس أمني وطني، مكوّن من شخصيات عسكرية بارزة أغلبها موالٍ له". ومخافة أن يتعرّض الاتفاق، الذي لم تعلن تفاصيله بعد بشكل رسمي للطعن والمعارضة، قال الشح إن "الملتقى الوطني الجامع سيعقد في 26 مارس/ آذار الحالي برعاية أممية في مدينة غدامس، لتمرير صفقة أبوظبي بعرضها على المشاركين في الملتقى". وأكد أن "مرور الصفقة من خلال الملتقى لن يتوقف، بل ستذهب إلى تونس للحصول على مباركة القمة العربية المنتظر عقدها هناك ومنها إلى مجلس الأمن، من دون تحديد كيفية إتمام ذلك وما إذا كانت توجد مشاورات لإدخال التوافق كبند على جدول أعمال القمة".