احتجاجات السودان تدخل شهرها الثالث: صعوبة تفكيك الدولة العميقة

احتجاجات السودان تدخل شهرها الثالث: صعوبة تفكيك الدولة العميقة

22 فبراير 2019
ترى المعارضة أن أسباب استمرار الاحتجاجات قائمة (فرانس برس)
+ الخط -
ربما يكون اعتقال السلطات السودانية، ظهر أمس الخميس، كل قيادات المعارضة السياسية والنقابية تقريباً، في وقت متزامن، في الخرطوم، أكثر خطوة تعبر عن شعور النظام بفائض القوة مع دخول الاحتجاجات الشعبية في السودان المناوئة للرئيس عمر البشير ولنظامه، شهرها الثالث، في وقت تصرّ المعارضة على مواصلة تحركاتها حتى سقوط النظام وتنحي البشير وتشكيل حكومة انتقالية. فقد اعتقلت السلطات الأمنية في الخرطوم، أمس، معظم القيادات المعارضة المؤثرة في تحريك الشارع، ومن أبرزهم مريم الصادق المهدي، نائبة رئيس حزب الأمة، وسارة نقد الله، الأمينة العامة لحزب الأمة، ومحمد مختار الخطيب، زعيم الحزب الشيوعي السوداني، ومحمد يوسف أحمد المصطفى، القيادي في تجمع المهنيين، الإطار النقابي المؤثر للغاية في الانتفاضة الشعبية. ورغم أن وتيرة التظاهرات انخفضت نسبياً في الأيام الماضية، شهد يوم أمس انتعاشاً للحراك الشعبي، إذ شهد وسط الخرطوم، تجمعات حاشدة انتقلت من قلب العاصمة إلى عدد من الأحياء منها بري، شرقي الخرطوم، والشجرة (جنوب) وحي شمبات (شمال)، أغلق فيها المحتجون الطرق قبل أن يتجمعوا للمطالبة بسقوط النظام. كذلك شهدت منطقة سوق أم درمان تظاهرات أخرى استخدمت فيها الشرطة الغاز المسيل للدموع والاعتقالات الجماعية في العاصمة وفي مدينة ود مدني وسط السودان.

ومع دخول الاحتجاجات شهرها الثالث، تطرح الكثير من التساؤلات عن مصير هذا الحراك الشعبي الذي بدأ في 19 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، خصوصاً مع تأكيد المعارضة على عدم تراجعها، وحديث النظام عن بدء انحسار هذه الاحتجاجات.

ولم تستطع مختلف إجراءات "حسن النية" التي اتخذتها الحكومة إغراء المتظاهرين، بعدما تبين أنها مجرد قرارات لفظية بلا تنفيذ بمعظمها، فلم يكن لها أي تأثير في الأسابيع الأولى على حجم التظاهرات والاعتصامات، التي أكملت يوم الإثنين الماضي شهرها الثاني، ودخلت يوم الثلاثاء شهرها الثالث، وهدفها إسقاط النظام الحاكم. لكنه بات ملاحظاً بصورة جلية خفوت الاحتجاجات خلال الأسبوعين الماضيين، وسط قلق شديد انتاب مؤيديها من تلك الحالة، فيما السعادة بدت ظاهرة من الجانب الحكومي بتلك النتيجة.

بيد أنّ المعارضة لا ترى أي داع للقلق الذي أصاب البعض، وترى أنّ المدّ والجزر أمران طبيعيان في حراك يستمر لأشهر، وأن أسباب الاستمرارية قائمة وليست هناك مستجدات تدعو الثوار للتراجع. وفي السياق، يوضح القيادي في "تجمّع المهنيين السودانيين"، محمد يوسف المصطفى، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ السيناريو الوحيد الواضح بالنسبة لهم وبكل المعطيات هو أن "الاحتجاجات ستستمر، والثورة ضدّ النظام ماضية لغاياتها بسقوطه النهائي"، مضيفاً أنّ "كل يوم يمرّ تزداد فيه الثورة قوةً وتصميماً، بينما يشهد صفّ النظام يوماً بعد يوم ضعفاً وارتباكاً وبلبلةً".

ويؤكّد المصطفى أنّ "تجمّع المهنيين السودانيين" وقوى المعارضة الأخرى "ماضية في استنزاف النظام حتى يسقط لوحده". ويلفت إلى أنّ "الذين يرسمون سيناريو آخر بانحسار المدّ الثوري وضعفه وتلاشيه، يذهبون لذلك بمنهج رغبوي وتصورات قبلية أو نتيجة خوف على الثورة، وهؤلاء يخطئون التقدير، لأن أي قارئ موضوعي للأحداث سيجد أنّ الثورة تتصاعد وتأخذ أشكالاً مختلفة، خصوصاً بعدما وصلت إلى القرى السودانية". ويستدرك المصطفى بالقول: "نعم الخرطوم العاصمة أدت دورها الكبير والشباب الثائر فيها أُنهك بعد تعرضه للقتل والضرب والاعتقال، ما أدى إلى خفوت التظاهرات في بعض الأحيان، لكنها سرعان ما تشتعل من جديد، خصوصاً أنّ النظام عاجز ومنهار وفاشل في تقديم حلول اقتصادية وسياسية، ولا سيما في ما يتعلّق بالوقود والسيولة وقضايا الحريات. بل إنّ الغبن تضاعف بعدما استخدم النظام العنف، وكل هذه الأسباب لن تدفع أي ثائر نحو التراجع رغم قوة البطش من قبل النظام".

ويؤكّد المصطفى أنّ "الطريق الوحيد لفشل الاحتجاجات الشعبية هو انفراط عقد وحدة قوى المعارضة"، وهو احتمال يراه بعيداً جداً في الوقت الراهن، ويرى أنّ "الأحزاب والقوى المدينة كافة ملتفة حول أهداف الثورة، وحتميّة التغيير بزوال هذا النظام وبدء مرحلة انتقالية جديدة تبدأ خطوات جدية في الإصلاح السياسي والتنموي وإيقاف الحرب وإشاعة الحريات العامة"، نافياً وجود أي رغبة لدى "تجمّع المهنيين" للحوار مع النظام.

غير أنّ حزب "المؤتمر الوطني" الحاكم، يرى الصورة عكس ذلك تماماً، ويؤكد أنّ الاحتجاجات بدأت في الانحسار وذاهبة للتلاشي، وأن حكومته نجحت في احتوائها وعالجت مسبباتها، والشعب السوداني اكتشف الأجندة التي أرادت المعارضة قيادته إليها، بحسب ما يعتبر عضو المكتب السياسي للحزب الحاكم، الشيخ النذير الطيب.

ويقول الطيب في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "كل القراءات الحالية تؤكّد بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ الاحتجاجات فقدت زخمها، لأنها اندلعت نتيجة لمشكلات اقتصادية تمكّنت الحكومة بنسبة كبيرة من الحدّ منها، وذلك صار واقعاً ملموساً على الأرض، من خلال ملاحظة تلاشي أزمات الخبز والدقيق والسيولة"، معتبراً أنّ "المعارضة السياسية وعلى رأسها تجمع المهنيين، لم تجد حاضنة اجتماعية لدعاويها بإسقاط النظام، خصوصاً بعدما فضحت المعارضة المكونة من الشيوعيين والبعثيين والعلمانيين، أجندتها الإقصائية ضدّ التوجهات الإسلامية في البلاد". ويضيف أنّ "حديث المعارضة عن استمرارية الاحتجاجات يكذبه الواقع، بعدما انزوت المواكب المركزية، واكتفت المعارضة بتظاهرات محدودة في الأحياء".


وبدت ثقة النظام أكثر وضوحاً، الأربعاء، مع حديث مدير جهاز الأمن والاستخبارات السوداني، صلاح عبد الله قوش، عن أنه "لا مكان" لأي مبادرة تقدّم للحكومة لحلّ الأزمة الراهنة، خارج إطار الشرعية، موضحاً في تصريحات إعلامية بمقر البرلمان، بالعاصمة الخرطوم، أنّ "هنالك مبادرات كثيرة جداً تدور في الساحة، ويجب أن يعلم الجميع أن أي مبادرة تخرج عن الشرعية الموجودة ليس لها أي مكان"، لافتاً إلى أنّ الشرعية "تتمثل في الدستور الموجود، والقانون، والبرلمان، وغير ذلك لا مكان له".

من جهته، يرى رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة النيلين، فتح الرحمن أحمد محمد الأمين، أنّ النظام الحاكم في السودان "بنى خلال السنوات السابقة، دولة عميقة لديها شبكاتها ومن الصعب تفكيكها بالسهولة التي تتحدّث عنها المعارضة"، موضحاً في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "تلك الشبكات لا تزال متماسكة في ما يتعلّق بدعم النظام السياسي، كما أنّ وجود فكرة القيادة غير المحددة التي يعتمدها تجمّع المهنيين، ستسمح فقط بالاستجابة للاحتجاجات، لكن لا يمكن الرهان عليها للتغيير النهائي. كما أن طول أمد الاحتجاجات لا يدفع بالمشاركين للاستمرار فيها، خصوصاً بالنسبة للشباب غير المنظم سياسياً".

ويضيف الأمين أنّ "الرغبة في التغيير لا تجد دعماً دولياً أو إقليمياً، بل تميل الكفة لصالح بقاء البشير، سواء على مستوى دول الخليج أو مصر أو الدول الأفريقية أو حتى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين"، موضحاً أنّ "غياب هذه الرغبة ليس نابعاً من قناعة بالنظام، بل تخوفاً من الخيارات غير المحسوبة". ويشير الأمين إلى أنّه "حتى الحركات المتمردة، وبمجرّد أن أعلنت الحكومة وقفاً لإطلاق النار في مناطق النزاع، وافقت على ذلك، وهو ما يشي بأنها لا تريد استنزاف النظام لأنها تخاف كذلك، على ما يبدو، من التغيير غير المحسوب".

لكنّ المصطفى يقلّل من الحديث عن افتقار الاحتجاجات السودانية للدعم الخارجي، ويؤكّد أنّ "الشعب السوداني يراهن على نفسه فقط في إنجاز مهمته، ولا ينتظر دعماً خارجياً"، مشيراً إلى أنّ "وسائل الإعلام الدولية تنقل، والمجتمع الدولي يتغزّل الآن في اللوحات التي يرسمها الشعب السوداني، وإذا استفاق من حالة الغزل تلك، سيحدد موقفه، وهو أمر لا نلقي له بالاً، سواء مع الثورة أو ضدها، لأن الأمر يبقى بيد الشعب".

وبدأت الاحتجاجات في السودان في 19 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بصورة عفوية في عدد من المدن بعيداً عن العاصمة الخرطوم، وذلك نتيجة لتدهور الأوضاع المعيشية والندرة في السلع الرئيسية، خصوصاً الخبز والوقود، إلى جانب أزمة السيولة النقدية، التي شهدت شحاً غير مسبوق في التاريخ السوداني الحديث، لتتمدّد الاحتجاجات بعد ذلك لتشمل أكثر من 30 مدينة وعشرات القرى والأرياف.

وفي 25 من الشهر ذاته، تبنى الاحتجاجات "تجمّع المهنيين"، وهو جسم معارض يضم عدداً من النقابات العمالية، وسيّر مواكب ضخمة في الخرطوم ومدن أخرى، ليضيف إليها زخماً جديداً، خصوصاً بعد رفعه سقف المطالب الشعبية، بالمناداة بتنحي البشير وحكومته. وحدث ذلك في وقت ترددت فيه الأحزاب المعارضة الرئيسة في إعلان دعمها لتلك المطالب، حتى جاء مطلع يناير/ كانون الثاني، فوقّع "التجمّع" إعلاناً باسم "الحرية والتغيير" مع 3 تحالفات معارضة رئيسة، هي: تحالف "نداء السودان" المكوّن من أحزاب مدنية وحركات متمردة، تحالف "قوى الإجماع الوطني" الذي يضمّ أحزاباً معارضة في الداخل، والتحالف الاتحادي الذي يضم فصائل تابعة للحزب "الاتحادي الديمقراطي".

وبالإضافة إلى الأحزاب السياسية، أعلنت مجموعات مدنية دعمها لإعلان "الحرية والتغيير"، ليستمر المدّ الشعبي الذي أصبح يتحرّك بصورة شبه يومية من خلال المواكب والتظاهرات الليلية والاعتصامات والإضرابات النقابية في القطاعات الطبية والهندسية والمحامين والصحافيين وغيرهم، لينضم إليه بعد ذلك أساتذة الجامعات ورجال دين وشخصيات رياضية وفنية، على قدر عال من الشهرة والقبول المجتمعي.

كل ذلك واجهته الحكومة بالعنف المفرط، باستخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والضرب المبرح والاعتقال. أمّا النتيجة الأسوأ، فتمثّلت بمقتل أكثر من 30 محتجاً كما تقول الرواية الحكومية، وأكثر من 50 حسب إحصاءات المعارضة، فضلاً عن إصابة المئات، واعتقال الآلاف، في وقت تنفي الحكومة مسؤوليتها عن مقتل المتظاهرين برصاص قواتها، وتردد أن مندسين وسط الاحتجاجات السلمية يتبعون لحركات متمردة هم الذين يتحملون المسؤولية.

لكنّ مسؤولاً أميركياً بارزاً حذّر، الأربعاء، من أن "العنف المفرط" الذي تستخدمه قوات الأمن السودانية لقمع الاحتجاجات يمكن أن يهدد المحادثات لشطب السودان من قائمة واشنطن للدول الراعية للإرهاب. وقال مدير شؤون أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي سيريل سارتور، الذي زار الخرطوم أخيراً، لوكالة "فرانس برس": "من غير المقبول مطلقاً أن تستخدم قوات الأمن القوة المفرطة لقمع المتظاهرين".

وبالموازاة مع نهج العنف والتخوين الذي دشنت به حكومة البشير تعاملها مع الاحتجاجات، حاولت في الفترات الأخيرة تخفيف حدة خطابها السياسي تجاه المتظاهرين، مركّزة على الشباب، الفئة الغالبة فيها، من خلال طرح مبادرات للحوار معهم، مع تعهدات بحلّ مشكلات البطالة عبر مشاريع للتوظيف والتشغيل. كما أنها تعهّدت بتخفيف وطأة الأعباء المعيشية للمواطن واجتهدت في توفير الخبز والوقود، فضلاً عن عملها على توفير السيولة النقدية لعملاء البنوك. ولم تكتف بذلك، إذ أجاز المكتب القيادي لحزب "المؤتمر الوطني" الحاكم، خطة لتعديل قانون النظام العام، وهو قانون تصنفه المنظمات الحقوقية بأنه يتنافى مع حقوق الإنسان الأساسية ويهدر كرامة المرأة التي يطاردها في الشوارع بسبب ملبسها، وكذلك الشباب، ويعتقد البعض أنه وراء دفع الكثير من المحتجين للخروج إلى الشوارع.

ومع الحديث عن الفساد، عمدت الحكومة إلى تشكيل مفوضية قومية لمكافحة الفساد، وهو الأمر الذي امتنعت عنه طوال نحو 3 سنوات، رغم إجازة البرلمان القومي للقانون الخاص بالمفوضية. كما أعلنت مصادر سودانية، الأربعاء، إطلاق سراح 2430 شخصاً من جملة 2650 محتجزاً منذ اندلاع الاحتجاجات بالبلاد. ونقل المركز السوداني للخدمات الصحافية المقرب من الحكومة، عن مصادر عدلية (لم يسمها)، قولها إنّ "عدد الذين أطلق سراحهم بلغ نحو 2430 من جملة المحتجزين البالغ عددهم 2650، ولا تزال بعض القضايا قيد التحري والمحاكمة".