حركة النهضة وحيدة سياسياً: هزيمة أولى في البرلمان التونسي

حركة النهضة وحيدة سياسياً: هزيمة أولى في البرلمان التونسي

15 ديسمبر 2019
رفض البرلمان مشروع قانون لاستحداث صندوق للزكاة (Getty)
+ الخط -


خسرت حركة "النهضة" التونسية أولى معاركها في البرلمان، ولم تتمكن من الحصول على أغلبية 109 أصوات لتمرير مقترحات كانت وعدت بها أثناء حملتها الانتخابية. كما تأجل تشكيل الحكومة مرة أخرى.

وتعيش كتلة الحركة ورئيسها تحت ضغط كبير، تسلّطه كتلة الحزب "الحر الدستوري" منذ بداية أعمال البرلمان وأداء اليمين الدستورية. ويبدو أنه خيار استراتيجي لهذه الكتلة، سيعيش على وقعه المجلس طيلة السنوات الخمس المقبلة، إذ تتجه إلى إرباك "النهضة" بكل الوسائل، خصوصاً بعد صعود زعيمها راشد الغنوشي إلى رئاسة البرلمان. هذا الأمر لم يقبله "الدستوري"، كما تدل عليه تصريحات رئيسته عبير موسي، التي عطلت أعمال المجلس ومناقشة موازنة العام المقبل على مدى أيام، باعتصامها داخل قاعة المجلس وأمام مكتب الرئيس، في سابقة هي الأولى من نوعها، بما يقدم صورة أولى لطبيعة العلاقات خلال الفترة المقبلة وقياس منسوب التوتر العالي الذي ستسير فيه الأمور في مقر السلطة التشريعية، وسيعقّد أساساً ولاية الغنوشي من جهة، والائتلاف الحكومي الجديد إذا قادته "النهضة" طبعاً.

غير أن الخسارات الكبرى لحركة "النهضة" تمثّلت أولاً في إسقاط مقترحها باستحداث صندوق للزكاة، يتكفّل بتحسين أحوال المعوزين والطلبة والشباب العاطل من العمل، وسحبها لمقترح فصل إضافي جديد يتعلق بفتح صندوق الكرامة ورد الاعتبار لضحايا الاستبداد، تنفيذاً للأمر الصادر سنة 2018، بعدما تقدّمت به الكتلة ضمن مشروع قانون المالية لسنة 2020. وأسقط البرلمان المقترح المتعلق باستحداث صندوق الزكاة والتبرعات بتصويت 93 نائباً ضده وتأييد 74 وامتناع 17 عن التصويت، ما يعني أن المقترح لم يحظ إلا بدعم "النهضة" و"ائتلاف الكرامة"، فيما عارضه الباقون، وهو ما يدل على أن "النهضة" حالياً لوحدها سياسياً وليس لديها حزام من خارجها يمكن أن تستند إليه لتمرير مشاريعها ومقترحاتها.

ويبدو أن الحركة تسرعت في تقديم هذا المقترح، ودفعت ثمن ترددها السياسي الذي طال أكثر من اللزوم، إذ لم تنجح حتى الآن في تحديد المتحالفين معها مستقبلاً، وهو ما جعلها تخسر هذه الجولة الأولى، وستتاح لها إعادة تقديم المقترح مرة أخرى خلال أشهر. لكن التصويت أظهر بما لا يدع مجالاً للشك هشاشة الائتلاف الحكومي الآتي، حتى وإن تشكّل، وأظهر أن الأحزاب تحدد مواقفها بناء على مصالحها المباشرة وتموضعها في هذا الجانب أو ذاك، وهو ما سيجعل الابتزاز المتبادل عقيدة العمل طيلة العمر الافتراضي للحكومة. وجاء طلب رئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملي، مهلة شهر إضافي لمواصلة مشاوراته لتشكيل الحكومة، دليلاً على تخبط "النهضة" في حسم تحالفاتها، وصعوبة تحديد المُربع السياسي الذي ستتحرك فيه خلال المرحلة المقبلة، وانعكاساً لهشاشة هذا المربع وضيقه، وربما الحصار الذي سيمارس عليها طيلة المرحلة المقبلة، بما سيعطل تحقيق تقدم فعلي على مستوى تنفيذ وعودها الانتخابية، الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما ستدفع ثمنه عاجلاً أم آجلاً من رصيدها الشعبي الذي يتآكل شيئاً فشيئاً مع كل انتخابات.



واعتبر رئيس كتلة "النهضة" نور الدين البحيري أن سقوط مُقترح صندوق الزكاة كان "لأسباب غير موضوعية، وعلى حساب مصلحة الفقراء والعاطلين من العمل والمهمشين والمرضى وغيرهم، ولأسباب فئوية وأيديولوجية ولحسابات ضيقة، ولن يزيدنا إلا إصراراً على التمسك به والدفاع عنه وعرضه على المجلس، لمناسبة النظر في الميزانية التكميلية أو قبلها كمبادرة تشريعية". وأضاف البحيري، في تدوينة على صفحته على "فيسبوك"، أن ملخص القول إن "هذه جولة أولى كشفت لشعبنا الحقيقة بين الأوفياء الصادقين الذين يتمنون لشعبهم الخير والحياة الكريمة وبين الذين يقولون ما لا يفعلون".

لكن هناك من يعتبر من داخل "النهضة" أنها تتعرض لعملية ضغط سياسي، بعد أن كانت قد أعدت توافقات مع كتل معينة من أجل التصويت لصالح مقترحاتها، لكنها فوجئت بعدم احترام هذه الكتل لتعهداتها في إطار الضغط عليها من أجل تحسين شروط التفاوض في مشاورات تشكيل الحكومة. وقال نائب رئيس مجلس الشورى مختار اللموشي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "النهضة" وجدت نفسها في وضع "قضم الأصابع"، أي إشارات من الأحزاب المعنية بالتشاور الحكومي بإمكانية إسقاط مقترحاتها وضعف الحزام المحيط بها. وفسر أن "النهضة تقر بأن صعوبات وتأخر تشكيل الحكومة من العوامل التي جعلت التصويت يكون بتلك الطريقة اللامنطقية وغير العقلانية". وشدد على أن تشكيل الحكومة ألقى بظلاله على المسار البرلماني، خصوصاً التصويت على مقترحات الحركة. وشدّد اللموشي على أنه إذا كان مقترح استحداث صندوق الزكاة قد سقط، وتم استهدافه من قبل بقية الكتل، باستثناء "ائتلاف الكرامة" و"الدستوري الحر" غير المعنيين بالحكم، وصوّتا وفق قناعتهما مع أو ضد المشروع، فإن باقي التصويت جاء في إطار الضغط على "النهضة"، وفق تقديره.

وفي السياق نفسه، أوضح اللموشي أن مرور الموازنة ككل بـ127 صوتاً يعتبر في حد ذاته أمراً إيجابياً بالنظر إلى أن مشروع قانون المالية كان خلافياً، ولم ترض عنه كل الأطراف، وأن مسار تشكيل الحكومة، وإن تعثر، فقد يتوفق في النهاية لإيجاد التركيبة المناسبة التي وعدت "النهضة" ناخبيها بها وصادقت عليها المؤسسات، وهي تركيبة يشارك فيها الخيار الذي يتماشى مع الخطاب الانتخابي لجهة مكافحة الفساد والاقتصاد التضامني، وهي نقاط لا تجد "النهضة" فيها خلافاً مع "التيار" و"الشعب" و"تحيا تونس" وجزء من كتلة "الإصلاح الوطني". وأرجع هذه الصعوبات إلى تعثر المشاورات نتيجة كثرة الشروط والضمانات، بالإضافة إلى كون هذه الأطراف خائفة من تجربة الحكم، ولا تزال داخلياً مترددة حول قرارها الأخير.

من جهته، رأى الأستاذ والباحث في الفلسفة السياسية قاسم الغربي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن ملاحظات عدة تستدعي الوقوف عندها، أولها أن "النهضة" تسرعت في تقديم المقترح المتعلق بصندوق الزكاة، الذي يُعد أحد وعود برنامجها الانتخابي، ولم تكن هناك حاجة ملحة وضاغطة لتقديمه في ميزانية 2020، وكان من الممكن أن تنتظر نضج الموقف ووضوح التحالفات الحكومية. وكشف التصويت أيضاً، وفق تصريح الغربي، أنه لا يوجد طرف له أغلبية حقيقية، لا الحكومة المرتقبة لها أغلبية حقيقية ومطمئنة ولا المعارضة المرتقبة أيضاً، ولا يمكن قياس حجم الطرفين في إطار هذا التصويت الذي اختلطت فيه الأوراق على ضوء المشاورات الحكومية. وفي ملاحظة ثانية، عبّر هذا التصويت عن توازن هش داخل البرلمان، وفق الغربي، وهو "توازن الرعب بين الحكومة والمعارضة"، فحركة "النهضة" التي تسرعت بتقديم مقترحها تلقت تطمينات من كتل أخرى للتصويت لمصلحته، وبالتالي الوصول إلى الأغلبية المطلوبة، بيد أن هذه الأطراف تراجعت في ما بعد وصوتت ضده، وهو ما أفشل تحقيق "النهضة" للأغلبية. إلى ذلك، قدّر الغربي أن "النهضة" أخطأت في تمرير المشروع بالعنوان الذي مر به، خصوصاً أن هناك أطرافاً لها تخوفات من "أخونة" الدولة، علاوة على أن التبرعات قد تفتح مجالاً للتأويلات عند الرأي العام الشعبي ورد فعل سلبي لدى الشارع التونسي الذي يقلقه موضوع التبرعات نظراً لاستخدامها من قبل النظام السابق في ابتزاز المواطنين.