انتخابات مأزومة في الجزائر: صدام إرادات بين السلطة والشارع

انتخابات رئاسية مأزومة في الجزائر: صدام إرادات بين السلطة والشارع

04 نوفمبر 2019
يرفض الحراك الشعبي إجراء الانتخابات الرئاسية (العربي الجديد)
+ الخط -
ألقى إعلان السلطة في الجزائر قائمةَ المرشحين الخمسة لانتخابات الرئاسة المقررة في 12 ديسمبر/كانون الأول المقبل، مزيداً من الغموض والتوتر السياسي في البلاد، بعد موجة رفض شعبي متصاعد للقائمة التي ضمت وجوهاً محسوبة كلها على النظام السابق أو كانت لها علاقة به في مستويات متعددة وأزمنة مختلفة. ومع مرور الوقت واقتراب موعد الحملات الانتخابية ثمّ موعد الاقتراع، تتقلّص المسافة الفاصلة بين الارادات السياسية للسلطة المصرّة على تنظيم الانتخابات كممر وحيد لحل الأزمة، وبين إرادة قطاع هام من القوى الشعبية والسياسية التي ترفض إجراء هذه الانتخابات، بسبب ترتيباتها المتعثرة ومسارها المرتبك.

وتتجه الجزائر نحو انتخابات مأزومة. فمشهد صغير يختصر الوضع بالكامل ويجعل من هذه الانتخابات محطة أزمة أكثر من كونها حلاً سياسياً، إذ رفض ناشطون وسكان حي "بابا أحسن" في الضاحية الغربية للعاصمة الجزائرية، من الرافضين لإجراء الانتخابات الرئاسية، مساء أول من أمس السبت، وجود المرشح الرئاسي ورئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس، في حيّهم، عندما كان بصدد تناول العشاء في مطعم برفقة عدد من أعضاء حملته الانتخابية. وطالب هؤلاء الناشطون والسكان بن فليس بمغادرة الحي وهتفوا ضده "أكلتم البلاد يالسراقين"، ما دفعه إلى مغادرة المكان بعدما أخفق في إقناعهم بالسماح له بشرح موقفه من المشاركة في الانتخابات المقبلة. ويعطي هذا المشهد صورة عن الظروف الصعبة والرفض الشعبي والمشكلات التي سيواجهها المرشحون الخمسة لانتخابات الرئاسة خلال الحملة الانتخابية، وكذا الوضع المتوتر الذي ستجري فيه الانتخابات في حال تمت في موعدها، على خلفية تصاعد الرفض الشعبي والسياسي، الذي عززته التظاهرات غير المسبوقة التي شهدتها الجزائر يوم الجمعة الماضي.

ويشير مراقبون إلى ملاحظة مهمة، وهي أنه إذا كان بن فليس، وهو أكثر المرشحين الخمسة ابتعاداً عن نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة وانشق عنه منذ 17 سنة، وانخرط في عدد من مبادرات ومسارات سياسية لقوى المعارضة، قد واجه هذا الموقف الحرج، فكيف سيكون الوضع والموقف بالنسبة للمرشحين الأربعة الآخرين؟ والأربعة هم عبد المجيد تبون الذي كان حتى أغسطس/آب 2017 رئيساً لحكومة بوتفليقة، وعز الدين ميهوبي الذي ظلّ وزيراً للثقافة في حكومة بوتفليقة الأخيرة حتى مارس/آذار الماضي، وعبد القادر بن قرينة الذي أعلن دعمه لترشح بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة وعمل وزيراً للسياحة في عهده، وعبد العزيز بلعيد الذي كان يقود أكبر تنظيم شبابي وطلابي يدعم بوتفليقة.

لكنّ السلطة السياسية التي يتحكّم الجيش في دواليبها في الوقت الحالي في الجزائر، تبدو في حالة مرضية تُعرف في علم النفس بـ"حالة الإنكار" السياسي، إذ لا تريد مراجعة موقفها حتى بعد مسيرات الجمعة الماضية، ولا ترغب في الانتباه إلى تصاعد الرفض الشعبي لإجراء الانتخابات، في ظلّ بقاء رموز نظام بوتفليقة وحكومته، وفي ظلّ نجاح الإدارة في الهيمنة على مفاصل العملية الانتخابية عبر التحكم في تعيين اللجان البلدية والولائية التابعة للهيئة العليا المستقلة للانتخابات. كما لا ترغب في الإنصات إلى القوى السياسية التي تطرح حلولاً ومسارات توافقية مغايرة، تؤدي نفسها إلى الانتخابات، لكن بعد استيفاء الشروط الضامنة والتوافقات اللازمة. وتراهن السلطة والجيش فيما يبدو على عامل الوقت لقتل روح المقاومة السلمية لدى الحراك الشعبي. ويعتقد متابعون لمواقف قائد الجيش الفريق أحمد قايد صالح وإصراره على تنظيم الانتخابات في موعدها مهما كانت الظروف والدواعي، والذي ترجمه في حديثه إلى وزير العدل بلقاسم زغماتي قبل يومين، إذ أكد أنه "يتوجب الذهاب إلى النهاية في هذا المسار"، أنّ السلطة تعتبر الانتخابات الرئاسية هي مرشحها المركزي، وأن تنظيمها في حدّ ذاته هو غاية وليس حلّا للأزمة، من دون النظر إلى مسألة العزوف الانتخابي المتوقع أن يكون كبيراً ونسبة التصويت المنخفضة.

ويعيد هذا الوضع إلى الأذهان صورة الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 1995، عندما سعت مجموعات مسلحة كانت تسيطر على بعض المناطق بشكل كامل حينها لمنع تنظيمها، وهددت بتصفية كل من يعمل أو ينظم أو ينتخب. ويرى محللون أنه ومع فارق السياق والفواعل الرافضة، إذ إنّ الأمر في انتخابات ديسمبر المقبل يتعلق بحركة سلمية وحدوية للجزائريين، فإنّ التشابه بين الحالتين، انتخابات 1995 والانتخابات المقبلة، يتصل بسعي السلطة والجيش لتحقيق هدف مركزي واحد وهو فكّ مأزق شرعية مؤسسة الرئاسة، من دون أن يكون حلّ الأزمة السياسية للبلاد هو الهدف المركزي.

وبحكم طبيعة النظام والعقل السياسي والعسكري الذي يديره في الجزائر، لا يتوقع الناشط المدني، عضو "ائتلاف القوى المدنية"، مسعود بوذيبة، أن تتراجع السلطة عن موعد الانتخابات. ويؤكّد بوذيبة، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ السلطة "عازمة على فرض الانتخابات، وتحقيق هذا التحدي بأي طريقة ومهما كان الثمن، وهي ليست مهتمة بنسبة التصويت، لأنها تريد فرض الانتخابات وتنظيمها بمن حضر ترشيحاً وتصويتاً".

ويرى بوذيبة أنّ "السلطة ضيّعت علينا فرصة حقيقية لتحقيق انطلاقة ديمقراطية، وهذا ما يؤلمنا ويجعلنا نصرّ أكثر على البقاء والاستمرار في الحراك"، لافتاً إلى أنّ "المرحلة تقتضي تشكيل جبهة سياسية ومدنية جامعة، وما زلنا نعمل على هذا". ويشير إلى "إضراب القضاة الذي زعزع بحق السلطة وعزز موقفنا، لأن أهم ما فيه هو إسقاط ورقة تلاعبت بها السلطة الحالية والمتمثلة في استقلالية القضاء".

ويتابع بوذيبة أنّ "قائمة المرشحين التي تم الإعلان عنها، هي أكبر دليل على أن السلطة ليست مستعدة لترك المجال لأي احتمال للمغامرة، حيث إنّ كل العناصر المرشحة هي من السلطة وإليها"، موضحاً أنّ ذلك "يعطي صورة بكل أبعادها لنظام متجذر لا يؤمن أصلاً بمفهوم التغيير".

ومع هذه التطورات، يعزز إعلان الهيئة المستقلة للانتخابات عن قائمة المرشحين من موقف المعارضة السياسية والمدنية أيضاً، إذ تعتبر هذه القوى أنّ تقديرها للموقف السياسي والمسار التوافقي الذي تطرحه كان الأكثر صدقية، وأنّ الأيام المتلاحقة كشفت أنّ هذا التقدير كان بناءً على معطيات واقعية ذات صلة وثيقة بمطالب الشعب المتضمنة رحيل رموز نظام بوتفليقة وحكومة نور الدين بدوي والتوافق على الأولويات السياسية والترتيبات الخاصة بالمرحلة وبتدابير تنظيم الانتخابات وتشكيلة الهيئة المستقلة. لكن هذه القوى السياسية والمدنية تتخوف في الوقت نفسه من أن تخلق السلطة وضعية صدام مع إرادة الشارع، وذلك في حال أصرت على تنظيم الانتخابات في موعدها المحدد. ودفعت التطورات شخصيات وقادة أحزاب سياسية إلى الدخول على خطّ الأزمة والتحذير من عواقب الاستمرار في التهرب من مطالب الشعب ومن حقيقة الواقع السياسي، ودعت إلى إرجاء الانتخابات الرئاسية المقبلة.

وفي هذا السياق، نشر رئيس "جبهة العدالة والتنمية" العضو في مؤتمر المعارضة، عبد الله جاب الله، أمس الأحد، تقدير موقف دعا فيه السلطة إلى إعلان نوايا حسنة من خلال "تأجيل الانتخابات، وممارسة العزل السياسي لرموز النظام، والدخول في حوار شامل مع من يثق بهم الشعب، للاتفاق حول مرحلة مؤقتة قصيرة، يديرها أفراد من أصحاب الأهلية العلمية والعملية وذوي المصداقية الشعبية، يسهرون خلالها على توفير كافة الشروط المادية والمعنوية والقانونية والبشرية التي تقنع الشعب بجدية العمل على تنقية الأجواء، وإعادة الثقة في صدق التوجه نحو الانتخابات التي تبني جمهورية جديدة قائمة على الالتزام الصحيح". وأضاف جاب الله، الذي وقّع الخميس الماضي مع مجموعة من الشخصيات على بيان يدعو إلى استمرار الحراك الشعبي، أنه "يتعيّن على السلطة أن تدرك أنّ المسيرات الشعبية السلمية والمتحضرة المستمرة كل هذه الأشهر مصدر اعتزاز وافتخار"، وأنّ "مظهر ذلك هو التعاون مع المعارضة وسائر فعاليات قوى الشعب ونخبه المؤمنة بعدالة مطالبه على تحقيقها".

بشكل أو بآخر، السلطة والجيش مسؤولان عن وضع البلد في مأزق حقيقي، إذ إنّ تنظيم الانتخابات الرئاسية يتحول مع الوقت إلى مشكلة سياسية وتنظيمية شائكة، قد تؤدي إلى توترات داخلية. كما أنّ عدم تنظيمها يبقي على حالة لا شرعية المؤسسات ومؤسسة الرئاسة تحديداً، بعدما كان التوافق ممكناً على الترتيبات السياسية بشكل مشترك بين السلطة والمعارضة والحراك الشعبي، خصوصاً أنّ قوى المعارضة بكل مستوياتها السياسية والمدنية قدمت أكثر من مبادرة في هذا الاتجاه، وعبرت أكثر من مرة عن استعدادها لمساعدة السلطة على الخروج من الأزمة، لكن الأخيرة رفضت كل "سترات الإنقاذ" التي كانت ترمي بها إليها المعارضة.

المساهمون