الانتفاضة اللبنانية تكسر الخطوط الحمراء للنظام

الانتفاضة اللبنانية تكسر الخطوط الحمراء للنظام

17 نوفمبر 2019
ارتفع العلم اللبناني في كل المناطق دون استثناء(حسين بيضون)
+ الخط -
لم تكن الانتفاضة اللبنانية التي اندلعت في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي عادية في أوجهها الكثيرة، بل أفضت إلى كسر العديد من الحدود، المصطنعة أصلاً بين اللبنانيين. عملياً، لم تشهد البلاد أمراً مماثلاً طوال تاريخها، خصوصاً مع توزّع ساحات المنتفضين في مناطق اعتُبرت "ممنوعة" أو "ذات خطوط حمر" أو محسوبة على طوائف وأحزاب محددة. شكّلت هذه النقلة صدمة حقيقية لأحزاب السلطة الطائفية، التي سعت إلى حصرها ومنعها من التمدّد، تحت عناوين عدة، تبدأ من تخوين المنتفضين وتنتهي بالتلويح بالحرب الأهلية.

في الشمال اللبناني، برزت مدينة طرابلس كـ"عروس للثورة"، متخطية عقبات عدة واتهامات عشوائية. المدينة صنّفتها أوساط حزب الله، في مراحل سابقة، بأنها "قندهار" لبنان، للإشارة إلى وجود تنظيمات وعناصر متشدّدين فيها، إلى حدّ السعي إلى عزلها عن باقي محيطها الجغرافي والديمغرافي. وقد ساهم العديد من السياسيين والأحزاب في تظهير هذه الصورة، منهم من هم داخل المدينة، ومنهم من هم خارجها. كذلك غرقت المدينة في حربها الخاصة، بين حيّي جبل محسن ذات الغالبية العلوية وباب التبّانة ذات الغالبية السُّنية، وهي الحرب التي استمرت بشكل متقطع بين عامي 2008 و2014، وسقط فيها مئات الضحايا وآلاف الجرحى. مع العلم أن القاسم المشترك بين الحيين هو الفقر المدقع، فالمقاتلون غير قادرين أساساً على شراء ربطة خبز، فكيف بالأسلحة؟ بعد 17 أكتوبر تغيّرت أشياء عدة. المدينة المعروفة بوجود العديد من النواب والوزراء الأثرياء فيها، كسرت المحظورات، وأحرقت صور الزعماء، وبدأت مسيرتها الخاصة في تكوين مسار جديد يشبهها.

في بعلبك والهرمل والبقاع عموماً، في الشرق اللبناني، بدا المنتفضون أقرب إلى الثورة على الذات. في المناطق البقاعية تتمحور القاعدة حول ضرورة إبقاء الفقراء فقراء، ضماناً لسيطرة العصابات من جهة، واستمرار العادات العشائرية من جهة أخرى، تحديداً في سياق "الأخذ بالثأر". عُرف البقاع عموماً، أو كما يُراد له أن يُعرف، بأنه معقل لـ"الطفار" (أي الهاربين من العدالة) وزراعة الحشيش والخروج عن القانون. النفوذ السياسي في المنطقة تحوّل بعد حرب لبنان (1975 ـ 1990) إلى حزب الله وأمل، وازدادت الأمور سوءاً. ولم يسعَ نواب المنطقة إلى إخراجها من بؤسها، وهو ما دفع العديد من أبنائها إلى الانتفاض، بدءاً من 17 أكتوبر. ضُرب الكثير منهم واعتُقلوا. التهديدات لاحقتهم إلى عقر دارهم. وفي غياب أي معالجات حقيقية للأزمة، من المتوقع أن ترتفع الأصوات أكثر.

في النبطية وصور، في الجنوب اللبناني، برز أهلها كثوار حقيقيين. فقد خرجوا على الثنائي حزب الله وأمل، واستهدفوا مراكز ومقرات واستراحات تابعة لهم. لم يستسغ الحزبيون ذلك، فباشروا القمع المدعوم من الأجهزة الأمنية. اعتُقل العشرات بسبب تظاهراتهم، فضلاً عن الضرب وإطلاق النار والتهديدات التي كيلت للمتظاهرين. في صيدا، تحوّل دوّار إيليا إلى مركز للمنتفضين، الذين رفعوا شعارات جامعة، خارج الإطار الصيداوي البحت. في حاصبيا، في الجنوب اللبناني، كان واضحاً أن من تحرّك يرفض أي سطوة للحزب التقدمي الاشتراكي، ويطالب بمحاسبة الفاسدين، وهو الأمر الذي برز في بعقلين وكفرحيم، المنطقتين المحسوبتين تاريخياً على الاشتراكيين. كان رئيس الحزب، وليد جنبلاط، مرحّباً بالانتفاضة، لكنه سرعان ما انقلب عليها، لكونها اتجهت ضده.
في المناطق الممتدة على طول الساحل، شمال بيروت، بين الدورة وشكا، كان واضحاً أن الرفض الشعبي لخيارات التيار الوطني الحرّ، الذي يُعتبر الأكثر تمثيلاً لهذه المناطق، تجاوز مبدأ "الخشية من المجهول". المنتفضون كانوا واضحين: الحلّ في تغيير النظام لا أقلّ، وهي خطوة متقدمة شعبياً، بعد أن كانت المناقشات بهذا الموضوع في السياق السياسي فقط.

كشفت الانتفاضة مدى توق اللبنانيين إلى كسر الحدود والهواجس الاجتماعية فيما بينهم. لعلّ ذلك من أبرز ما أنتجته حركة 17 أكتوبر. وللدلالة على عمق ما حصل وقوته، يكفي أن تراقب لبنان بلداً مشحوناً بالتوزيع الطائفي في السلطة والمناصفة بين المسلمين والمسيحيين في كل وظائف الدولة، من دون أن يجري أي تعداد للسكان منذ الإحصاء الأخير عام 1932، أي ما قبل استقلال 1943 عن فرنسا. هذا البلد شهد حرباً صغيرة في عام 1958 وأخرى مدمّرة بين عامي 1975 و1990، وتعرّض لاجتياح إسرائيلي ودخول سوري. وبعد الحرب انغمست المليشيات في الدولة وعاثت فيها فساداً وهدراً وسرقة، باسم الطوائف. بلد كلبنان نظامه قائم على ثنائية المصارف ـ قطاع الخدمات، ويعيش سياسيوه على خلافات الناس، فيما هم متفقون، كان واضحاً أن الحلّ الأمثل له هو الهجرة أو مناصرة زعيم طائفي على حساب آخر للفوز بمكسب وظيفي. بناءً عليه، يُمكن القول إن 17 أكتوبر شكّل حالة فريدة من نوعها، عبر تشكيل شعب لبناني عابر للشعوب اللبنانية المتفرقة. لم يكن عادياً رفع أعلام لبنان في مختلف المناطق، وسماع هتافات موجّهة من مدينة أو بلدة لأخرى، فذلك كان في 16 أكتوبر الماضي مثلاً غير وارد.

أحيت الانتفاضة اللبنانية، الحركة الطلابية، التي لم تشارك لنصرة فريق على آخر، بل لكسر الحدود الطائفية ومواجهة الفساد. الفساد موجود في المناهج التعليمية أيضاً. حاولت السلطة قمع الانتفاضة، أحياناً بالاستدعاءات الأمنية وبالشبيحة. البعض تعرّض للمتظاهرين وضربهم وسجّل أفلاماً حول كيفية تعرّضهم لذلك، ولم تحرّك السلطة ساكناً. ساحات رياض الصلح والشهداء في بيروت، والعلم في صور، والهرمل في البقاع، وعاليه في الجبل، كانت شاهدة على اعتداءات أنصار السلطة على المتظاهرين. لم يكن الأمر عفوياً، بل كان جزءاً من منظومة عمل أحزاب السلطة. حتى إن البعض من الذين يُعتبرون معارضين للسلطة، حاولوا استغلال الانتفاضة، والمشاركة فيها، لكن المنتفضين كانوا أكثر وعياً منهم. في الشهر الأول على الانتفاضة اللبنانية، بات أكيداً أن رهانات السلطة سقطت، وأنها غير قادرة على مواكبة تطلعات الشعب، حتى أن الورقة المذهبية باتت من الماضي. وفي كل ليلة تحاول فيها السلطة ممارسة المزيد من القمع ضد شعبها، يأتي من يقرع الطناجر ليلاً ليُذكرها بأن نهايتها اقتربت.

دلالات