مأزق المشهد التونسي الجديد: مَن يتحالف مع مَن؟

مأزق المشهد التونسي الجديد: مَن يتحالف مع مَن؟

09 أكتوبر 2019
"النهضة" ستكون الكتلة الكبرى في البرلمان (أنيس ملي/فرانس برس)
+ الخط -

لا صوت يعلو في تونس، بعد نتائج الانتخابات التشريعية، على سؤال "مَن يتحالف مع مَن؟"، وكيف ستتشكل التحالفات الجديدة بناءً على النتائج التي فرضها الصندوق وإرادة التونسيين.

بالعودة خمس سنوات إلى الوراء، يتذكر التونسيون أن الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، فاجأ أنصار حزبه، نداء تونس، وبقية الطيف السياسي التونسي بإعلانه مباشرة بعد الانتخابات نيته التحالف مع حركة النهضة، "لأن الصندوق والتونسيين فرضوا ذلك ومنحوها المرتبة الثانية في البرلمان". غير أن خيار التونسيين هذه المرة جاء مختلفاً، ووزع مقاعد البرلمان الـ217 بشكل يُصعّب هذه المهمة إلا عبر تحالفات تشمل أطرافاً كثيرة، أغلبها متناقض ولا قرابة فكرية بينها، ولا أرضية سياسية تجمعها. زد عليه ما أفرزته الحملات الانتخابية من أجواء مشحونة لم تترك للمرونة مكاناً، برغم أن كل شيء يبقى متاحاً في عالم السياسة التونسية، حيث تتغير الخطابات والمواقف بسرعة قياسية، وتبحث لها عن مبررات جديدة كلما اقتضت الحاجة.

وبرغم ذلك، يبقى السؤال، مَن يتحالف مع مَن؟ وعلى أي قاعدة وأي برنامج؟ وتؤكد كل عمليات سبر الآراء أن حركة النهضة ستكون الكتلة الكبرى في البرلمان التونسي الجديد، الذي انتُخب الأحد الماضي، بفارق نحو نقطتين عن منافسها المباشر، حزب قلب تونس الذي يرأسه رجل الأعمال نبيل القروي، الموقوف حالياً في السجن والمرشح للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية في 13 أكتوبر/تشرين الأول الحالي. وتقود هذه النتائج إلى تكليف حركة النهضة تشكيل الحكومة الجديدة، إذ ينص الدستور التونسي على أنه "في أجل أسبوع من إعلان النتائج النهائية للانتخابات، يُكلف رئيس الجمهورية مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصل على أكبر عدد من المقاعد في مجلس نواب الشعب، تكوين الحكومة خلال شهر، يجدد مرة واحدة. وفي صورة التساوي في عدد المقاعد يُعتمد للتكليف عدد الأصوات المتحصل عليها".

ويقول راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، الفائزة مبدئياً بأغلبية المقاعد: "نحن على أبواب مرحلة جديدة، وسنتشاور مع جميع الشركاء الذين يشاطروننا الحرب على الفساد والفقر، وسنعمل على تنفيذ أهمّ أهداف الثورة التونسية، وعلى رأسها الحرية والعدالة وتوفير فرص العمل". ويضيف، في ندوة تلت إعلان التوقعات الأولى لنتائج الانتخابات: "سندعم حكومة (يوسف) الشاهد، حتى نستطيع تشكيل حكومة شراكة تتكون من كفاءات، ومنفتحون على الجميع".




وتعكس هذه التصريحات، من ناحية، قاعدة التحالفات التي تريد "النهضة" الالتقاء على أساسها مع بقية الأطراف، لكنها في الوقت ذاته تشير إلى إدراكها حجم الصعوبات لتحقيق ذلك. وبيّنت النتائج الأولية أن حركة النهضة ستكون صاحبة المرتبة الأولى بأكثر من 40 مقعداً (ربما تتجاوز 45 مقعداً إذا أضيف إليها نواب الخارج)، وحزب قلب تونس 33 مقعداً، وائتلاف الكرامة 18 مقعداً، وحركة تحيا تونس 16 مقعداً، وحركة الشعب 15 مقعداً، والحزب الدستوري الحر 14 مقعداً، والتيار الديمقراطي 14 مقعداً، وعيش تونسي 5 مقاعد، وحزب البديل التونسي 3 مقاعد، ونداء تونس بما بين مقعد وأربعة مقاعد.

ويتساءل الجميع في تونس عمّن يمكن أن تدعوه "النهضة" إلى التحالف معها من بين هذه التشكيلات، خصوصاً أنها مبدئياً لن تتحالف مع قلب تونس، ولا مع الحزب الدستوري، فيما أعلنت حركة الشعب أنها ستكون في المعارضة، ووضع التيار الديمقراطي شروطاً تعجيزية أمامها بطلب وزارات العدل والداخلية والإصلاح الإداري، لعلمه المسبق أنها لن تقبل بذلك. لكن هرولة هذه الأحزاب نحو المعارضة، المقعد المريح سياسياً، لن يكون بهذه السهولة، لأن رفض تشكيل حكومة مع حركة النهضة سيهدد باحتمال حلّ البرلمان، وبفقدان المكاسب التي تحققت لأحزاب كثيرة، وهي ليست ضامنة للمزاج الانتخابي التونسي إذا أُعيد انتخاب برلمان جديد. وسيكون هذا عامل ضغط قوي تعرفه "النهضة"، وستستغله أمام الرأي العام التونسي لوضع هذه الأحزاب في خانة المتهربين من المسؤولية الذين لا يفكرون في استقرار البلاد ويضعون مصلحة أحزابهم قبلها.

ويشير المتابعون إلى أنه يبقى أمام "النهضة" أن تتحالف مع الأحزاب القريبة منها، مثل "ائتلاف الكرامة" أو بعض المستقلين المنتمين إلى ذات العائلة السياسية، وتحيا تونس. لكن الحركة، التي تحاول منذ سنوات أن تقترب من منطقة الوسط، ستكون محرجة بالتحالف مع أحزاب تنتمي في الظاهر إلى أقصى اليمين، وهذا سيضرب حتماً صورتها التي تبنيها منذ سنوات، داخلياً ودولياً، حول الإسلام الديمقراطي والانفتاح والشراكة، خصوصاً أن هناك انزعاجاً غربياً من بعض التصريحات والمواقف التي صدرت عن بعض الأحزاب خلال الحملات الانتخابية، وأظهرت موجة عداء للدول الغربية واستخفافاً بمفهوم الدولة، وكل هذا لن يخدم "النهضة" على المديين، المتوسط والبعيد.

وفي جانب آخر، يتساءل مراقبون عمّن سيتولى من "النهضة" تشكيل هذه الحكومة والبحث عن هذه التحالفات الصعبة. ويفرض القانون الداخلي للحركة أن يُقترَح رئيسها للمناصب العليا للدولة، أي دعوة الغنوشي إلى تشكيل الحكومة، ما لم يتنازل عن ذلك لغيره، كما فعل في الانتخابات الرئاسية، مقترحاً نائبه عبد الفتاح مورو. غير أن الوضع مُغاير في هذه الحالة، إذ رشّح الغنوشي مورو لأنه كان أصلاً مرشحاً على قائمة برلمانية في دائرة تونس الأولى، وكانت عينه على البرلمان. وذهبت تحليلات كثيرة إلى التأكيد أن الغنوشي ينوي اختتام مسيرته السياسية على رأس البرلمان. ويرى البعض أن انتخابات الأحد عبارة عن هدية مسمومة لحركة النهضة، إذ يبدو أنّ من الصعب تحصيل إجماع لمنح الغنوشي رئاسة البرلمان، مع التشتت الكبير الحاصل في توزيع المقاعد، بالإضافة إلى الأهمية الكبرى لمنصب رئيس الحكومة، مقارنةً برئاسة البرلمان.

ولا تخفي مصادر من الحركة، تحدثت لـ"العربي الجديد"، وجود هذه الإمكانية، بينما تطرح أيضاً إمكانية الحصول على رئاستي البرلمان والحكومة معاً وفق ما تتيحه القوانين التونسية. لكن هذا سيتطلب تقديم تنازلات والوصول إلى توافقات تبدو مستحيلة واقعياً. وأمام هذا الوضع، لا تخفي مصادر حزبية، تحدثت لـ"العربي الجديد"، وجود مشاورات فعلية وبحث إمكانية تكليف شخصية وطنية بهذه المهمة، وربما تكون فكرة حكومة وحدة وطنية، ترأسها شخصية محايدة، حلاً للخروج من هذا المأزق، برغم أن هذا سيعيد الجميع إلى المربع الأول، وسيلغي مرة أخرى دور الأحزاب في العملية السياسية بسبب تناحرها، ما قد يفرض على هذه الأحزاب أن تبحث عن أرضية مشتركة لتجاوز خلافاتها، حتى لا تكتفي بدور المتفرج.