عقبات سياسية وحواجز دستورية أمام البرلمان التونسي الجديد

عقبات سياسية وحواجز دستورية أمام البرلمان التونسي الجديد

12 أكتوبر 2019
أفرزت الانتخابات التشريعية واقعاً برلمانياً معقّداً (جديدي وسيم/Getty)
+ الخط -


أتمّت تونس الانتخابات التشريعية الثانية منذ المصادقة على دستور الثورة، في نجاح دونه حواجز وعقبات دستورية وسياسية حتى تحقق البلاد استقرارها السياسي باستكمال منظومة الحكم وتثبيت المؤسسات الجديدة. وتصدّر حزب النهضة المشهد البرلماني بفوزه بـ52 مقعداً، بحسب النتائج التي أعلنتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الأربعاء، يليه حزب قلب تونس، بقيادة نبيل القروي، بـ38 مقعداً، ثم حزب "التيار الديمقراطي" بـ22 مقعداً، و"ائتلاف الكرامة" بـ21 مقعداً، والحزب "الحر الدستوري" بـ17 مقعداً، ثم قائمة "الشعب" بـ16 مقعداً، وحركة "تحيا تونس" بـ14 مقعداً.

في خضمّ ذلك، تستعدّ تونس لانتخاب قيس سعيّد أو نبيل القروي، رئيساً للجمهورية يوم غد الأحد، لكنها تطرح إشكالية دستورية، إذ تنتهي ولاية الرئيس المؤقت محمد الناصر، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، بعد إتمامه مهلة الـ90 يوماً المنصوص عنها دستورياً، بعد وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي. وتتمحور الإشكالية حول أي من البرلمانين، القديم أو الجديد، سيقسم رئيس الجمهورية العتيد اليمين الدستورية أمامه. ويطرح الخياران أزمة دستورية حقيقية تتعلق بالآجال الدستورية الضاغطة التي لا تنتظر مجلس النواب الجديد للانعقاد والانطلاق في العمل منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، وبين الشرعية القانونية والمشروعية السياسية للنواب المنتهية ولاياتهم للاجتماع من جديد في جلسة عامة لتأدية الرئيس الجديد القسم الدستوري.

وشرّعت وفاة السبسي في 25 يوليو/تموز الماضي الباب أمام سيناريوهات لم يلحظها الدستور الجديد (2014)، الذي تقوم فلسفة الحكم فيه على أساس نظام سياسي برلماني معدّل يؤسس لجمهورية برلمانية تسبق فيها الانتخابات التشريعية، الرئاسية. ولم يلحظ الدستور حالات الشغور الاستثنائية التي تصادف نهاية ولاية البرلمان، ما استولد تزامناً بين المحطتين الانتخابيتين، الرئاسية والتشريعية، في مرحلة انتقالية قاتلة، فلا البرلمان السابق قائم ولا البرلمان الجديد جاهز.

وتفترض دعوة البرلمان المنتهية عهدته لجلسة عامة تخصص لتأدية اليمين في عطلة برلمانية ومع نهاية الولاية الحالية، إما إجراء دورة استثنائية بطلب معلل من الرئيس المؤقت أو بطلب من 73 نائباً على الأقل، وهو ما يُعدّ مساراً صعباً. ففي غياب محكمة دستورية للفصل في هذه التعقيدات القانونية والدستورية، يرجّح أن يؤدي الرئيس الجديد اليمين أمام مكتب البرلمان المنتهية ولايته أو أمام هيئة الانتخابات، حتى لا يتم خرق الآجال أو دخول البلاد حالة فراغ دستورية مع نهاية ولاية الناصر. ويتوقع أن تصدر النتائج النهائية لرئاسة البلاد نهاية شهر أكتوبر، مع ترجيحات بأن يدعو رئيس البرلمان أو نائبه، البرلمان الجديد للانعقاد في جلسة افتتاحية، في الأيام العشرة الأولى من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

وأمام البرلمان الجديد امتحان كبير يتمثل في تشكيل تحالف برلماني حاكم في أول أيام عمله، ويُفترض أن يتجاوز عدد مكونات التحالف البرلماني الأغلبية المطلقة، أي 109 نواب على الأقلّ، حتى يتمكن النواب الجدد من انتخاب رئيس للبرلمان ونائبيه يمثلون الأحزاب والكتل الأكبر حجماً.

وعلى الرغم من اتضاح المشهد ببروز الفائزين الأساسيين، حزب النهضة وقلب تونس، فإن مستقبل التحالف بين الطرفين يبقى مجهولاً إزاء ما عرفته الحملة الانتخابية وما قبلها من تصادم بين الطرفين، إلى حدّ التنافر. وما زاد الأمر صعوبة هو تصريحات قياديي الطرفين الرافضين للتقارب. ويزداد الوضع تعقيداً بانحياز غالبية المجموعات الفائزة بمقاعد قليلة إلى المعارضة، مع جنوح حزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب مبكراً إلى دفة المعارضة، ما جعل الفائزين أمام خيارات محدودة بدفع بقية الأضداد إلى التفاوض المستحيل.

ويفرض التحالف البرلماني مفاوضات لتوزيع المناصب من خلال انتخاب رئيس مجلس النواب الجديد، الذي عادة ما يكون نائباً عن الحزب أو الائتلاف البرلماني صاحب غالبية المقاعد، وعادة ما تخضع هذه المرحلة لمحاصصة برلمانية يُسند فيها منصب النائب الأول للكتلة البرلمانية الثانية وتحصل الكتلة الثالثة على منصب النائب الثاني لرئيس البرلمان. وتُعدّ انتخابات رئاسة البرلمان من أصعب الامتحانات التي ستعترض المجلس بتركيبته الجديدة، بعد مسار صعب من المشاورات والتوافقات والتنازلات المبنية على محاصصة برلمانية وفق التمثيل النسبي لحجم الكتل والمجموعات البرلمانية.

ويرى المحلل السياسي عبد المنعم المؤدب، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن المهمة الصعبة لم تنتهِ عند انتخاب برلمان جديد، بل على العكس تماماً فقد انطلقت الصعوبات من هناك بالنظر إلى حجم المسؤوليات والتحديات التي تنتظر النواب الجدد. ويلفت إلى أن فلسفة نظام الحكم البرلماني بُنيت على أحزاب برلمانية قوية، تكوّن تحالفات حاكمة قادرة على تمرير قراراتها وقوانينها بأريحية، غير أن المشهد الذي ستفرزه الانتخابات بسبب النظام الانتخابي المبني على النسبية إلى جانب التشتت السياسي وتراجع الثقة في الأحزاب، سيزيد من حجم الصعوبات وعمقها، وقد يخلق مطبّات دستورية وصراعات منتظرة من أجل فرض هيمنة المجموعات والأقليات. ويضيف أن المشهد البرلماني الحالي سيُشرع "ديكتاتورية الأقليات" التي تتغذى من التشتت والتفتت في المنظومات الفسيفسائية. ويعتبر المؤدب أن المشرع بنى فلسفة الحكم على نظام الأحزاب والائتلافات الانتخابية، ولم يشرع لغالبية مستقلة، بما يجعل تعديل البنود الدستورية بمثابة العقبة التي تنتظر البرلمان المقبل في ظل غياب محكمة دستورية للفصل في النزاعات وفهم البنود الدستورية.



وينطلق البرلمان بعد تجاوز امتحان الرئاسة الجديدة في ترتيب بيته الداخلي بتشكيل مكتب المجلس المكوّن من 10 مساعدين للرئيس، والذي يُعتبر بمثابة الحكومة المسؤولة عن تسيير المؤسسة التشريعية. كما يفترض أن يشكل البرلمان لجانه التشريعية والخاصة، وهي عملية معقّدة تخضع لمحاصصة ومشاورات تستغرق أسابيع من عمر السلطة التشريعية، غير أن الضغط الدستوري يفرض على المجلس الجديد المصادقة على موازنة الدولة للعام 2020 قبل الأجل الدستوري المحدد بـ 10 ديسمبر/ كانون الأول، وعلاوة على ضغط الوقت المحدد بأقل من ثلاثة أسابيع على انطلاق الجلسة الافتتاحية، وهو ما يفرض تشكيل لجنة المالية والتخطيط والموازنة التي يفرض الدستور بدوره إسناد رئاستها لزوماً إلى الكتلة المعارضة.

وينطلق بذلك صراع المعارضين حول زعامة المعارضة البرلمانية للظفر بمنصب رئاسة لجنة الموازنة ومنصب مقرر لجنة الحريات، ويمكن أن تتعطّل أشغال البرلمان وانطلاق عمل لجانه حتى يستقر ائتلاف الحكم ومعارضوه. ومع اتضاح المشهد البرلماني وبنزوع الكتل والأحزاب إلى المعارضة، زاهدة في تركة الحكم الثقيلة وتبعاته، فإن المعارضة البرلمانية ستتحوّل إلى معارضات تجمع الأضداد، مثل التيار الديمقراطي وحركة الشعب اللذين أعلنا ذلك، فضلاً عن إعلان الحزب الحر الدستوري معارضته المطلقة لحزب النهضة، إلى جانب مجموعات لم تفصح عن مواقفها المعارضة في حال توصل النهضة وقلب تونس إلى اتفاق برلماني. وبالتوازي مع ضغط تشكل تحالف برلماني حاكم، يعترض البرلمان الجديد تحدي تشكيل الحكومة الجديدة التي ستخلف حكومة يوسف الشاهد، التي تفترض تشكيل ائتلاف حكومي بتقاسم الحقائب الوزارية. ويفرض الدستور أن يكلف الرئيس الجديد رئيس حكومة يقترح اسمه الحزب صاحب أغلبية المقاعد أو الائتلاف الانتخابي الفائز بصدارة البرلمان، وهو ما يطرح عقبة تجميع الشتات البرلماني، وبناء محاصصة حكومية ترضي جميع أطراف الحزام البرلماني، الذي يفترض جمع أصوات 109 نواب على الأقلّ، ليحصل رئيس الحكومة وفريقه الوزاري على ثقة مجلس النواب خلال شهر، قابل للتمديد مرة وحيدة كما يفترض الدستور في حال فشل تشكيل الحكومة وتجاوز مدة 6 أشهر الدستورية، ما يؤدي إلى حلّ البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية من جديد.

ومن المقرر أن يشرع البرلمان الجديد بعد استقرار الحكومة الجديدة إثر ترتيب بيته الداخلي وتشكيل لجانه وهياكله، في معالجة التركة التشريعية الثقيلة التي خلّفها البرلمان السابق وعمّقتها الفترة الانتقالية، ليجد النواب الجدد أنفسهم أمام عشرات مشاريع القوانين. وعلى الرغم من أهمية المشاريع المطروحة على اختلافها، إلا أن البرلمان سيسارع للمصادقة على القروض التي لا تنتظر طويلاً لارتباطها بآجال والتزامات مع المصارف المانحة والدول المُقرضة، ويُعدّ تمريرها ضرورة لتغذية موازنة الدولة وصرف الرواتب وضخ سيولة في مؤسسات الدولة. إلى ذلك، سيصطدم البرلمان في مطلع العام الجديد بالتزام انتخاب المحكمة الدستورية وبقية الهيئات الدستورية العالقة، التي كانت بمثابة النقطة السوداء في البرلمان السابق، على الرغم من أنه صادق على القوانين المحدثة لهذه الهيئات، إلا أنه فشل في انتخابها.

ويعتبر مدير مشروع المرصد بمنظمة البوصلة، الأمين بن غازي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد" أن هناك ظواهر عدة يجب أن يجد لها البرلمان الجديد حلولاً، لأنها كانت سبباً في تعطّل أعمال المجلس المنتهية ولايته، من بينها ظاهرة الغيابات والتأخير في انطلاق الجلسات العامة إلى جانب ظاهرة السياحة البرلمانية بين الكتل والأحزاب (انتقال النواب من كتلة إلى أخرى)، بالإضافة إلى ضرورة تنقيح النظام الداخلي للمجلس بسبب الصعوبات التي يُمكن تداركها، إلى جانب مسألة لجنة التوافقات التي أصبحت آلية للعمل التشريعي غير منصوص عليها في القانون.

ويرى بن غازي أن المجلس الجديد تنتظره تركة من مشاريع القوانين المؤجلة التي لم يتمكن المجلس التشريعي من المصادقة عليها، مشدّداً على أن الأولوية تتمثل في انتخاب المحكمة الدستورية وبقية الهيئات الدستورية المستقلة إلى جانب تطبيق بقية أحكام الدستور، ومنها باب السلطة المحلية باستكمال المجالس الجهوية لتثبيت مبادئ اللامركزية التي نص عليها الدستور الجديد.