فرنسا: مشاهد العنف المرافقة لـ"حراك السترات" يقابلها تفاؤل ماكرون

فرنسا: مشاهد العنف المرافقة لـ"حراك السترات الصفراء" يقابلها تفاؤل ماكرون

28 يناير 2019
مشاهد العنف "المتبادل" طغت على حراك "السترات الصفراء" (Getty)
+ الخط -
يغطي العنف "المتبادل" بين بعض المتشددين في حركة "السترات الصفراء" وبعض المتحمسين من أفراد قِوى الأمن والدرك، على جوهر الأزمة، فلا تتحدث وسائل الإعلام إلا عنها، قاذفةً بالمواضيع الرئيسية للحراك إلى مستويات ثانوية، بالكاد تُرى.

وقد حدث الأمر مرات عديدة أثناء هذا الحراك المتواصل منذ أكثر من شهرين، فتناقلت وسائل الإعلام صُوَر ما يشبه الحرب الأهلية في الشانزليزيه، ثم صُوَر متظاهرين، ومن بينهم ملاكم سابق معروف يهاجم دركيين، ظهر أنهما لا يستطيعان مواجهته.

ويوم السبت تناقلت وسائل الإعلام صُوَر جيروم رودريغيز، وهو وجه معروف من وجوه السترات الصفراء، الرافضة لعروض الرئيس إيمانويل ماكرون في الحوار الوطني، وقد أصيبَ في عينه اليمنى بسبب طلق من قوات الشرطة.


وهنا تختلف رواية المعني بالأمر ورواية الشرطة، التي دعمها وزير الداخلية كريستوف كاستانير. فرودريغيز، الذي تقدم بشكوى ضد شخص مجهول وضد وزير الداخلية وضد رئيس الجمهورية، وهي الآن بين أيدي "بوليس البوليس"، يتحدث عن "قاذف رصاصات الدفاع"، والذي تسبَّب في فقء عيون كثيرين من المتظاهرين، ويؤكد رودريغيز ومحاميه، فيليب دي فيل، أنه تم تسليم "بوليس البوليس" هذه الرصاصة، وأنها أكدت طبيعتها، بينما يصر كريستوف كاستانير أنه لا يوجد أي دليل يثبت استخدام هذا النوع من السلاح "الدفاعي"، الذي يريد كثيرون في فرنسا، من محامين وسياسيين ورجال قضاء وأطباء، وقف استخدامه، بينما تصر نقابات الشرطة ومعها الوزير على استخدامه، بسبب عدم وجود بديل فعَّال له، لحد الساعة.

وطمأن رودريغيز أنصاره بأنه سيلتحق بهم حين تسمح ظروفه الصحية بذلك، ودعاهم إلى التزام الهدوء، وإلى "تعزيز العمل، من دون عنف".

وليس خافيًا على أحد أن إصابة هذا الوجه المعروف في الحراك، إلى جانب اعتقال بعض وجوه أخرى، ولو أنه يتم عادة إطلاقهم سريعًا، سيبث القوة والإصرار على مواصلة الحراك بين أنصاره، وسيؤيدهم في مواقفهم، وفي تأكيدهم أن الحكومةَ تفضّل الأجوبةَ الأمنية على مَطالب المتظاهرين السلمية.

واستغل بعض السياسيين المعارضين هذا الحدث، ومن بينهم رئيس حزب "فرنسا غير الخاضعة" جان لوك ميلانشون، الذي طالب باستقالة وزير الداخلية قائلًا: "كاستانير عاجزٌ عن مواجهة تنظيم السلام العمومي، وإذن يتوجب عليه الرحيل"، وأضاف: "إنه تجاوز وظائفه حين هدد كل الفرنسيين الذين يخرجون في تظاهرات. وإن وزير الداخلية لا يمكنه أن يقف حجر عثرة في وجه حق دستوري".

كما تدخلت رئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتشدد، مارين لوبان، في النقاش، فدانت ما تسميه: "عمليات بتر للمعارضين السياسيين والاستخدام غير المعقول للقوة من قبل السلطة الماكرونية".


وفي تغريدة للفيلسوف رافائيل غلوكسمان، مؤسس "الساحة - العمومية"، كتب: "الصُوَر رهيبةٌ، وغير جديرة بديمقراطية كفرنسا. لم يَصدُر عن رودريغيز أي تصرف عنيف، ويجد نفسَه مبتورًا إلى الأبد. مهما فكَّر البعض والبعض الآخر، فقد حان الوقت لتسليط الضوء على عنف الدولة هذا، ووضع حدٍّ له".

ومن كان يتصور أن حركة السترات الصفراء ستخفت، لسبب أو لآخر، فإن هذا العنف البوليسي، الذي بدأت وسائل الإعلام تتحدث عنه، بعدما كان شبه "تابو" (إذ لم تكن تتحدث عنه سوى صفحات السترات الصفراء في الفيسبوك)، سيساهم، على العكس، في إذكاء النار، وتحميس المتظاهرين. وهو ما سيظهر أثرُهُ في الجولة الثانية عشرة من الحراك، يوم السبت القادم.

ولم تَغِبْ عن وسائل الإعلام مطالب وصيحات المتظاهرين بالانتقام من قوى الأمن، بينما كان رجال الإسعاف ينقلون الجريح إلى المستشفى.

ويمكن بسهولة تلمس درجة الاحتقان أثناء متابعة تغريدات وفيديوهات جيروم رودريغيز، حيث عشرات الآلاف من المتابعات والتعليقات. وقد أصبح هذا الفرنسي، من أصول برتغالية، رمزًا من رموز الصمود والإيثار والشجاعة، وأصبح بعض أنصاره على قناعة بأن ما وقع متعمَّدٌ، وأن الشرطة أرادت التخلص منه، وهو ما يمكن قراءته في تغريدة لأحد أنصاره، ويدعى راموس: "محاولة قتل تعرض لها أخي جيروم رودريغيز، بين ذراعي، قال لي، باكيًا: لقد فقدتُ عيني".

وتذهب الحماسة، أحيانًا، إلى أبعاد خطيرة، حيث يتحدث البعض عن "إعلان الحكومة للحرب".
ولأن إصابة رودريغيز ليست بالأمر الهين، فقد ساعدت، في اليوم ذاته، على التقاء وجْهَيْن من وجوه السترات الصفراء كانا في حالة خصام وتنافس، وهما إيريك دْرُووي وبريسيلا لودوسكي، وهو لقاءٌ يَعِدُ باستعادة الحراك بعض تجانسه وقوته، خاصة بعد مظاهر النزاع والاختلاف التي رافَقت إعلان تيارات منه عن مشاركتها في الانتخابات الأوروبية القادمة، وهو ما يبدو أن أغلبية المتظاهرين، في تصريحاتهم وبياناتهم، غير مقتنعين بجدواه، في الوقت الراهن على الأقل.

ولأن إصابة جيروم رودريغيز لها ما بعدها، أعلنت صفحات كثيرة للسترات الصفراء على الفيسبوك على الفور تكريس جولتها الثانية عشرة لتكريم ضحايا أكثر من شهرين من الحراك الاجتماعي، وفضح ما تسميه بالعنف البوليسي.

وحتى إنغريد ليفاساسور، وهي على رأس القائمة الانتخابية التي أعلن عنها بعض ناشطي السترات الصفراء، وجدت نفسها في موقف المُنتقدة لما جرى لزميلها رودريغيز، فدانت "كل أنواع العنف"، واستهجنت "إصابة شخص كان يقوم بتصوير التظاهرة".

حرب الرموز مشتعلة إذًا، والوضع لا يبشر بحل سريع، وعودة للمتظاهرين إلى بيوتهم، كما أمل الرئيس ماكرون في خطابه الأخير للفرنسيين، مؤجلة حتى إشعار آخر.

ماكرون بين خيارين


وفي هذه الأثناء، يراقب الرئيس إيمانويل ماكرون مجريات الأحداث، سواء تعلق الأمر بالتظاهرات وما يحدث فيها، أو بالحوار الوطني الكبير، والذي يرى نهايته قريبة، وهو ما سيتوجب عليه اتخاذ قرارات صعبة. ويُقسِم، كما فعل في القاهرة، أثناء زيارته لها، بأنه "سيستخلص النتائج العميقة للحوار". واعترف بأنه ستتمخض عن الحوار "قرارات عميقة في مختلف الحقول، ولا يتعلق الأمر بمجرد إجراء تقني"، ورأى في ما يجري "مرحلة جديدة في إحداث تحولات في البلد".

وهنا يبرز احتمالان رئيسيان؛ هل سيقرر تنظيم استفتاء شعبي للتصديق على نتائج الحوار، وهو ما تريده المعارَضة وبعض تيارات السترات الصفراء، ولكن يعارضه مسؤولون في الأغلبية الحاكمة، وعلى رأسهم رئيس الحكومة، الذي اعترف بأن بدنه يقشعر لمجرد ذكر "استفتاء المبادرة المواطنيّة"؟ وهل سيحُلّ البرلمان، كما تطالب السترات الصفراء والمعارَضة بشتى ألوانها، وهو ما يرفضه الرئيس ماكرون لحد الآن؟

عطفًا على ذلك، تتحدث صحيفة "لوفيغارو"، اليوم الإثنين، عن دعوة بعض مقربين من الرئيس ماكرون إلى عقد مناظرة كبيرة بين الحكومة والشركاء الاجتماعيين (من نقابات وأرباب عمل) وممثلين من المجتمع المدني لحل الأزمة.

إذن، فخيار الرئيس محدودٌ، كما ترى الصحيفة اليمينية، بين "مناظرة وطنية كبرى، أي حوار اجتماعي موسع، وبين اللجوء إلى الاستفتاء"، لا أقل، ولا أكثر.

يصر الرئيس ماكرون، الذي لا يريد أن يفصح كثيرًا عما يدور في خلَده، على أنه "يوجد شيءٌ ما سنخترعه جميعًا من أجل التجديد في كثير من المواضيع"، لكن المعارَضة والسترات الصفراء لم تر، لحد الآن، ما يفصح عن هذا المستجدات.

يجب إذن انتظار 15 مارس/آذار، تاريخ انتهاء شهرين كاملين من الحوار الوطني الكبير، أو ما بعده بقليل.​