مقابر الرقة: جرائم جماعية

مقابر الرقة: جرائم جماعية

23 يناير 2019
تعرّضت الرقة لمجازر عدة (دليل سليمان/فرانس برس)
+ الخط -
تتكشّف يومياً أبعاد المأساة الإنسانية التي عانت منها محافظة الرقة شرقي سورية، طيلة سنوات سيطرة تنظيم "داعش" عليها، والتي انتهت عقب عملية عسكرية واسعة النطاق، قادها التحالف الدولي، في عام 2017، الذي اتبع سياسة "الأرض المحروقة" أو ما سُمّي "السيناريو المتوحش" الذي كان بمثابة عملية إبادة جماعية، مع مقتل وتشريد عشرات الآلاف من المدنيين، ومُحيت أحياء كاملة من أجل سحق التنظيم، الذي قتل هو الآخر عدداً غير معروف من السوريين ودفنهم في أرجاء المحافظة المنكوبة. في هذا الإطار، اكتُشفت مقبرة جديدة في محيط مدينة الرقة تضاف إلى مقابر أخرى مكتشفة، ضمّت رفات آلاف المدنيين، وأكدت مصادر محلية أنه "لا تزال هناك جثث مدفونة تحت أنقاض المدينة التي لا تزال تحت هول الصدمة مما جرى".

وأعلنت لجنة إعادة الإعمار التابعة لـ"مجلس الرقة المدني"، التابع لـ"قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، مساء الإثنين، العثور على مقبرة جماعية في محافظة الرقة، تضم ما بين 600 و800 جثة، موضحة أن "فريق الاستجابة الأولية بدأ بعمليات انتشال الجثث من المقبرة التي تم اكتشافها في قرية الفخيخة بجانب معسكر الطلائع، جنوب غربي مدينة الرقة، الذي كان مقراً للتنظيم، ومركزاً لما كان يُسمّى "أشبال الخلافة".

وأضافت اللجنة على حساباتها الرسمية في مواقع التواصل الاجتماعي أن "مقبرة الفخيخة هي المقبرة الـ 14 من المقابر الجماعية المكتشفة في مدينة الرقة، التي تعرّضت لحملة إبادة من قبل طيران التحالف الدولي في عام 2017 في خضم حملة عسكرية واسعة انتهت في أكتوبر/ تشرين الأول من العام عينه، بانسحاب من بقي من مسلحي تنظيم داعش حيّاً في صفقة مع التحالف الدولي، وسيطرة قوات سورية الديمقراطية عليها منذ ذلك الحين".

وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أعلنت فرق الاستجابة أن "عدد الجثث التي تم انتشالها من كامل المحافظة وصل إلى 3310 جثث، تم التعرف على 550 منها"، موضحة أن "أكبر المقابر التي اكتشفت في الرقة مقبرة البانوراما، التي انتُشل منها أكثر من 900 جثة، وما زالت الفرق تعمل على انتشال المزيد من الجثث منها". مع العلم أنه لم تتعرض مدينة سورية لما تعرضت له مدينة الرقة، التي دفعت ثمن تحويل تنظيم "داعش" لها لمعقل بارز لمسلحيه منذ الأشهر الأولى من عام 2014، مع تمدّد التنظيم في سورية في ذاك العام، والذي تلاه، حتى سيطر على نصف مساحتها. ثم بدأت "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) التي تشكل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي حملة واسعة لانتزاع السيطرة على المدينة في بدايات عام 2017، بدعمٍ جوي من التحالف، الذي دمر ما يربو على 80 في المائة من المدينة، دافناً تحت أنقاضها عشرات آلاف المدنيين في سيناريو مشابه لما جرى في مدينة الموصل شمالي العراق.

وأكدت مصادر محلية لـ "العربي الجديد" أن "مقبرة الفخيخة على الأغلب تضمّ رفات مسلحين ينتمون لتنظيم داعش، قُتلوا قبل بدء العملية العسكرية على الرقة، خصوصاً أن المنطقة التي تضمّ المقبرة خرجت عن سيطرة التنظيم قبل أشهر من خروجه من المدينة"، مشيرة إلى أن "عدداً كبيراً من مسلحي التنظيم قُتلوا أثناء المعارك وكانوا يدفنون في المنطقة الواقعة جنوب النهر الذي يطلق عليها السكان المحليون تسمية (الشامية)". ورجّحت "وجود جثث مدنيين في مقبرة الفخيخة قتلهم التنظيم خلال سنوات سيطرته على المدينة". وأوضحت المصادر أن "قوات سورية الديمقراطية تعطي الجثث المكتشفة أرقاماً وتدفنها بعد ذلك في مدافن خاصة"، مشيرة إلى أن "من المتوقع اكتشاف مقابر جديدة لمدنيين أو لمسلحي التنظيم". وأكدت أن "هناك جثث مدنيين لا تزال تحت أنقاض المنازل والأبنية التي دمّرها طيران التحالف الدولي".

كذلك تمّ اكتشاف مقابر جماعية عدة، ضمن الحدود الإدارية لمحافظة الرقة، ضمّت رفات المئات من المدنيين والعناصر التي كانت تابعة لقوات النظام وقُتلوا على يد تنظيم "داعش". وكانت قوات "قسد" عثرت في إبريل/نيسان 2017، على مقبرة جماعية شرقي مدينة الطبقة، والتي كانت تحت سيطرة "داعش"، حَوَت جثثاً، أكدت مصادر محلية، أنها "لعناصر في قوات النظام السوري قُتلوا في المعارك خلال سيطرة الجيش السوري الحر على الطبقة في عام 2013، إضافة إلى مئات الجثث من عناصر قوات النظام الذين أعدمهم داعش بعد سيطرته على مطار الطبقة منتصف عام 2014". كما عُثر على مقبرة في ريف الطبقة الغربي ضمّت رفات 115 عسكرياً ومدنياً، وكشفت مصادر محلية أن "التنظيم قتلهم خلال فترة سيطرته على المنطقة". ولمدينة الرقة النصيب الأكبر من عدد القتلى على يد التنظيم والتحالف الدولي و"قسد"، في ظل غياب منظمات دولية متخصصة يمكن أن تحقق في ملابسات مقتل هذا العدد الكبير من المدنيين.

في هذا السياق، قال رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، أنور البني لـ"العربي الجديد"، إن "التعامل مع هذه القضايا يتطلب معاينة القاضي وخبراء المحكمة لمكان الجريمة، وهذا غير ممكن بالنسبة للقضاء الأوروبي الذي نحاول أن نفتح لديه ملف الجرائم المرتكبة في سورية". وطالب البني بـ "توثيق الجثث بطريقة محترفة، وتصوير كل شيء"، مضيفاً أنه "يجب دفن الجثث بمكان يمكن الوصول إليه مستقبلاً، وتوثيق شهادات الذين شهدوا الجريمة بطريقة محترفة".

وطالبت مصادر محلية تحدثت لـ"العربي الجديد" بـ"دخول فرق أممية متخصصة إلى الرقة للوقوف على هذه المقابر والتحقيق في أسباب الوفاة، خشية تلاعب قسد بالأدلة والقرائن، لإدانة طرف واحد في المقتلة الكبرى التي شهدتها المدينة".

من جانبه، قال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "القوة المسيطرة على الرقة وهي قوات سورية الديمقراطية، تتحمّل مسؤولية الكشف عن هذه المقابر"، مضيفاً أن "هذه القوات لا تولي الأمر أهمية كافية، لجهة بذل الموارد المادية والبشرية. يجب أن تكون هناك جهات مختصة بالكشف مزوّدة بالمعدات التقنية لهذا الموضوع". وتابع بالقول: "تجيّر هذه القوات كل الدعم الذي يصلها إلى الجانب العسكري أكثر من الجانب المدني. كشف المقابر وتحديد هوية الموجود فيها مسؤولية هذه القوات".

وأشار عبد الغني إلى أن "الشبكة تعمل على إعداد تقرير عن المقابر الجماعية في الرقة"، مضيفاً أنه "تبيّن لدينا وجود 14 مقبرة في محافظة الرقة، تسع منها تم العمل عليها، ومن ثم لا يوجد سجل وأرشفة لكل مقبرة وخاصة لجهة نقل الرفات، وتبيان أين كان وإلى أي جهة نُقل. يجب أن تكون هناك عمليات تشريح للجثث لمعرفة أسباب الوفاة، وتدوين البيانات". ولفت إلى أن "التحالف الدولي ضد تنظيم داعش والداعم الرئيسي لقوات قسد، وبشكل أساسي الجانب الأميركي، يتحمّل جانباً من المسؤولية"، مضيفاً أنه "لم تقم واشنطن بتأسيس مجلس محلي مدني منتخب يتولى الشؤون المدنية ومن ضمنها الاهتمام بمسألة المقابر، لأن الناس يريدون معرفة مصير أبنائهم، فوفق قاعدة البيانات في الشبكة هناك قرابة 8 آلاف مختفٍ قسرياً كانوا لدى التنظيم باتوا مجهولي المصير. وهذه المقابر تكشف ربما مصير جانب من هؤلاء المغيبين، وهذا أمر تتحمل مسؤوليته القوات المسيطرة على الرقة، والداعم لها".

المساهمون